بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
لا نريد هنا أن نتكلم عن مزالق الديمقراطية والمآخذ التي أُخذت عليها كعقيدة وفكرة وطريقة ودين .. فهذا قد تناولناه في كتابنا " حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية " وغيره من الأبحاث والمقالات .. ولكن نود أن نشير إلى الديمقراطية كما تفهمها وتمارسها وتبشر بها راعية وحامية الديمقراطية في العالم " أمريكا "!
مما يُعين على فهم الديمقراطية ـ فتنة العصر ـ وتحديد الموقف منها أن ينظر المرء إلى رعاة ودعاة وحماة الديمقراطية: كيف يفهمون الديمقراطية، وكيف يمارسونها ويطبقونها .. وماذا يريدون من ورائها لشعوبنا وبلادنا!
لا خلاف بين جميع المراقبين العقلاء للمواقف الأمريكية وسياستها أن أمريكا تتخذ من الديمقراطية ذريعة للاستعلاء .. والاعتداء .. والاستيلاء .. والتدخل في شؤون الآخرين!
فالديمقراطية التي تعمل على تحقيق وحماية أطماع أمريكا .. ومصالحها .. وسياساتها الخارجية الداعمة والمؤيدة للصهاينة اليهود المستوطنين في فلسطين .. والمناهضة لأي توجه إسلامي جاد .. أو قوة إسلامية معتبرة .. فهي الديمقراطية المحمودة والمثالية والمتحضرة .. وأيما ديمقراطية تتعارض مع المصالح الأمريكية وأطماعها وسياساتها هذه .. فهي ليست بشيء .. وليست بديمقراطية معتبرة مهما تنادى أصحابها بالديمقراطية ومجدوا بها!
أمريكا تريد الديمقراطية التي تفرق الصفوف، وتشتت الكلمة .. وتُضعف الشوكة .. وذلك في تقسيمها للمجتمع الواحد ـ من بلاد المسلمين ـ المتجانس دينياً وثقافياً إلى عشرات ـ بل ومئات ـ من الأحزاب المتغايرة المتنافرة المتباغضة .. لكي تنتقي ـ فيما بعد ـ من هذه الأحزاب أقربها إلى أهدافها ومصالحها وسياساتها في المنطقة لتتكئ عليها وتُظهرها .. وتهدد بها الأحزاب الأخرى .. وتتخذها وسيلة وذريعة للتدخل في شؤون البلاد والعباد .. على مبدأ فرق تسد .. وهذا كله يتم باسم الديمقراطية .. والعمل من أجل تحقيق الديمقراطية!
أيما بلد أو دولة تخرج عن الطاعة والعبودية الأمريكية .. فأمريكا تملك كل المبررات والمسوغات التي تبرر لها إبادة تلك الدولة وإزالتها من الوجود ـ كما حصل في أفغانستان والعراق ـ باسم الديمقراطية .. والعمل من أجل تحقيق الديمقراطية!
أيما نظام يتعارض مع الأطماع والسياسة الأمريكية ـ ولو اختاره غالبية الشعب ـ فهو
نظام غير ديمقراطي .. تغييره بالقوة فيه وجهة نظر .. وخيار محتمل .. وأيما نظام يسهر على حماية ورعاية المصالح والأهداف الأمريكية .. فهو نظام ديمقراطي متحضر .. وصديق حميم يستحق الدعم والتأييد الأمريكي .. ولو كان قمة في الديكتاتورية والظلم والإرهاب بحق الشعوب .. وما أكثر الأمثلة الدالة على ذلك لو أردنا الاستطراد أو الاستدلال!
لا يحق لأي بلد مسلم أن يملك القوة التي تحرره من التبعية والحاجة لأمريكا أو غيرها من دول الغرب .. وهذا من تمام مبادئ الديمقراطية الأمريكية والغربية .. التي يسهرون على تحقيقها باسم الديمقراطية .. والحفاظ على الديمقراطية!
أيما بلدٍ من بلاد المسلمين يتصرف بطريقة فيها استقلالية .. وسيادة .. وندية للسياسة الأمريكية .. فهو بلد غير ديمقراطي .. وبالتالي فهو عرضة لجميع أنواع العقوبات والتهديدات .. من أجل بسط الديمقراطية فيه من جديد!
لا بأس بقتل عشرات الآلاف من الناس الأبرياء .. بقنابل أمريكية ديمقراطية من نوع ووزن الطُّنِّ فما فوق .. وبالأسلحة الذكية الديمقراطية .. من أجل الديمقراطية .. وتحقيق الديمقراطية!
لا حرج بالصواريخ العابرة للقارات التي تدمر البيوت على ساكنيها الآمنين .. مادامت هذه الصواريخ صواريخ ديمقراطية أمريكية .. قذفت من على البوارج الأمريكية من أجل تحقيق الديمقراطية!
بكل دم بارد .. يدمرون المدن على ساكنيها .. ويقتلون الآلاف من الأبرياء .. ثم يقولون: هذا الذي نفعله من أجل الديمقراطية .. وتحقيق الديمقراطية في البلاد .. فالديمقراطية سلعة غالية ولا بد من التضحية في سبيلها!
تُكمَّم الأفواه .. وتُغلق الصحافة .. ويُقتل الصحفيون .. ويُسجنون .. وتُمنع قنوات البث الفضائية من أداء عملها على الوجه المطلوب .. عندما تتحرك ـ ولو قليلاً ـ في الاتجاه المعاكس للمصالح والسياسة الأمريكية .. وهذا التصرف كله من الديمقراطية .. ومن أجل حماية مكاسب الديمقراطية .. لا تعارض بينه وبين الديمقراطية مادام يصب في خدمة وصالح راعية الديمقراطية أمريكا .. ومادام أن الذي يقوم بكل هذه المصادرات والإجراءات التعسفية هي أمريكا!
لا بأس بالإرهاب ولا حرج فيه ـ ولو كان في أبشع صوره ومعانيه ـ إن كان ضحيته من المسلمين ـ كما هو الحال في فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، والعراق، وكشمير وغيرها من البلدان ـ فهو إرهاب ديمقراطي متحضر ومشروع .. ومن أجل الديمقراطية!
الذي يمارسه الصهاينة اليهود الدخلاء بحق المسلمين من أهل البلد في فلسطين من تقتيل للأبرياء، واغتيالات، وحصارات، وعقوبات جماعية، وتدمير للمنازل .. هو ـ في عرف أمريكا والمجتمع الدولي الغربي الديمقراطي ـ قمة الحق .. وقمة الديمقراطية .. ودولة المستوطنات التي تمارس كل هذا الإرهاب .. هي دولة ديمقراطية متحضرة لا غبار عليها!
أما الذين يُقاومون الاحتلال والغزاة .. أو يفكرون بالمقاومة .. والذود عن أنفسهم وحقوقهم، وحرماتهم .. فهم إرهابيون .. وأعداء للديمقراطية .. وتصرفهم غير ديمقراطي!
انظروا إلى تجربة أمريكا في العراق .. بعد هذا الدمار والخراب الذي أحدثته في البلاد .. وأنهك العباد .. وبعد أن أصاب جنودها النار التي كانت سبباً في اشتعاله .. هاهي تريد أن تنسحب انسحاباً صورياً .. ولكن بعد أن تجد البديل العراقي الذي تثق به وتتكئ عليه في تنفيذ سياساتها والمهام والواجبات نيابة عنها!
صرحت أكثر من مرة أنها لن تسمح بنظام ديني يخالف السياسة الأمريكية .. ويُخالف توجهاتها في المنطقة .. ولو اختاره كل الشعب العراقي .. وأنها لن تسمح إلا بنظام عراقي البشرة أمريكي الجوهر والمعنى .. هذه هي الديمقراطية التي تعنيها وتريدها أمريكا في العراق .. والتي تنشد أن يكون نموذجاً لغيره من البلدان المجاورة!
وهاهي أمريكا اليوم تماطل في الانسحاب .. وتماطل في توكيل من ينوب عنها من الدول في العراق .. إلى أن تتمكن من إيجاد هذا الوليد العراقي الأمريكي المشوه الذي يحقق لها مصالحها وأهدافها من وراء غزوها للعراق .. وهذا كله يتم باسم الديمقراطية .. والسهر على حماية الديمقراطية .. فأمريكا لا تريد للعراق ولشعب العراق إلا الديمقراطية!
تتذرع أمريكا ـ كاذبة ـ بعدم وجود دستور للعراق .. وأن الديمقراطية لم تتحقق بعد .. لذا فمن المبكر الحديث عن الانسحاب والخروج من العراق .. والحقيقة أنها إلى الساعة لم تجد العميل العراقي القوي الذي تستطيع أن تركن إليه .. والذي يقدر على أن يحرس مصالحها نيابة عنها في العراق .. وإلى أن تجده فلن تتأخر ساعة في الخروج .. وإن لم تجده فهي على استعداد أن تمكث السنوات الطوال في العراق ـ مهما كانت تكاليف إقامتها باهظة ـ إلى أن تجد هذا العميل القوي!
أيما دولة من دول المنطقة ـ مهما كانت ديمقراطية ـ لا تعترف بشرعية دولة الصهاينة اليهود في فلسطين .. فهي ـ في نظر أمريكا والمجتمع الدولي الغربي ـ دولة غير ديمقراطية .. وفي محاربتها وغزوها .. وحصارها وحصار شعبها .. وتجويعه .. وجهة نظر .. وهو خيار محتمل ومفتوح، قابل للنقاش!
ما الفرق بين الديمقراطية الأمريكية والديكتاتورية الشيوعية إذا كان كل منهما يبسط نفوذه ونظامه، ويفرضه على الآخرين عن طريق القوة، والإكراه، والدمار، والأسلحة الذكية وغيرها من الأسلحة الغبية .. بل إن ما تمارسه أمريكا ومعها دول الغرب من إجرام وعدوان على حقوق وحرمات الآخرين .. وحصارات تجويع للشعوب والدول من أجل الديمقراطية .. ما لم تفعله الأنظمة الديكتاتورية الشيوعية مع مخالفيها .. وما فعلته أمريكا الديمقراطية في أفغانستان في أيامٍ لم تفعله روسيا الشيوعية الديكتاتورية في أشهرٍ وسنين .. وعدد الأطفال الذين قتلتهم الديمقراطية الأمريكية الغربية بسبب حصارها لشعب العراق .. لم يحصل واحد بالمائة منه على يد النظام البعثي الديكتاتوري!!
فشعار أمريكا ودول الغرب: إما أن تكون مع الديمقراطية وإلا فلك الموت والجوع والفقر .. والحصار .. هو نفس شعار الديكتاتورية الشيوعية: إما أن تكون مع الشيوعية وإلا فلك الموت والجوع والفقر .. إذ لا خيار آخر لك .. لا فرق بين النظامين من حيث طريقة بسط نفوذهما ومن حيث طريقة تعاملهما مع الآخرين والمخالفين .. وإن كانت الطريقة الديمقراطية تبدوا للوهلة الأولى أنها أكثر نعومة ورقة من الطريقة الشيوعية الديكتاتورية.
لذا أقول: لا بد لبني قومي من أن يُراجعوا أنفسهم ومواقفهم من الكذبة الكبيرة الرائجة التي تُسمى بالديمقراطية!
كفاهم انبهاراً بها، وترويجاً لها .. وتحاكماً إليها .. ومناداة بها .. وهم يعلمون أن ليس لهم في الديمقراطية حظ إلا على قدر ما يقدمونه من خضوع وتبعية وخدمة للأسياد حماة الديمقراطية ورعاتها .. ولمخططاتهم!
ليس لهم من الديمقراطية حظ إلا على قدر انسلاخهم من عقيدة الأمة وثقافتها وأخلاقها .. ودخولهم في عقيدة الأسياد ـ أرباب الديمقراطية ـ وثقافاتهم وعاداتهم وأخلاقهم!
مهما كنتم ديمقراطيين فإنكم لن تحصلوا على شهادة أرباب الديمقراطية ورعاتها بأنكم ديمقراطيون حتى يرضوا عنكم .. ولن يرضوا عنكم حتى تتبعوا ملتهم، وتدخلوا في طاعتهم وقوانينهم، وأهوائهم، كما قال تعالى:) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (.
ثم أيما ديمقراطية قد توصل مالا ترضاه أمريكا ولا دول الغرب .. فهي نتيجة مرفوضة ومحاربة .. وغير ديمقراطية .. وفي مدى ديمقراطيتها نظر!
فإن قيل: ما هو البديل .. هل تريد أن تحكمنا الأنظمة الديكتاتورية الفاشية؟!
أقول: نحن لسنا كغيرنا ملزمين بأحد الخيارين: إما الديكتاتورية وإما الديمقراطية .. لا .. ليس هذا ولا ذاك .. فالبديل عندنا موجود .. وهو الإسلام .. ولا شيء غير الإسلام .. وهو دين الله الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ ( . ) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
4/8/1424 هـ. عبد المنعم مصطفى حليمة
30/9/2003م. أبو بصير الطرطوسي