recent
آخر المشاركات

مناقَشَةُ أدِلَّةِ واعترِاضاتِ المخالِفين حولَ العملياتِ الانتحَارِيَّةِ

الصفحة الرئيسية
بسم الله الرحمن الرحيم  
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
بعد أن كتبت مقالي " محاذير العمليات الاستشهادية أو الانتحارية "، وردتني عدة رسائل من إخوانٍ ـ لمسنا منهم الرغبة في إنصاف الحق ومعرفته ـ يسألونني فيها الرد على أدلة واعتراضات المخالفين .. إذ لا يكفي أن أقول عنها بأنها أدلة متشابهة لا تقوى على رد الأدلة المحكمة؛ فهذا ردٌّ مجمل لا تقوم بمثله الحجة .. حيث لا بد من أن أبين وجه التشابه والضعف فيها بشيء من التفصيل[[1]] .. وبعضهم ـ جزاهم الله خيراً ـ أرفق مع رسالته أبحاثاً قد كتبها بعض الإخوان والشيوخ الأفاضل ـ قد اطلعت على أكثرها من قبل ـ تتضمن الرأي المخالف وأدلته، ووجهة النظر المقابلة لما ذهبنا إليه.

          وقبل أن أُجيب الإخوان إلى ما سألوني إياه .. وأناقش أدلة المخالفين .. أود أن أشير إلى جملة من الأمور:

          1- هذه العمليات المسماة بالاستشهادية تُعد ـ من حيث الطريقة والوسيلة المتبعة ـ من النوازل، والمسائل المحدثة .. وهي تحتمل الاجتهاد والاختلاف بين أهل العلم .. وهي من المسائل العملية لا ينبغي أن يترتب عليها ولاء وبراء .. وتخوين وتفسيق وتضليل!
          2- قولي في المسألة بأنها لا تجوز .. قول قديم يعرفه عني القاصي والداني؛ وهو منشور في موقعي منذ أكثر من خمس سنوات في ثنايا الفتاوى .. وليس كما أشاعت بعض وسائل الإعلام والأقلام المغرضة الحاقدة بأنه قول جديد .. وأنه تراجع وانقلاب وانسلاخ .. وبعضهم توسع في سوء الظن؛ فزعم أننا كتبنا مقالنا " محاذير ... " تقية وخوفاً من أن تُدركنا القوانين الجديدة الصادرة عن الحكومة البريطانية .. وهؤلاء كذبوا وظلموا .. فليس مثلي ـ ولله الحمد ـ من يكتب خوفاً أو تقية من مخلوق؛ أياً كان هذا المخلوق .. كما أن الفقرة الأولى من مقالي " محاذير ... " التي تعامَوا عنها عمداً ـ لغرضٍ في نفوسهم! ـ تدحض كذبهم وافتراءهم هذا، حيث قلت:" فقد تكلمت مراراً عن حكم العمليات الاستشهادية أو الانتحارية ـ قبل أكثر من خمس سنوات ـ وفي مواضع عدة من المسائل المتفرقة .. وإلى الساعة لا تزال تتكرر علي نفس الأسئلة من الإخوان .. وعذرهم أنهم لا يستطيعون أن يقفوا على قولي في المسألة المتناثر بين أكثر من ألف سؤال وجواب .. لذا رأيت أن أعيد ما قلته في تلك الفتاوى المتناثرة المتفرقة في مقال واحد .. وبشيء من التفصيل، ليسهل مراجعته والوقوف عليه لمن يشاء "ا- هـ. هذا الذي قلته .. وهذا الذي تعمدوا غض الطرف عنه .. ليسهل عليهم حبك الكذب والفتنة والافتراء!
          3- العلم لا يُحابي ولا يُجامل أحداً .. والحقّ أحب لنفوسنا مما سواه .. إنصافه من أنفسنا ومما نحب ومن نحب ونهوى واجب ودين .. وهو مطلب وغاية المؤمنين الصادقين .. هذه مبادئ وتعاليم تُعد من بدهيات منهجنا وديننا الحنيف .. لا ينبغي أن نغفل عنها ونحن في غمرة الجدال، والتعصب لفلان، أو علاَّن!
          4- من فضل الله علي أنني ـ ولله الحمد ـ عندما أكتب أو أقول .. أو أفعل شيئاً لا أراعي ماذا يريده المستمعون .. أو الجماهير الغاضبة .. أو وسائل الإعلام .. أو الطواغيت الظالمون .. أو كيف أصرف إلي وجوه الناس بما يحبون ويهوون ولو على حساب الحق .. لا؛ هذا لا يخطر لذهني قط .. وهو ليس من خُلقي ولا عادتي .. وإنما الذي أراعيه أشد المراعاة وأضعه نصب عيني دائماً: ماذا يريد مني ربي سبحانه وتعالى .. وما الذي يقربني إليه .. ويرضيه عني .. ولو كان في ذلك سخط الأرض ومن فيها من أنس وجن!
          مهمتي وعملي .. الدعوة إلى الله تعالى .. وأن أصلح الناس إذا ما فسدوا وانحرفوا عن جادة الحق والصواب .. لا أن أجاملهم وأواكبهم على باطلهم وانحرافاتهم .. أو أُشاركهم خرق السفينة إذا ما شاءوا خرقها .. وهذا من مقتضيات الأمانة الملقاة على عاتقنا .. والتي سنُسألُ عنها يوم القيامة .. نسأل الله تعالى العون، والثبات، وحسن الختام، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا الضعيفة طرفة عين.
          5- الحق وكذلك العدل رحمة للعالمين .. ينتفع به ومنه الأنس والجن، كافرهم ومؤمنهم .. حتى الدواب، والحشرات، والنباتات .. تنتفع من الحكم بالحق والعدل .. وبالتالي ليس كل عدل أو حق قد ينتفع منه الكافر بوجه من الوجوه .. يستدعي ذلك منا كفران الحق وجحوده وإخفائه وكتمانه .. لا؛ هذا ليس من أخلاقنا .. وإنما هو من أخلاق أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كتموا ما في الكتاب وما أنزل الله على أنبيائهم من الحق .. فمن عظمة ديننا الحنيف أنه يأمر بالعدل والإحسان مع أتباعه وأعدائه سواء .. يُنصف أعداءه من الكافرين كما يُنصف أتباعه من المؤمنين .. بل ويُنصفهم من المؤمنين إن استدعى الأمر للانتصاف، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة:8.
          6- قد يتسلط أهل الأهواء والبدع .. على كلماتنا .. وعلى المتشابه من كلامنا .. كما تسلطوا على كلام غيرنا من قبل .. فيحرفونه عن مواضعه ومراده لغرض خبيث في نفوسهم .. ولكن هذا لا يسوِّغ لنا الصمت .. وعدم الصدع بالحق .. بحجة وجود فريق من أهل الأهواء والضلال قد يحرِّفون هذا الحق عن مراده ومعناه .. وإلا لصمَت أهل العلم من قبلنا كلهم .. ولما وصلَنا منهم علماً ولا حقاً .. والحل في مثل هذه الحالات أن يأخذ الناس الخبر أو المعلومة أو الفتوى من مصادرها الصادقة ومن أصحابها .. لا من مصادر أهل الهوى والزيغ والضلال .. ومن يأبى؛ فقد آثر تصديق الكذب واتباع الكذابين الوضَّاعِين .. ولا يلومنَّ حينئذٍ إلا نفسه!
          فإن عُلم هذا الذي تقدم .. ننصرف الآن ـ بإذن الله تعالى متوكلين عليه ومستعينين به ـ لنجيب عما سُئلنا عنه .. ولنناقش أدلة المخالفين واعتراضاتهم .. دليلاً دليلاً .. واعتراضاً اعتراضاً!
          فأقول: فقد اطلعت على أدلة المخالفين .. فألفيتها لا تخرج عن الأدلة التالية:
          الدليل الأول: قالوا من أقوى الأدلة التي تبيح العمليات الاستشهادية، وأن يقتل المرء نفسه
بنفسه لغرض إنزال النكاية في العدو، قوله تعالى:) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (الأنعام:151.
ونقلوا عن الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز أنه كان لا يرى جواز العمليات الاستشهادية لعدم عثوره على دليل نصي صريح يخرجها عن حكم الانتحار، وأنه تفكر فيها طويلاً, حتى وجد دليل جوازها في قوله تعالى:) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقّ (، وجهاد الأعداء ونكايتهم من أحق الحق!
الرد: أقول بناءً على ما نقلوه عن الشيخ عبد القادر فإن الشيخ متفق معنا بأن جميع الأدلة الأخرى ـ التي سنأتي على مناقشتها بإذن الله ـ لا تفيد جواز العمليات الاستشهادية، وهي لا تُخرجها عن حكم ووصف الانتحار .. إلا هذا الدليل الوحيد:) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقّ (، الذي انفرد الشيخ في فهمه، والاستدلال به على المسألة!
ولكن هل حقاً في هذه الآية دليل على جواز العمليات ..؟!
أقول: لا؛ ليس فيها دليل على جواز العمليات المسماة بالاستشهادية؛ وذلك أن الآية بإجماع المفسرين المراد فيها إقامة حد القتل، الذي يقيمه السلطان المسلم على من يستحقه شرعاً من الجناة .. وقتل ومحاربة من يستحق القتل شرعاً من الأعداء المحاربين والمارقين .. فالقاتل هنا الذي يُباشر مهمة إقامة الحد أو القتل هو السلطان المسلم، ومن ينوب عنه .. والمقتول المقام عليه حد القتل شخص آخر قد ارتكب ما يستوجب عليه القتل شرعاً!
ويُقال كذلك: أن قتل القاتل بغير حق، وإقامة حد القتل عليه من أحقِّ الحق .. ومع ذلك لا يجوز للقاتل ـ باتفاق أهل العلم ـ أن يقتل نفسه بنفسه، وأن يُقيم حدَّ القتل على نفسه بنفسه!
ويُقال كذلك: هذا الفهم الشاذ الذي انفرد به الشيخ عبد القادر .. لم يسبقه إليه سلف ولا خلف معتبر .. وليس بمثل هذا الشذوذ والانفراد في الفهم، تُرد الأدلة المحكمة، وتُزهق الأنفس والأرواح، وتجوز المغامرة!
ومنه نعلم أن الآية ودلالاتها في وادٍ .. والمسألة المستدل عليها في وادٍ آخر .. وأن الآية المستدل بها على جواز العمليات ـ والتي يعدها المخالف من أقوى الأدلة إن لم تكن أقواها ـ لا ترقى لأن تكون دليلاً متشابهاً .. فضلاً عن أن تكون دليلاً صريحاً على المسألة، وعلى جواز العمليات المسماة بالاستشهادية!
أبمثل هذا الدليل الذي هو أقل من أن يكون متشابهاً في دلالته .. تُرد وتُقيد الأدلة المحكمة
التي تُحرم قتل المرء لنفسه بنفسه .. وتعد ذلك من الانتحار .. وكبائر الذنوب؟!
الدليل الثاني: قالوا قصة الغلام المؤمن مع الطاغية الملك؛ حيث دله على الطريقة التي يمكنه أن يقتله بها؛ فكان بذلك كمن قتل نفسه بنفسه .. وبالتالي فهو دليل على جواز العمليات المسماة بالاستشهادية!
الرد: أقول وهذا من أقوى ما استدلوا به على قولهم في المسألة .. ومع ذلك فهو متشابه في دلالته على جواز العمليات المسماة بالاستشهادية .. ووجه التشابه يأتي من جهات عدة:
منها: أن قصة الغلام مع الطاغية الملك قصة استثنائية خاصة لم تحصل ولم تتكرر في التاريخ كله .. والذي فعله الغلام كان لنوع إلهام أو وحي أوحي إليه أن افعل كذا وكذا .. ولا أظن أن أحداً ـ من غير وحي ـ يستطيع أن يقول لطاغية ظالم لا سلطان لك علي .. ولا يمكنك قتلي ـ مهما فعلت وسلطن علي جندك ـ إلا من خلال طريقة معينة ومحددة ..... والعمليات الانتحارية ليست كذلك!
ومنها: أن هذه الطريقة التي دل الغلامُ الملكَ عليها، من مقاصدها وغاياتها الإثبات للملك، ولحاشيته، ووزرائه، والناس .. بأن الملك ليس رباً كما يزعم .. وأنه عاجز وضعيف لا يملك نفعاً ولا ضراً ..وهو لا يقدر على أن يقتل من يشاء رغم ما أوتي من قوة وجبروت .. وأن الأرواح بيد خالقها ومالكها الذي يُحيي ويُميت .. وأن الملِكَ إن أراد قتلي لا بد من أن يستأذن الخالق المالك لروحي وأرواح الناس جميعاً؛ واستئذان الخالق سبحانه وتعالى يكون بقول الملك، بعد أن يجمع الناس في صعيدٍ واحد ليشاهدوا المشهد:" باسم الله، رب الغلام "، فإن فعل ذلك قتله .. وإن لم يفعل ذلك؛ لا يستطيع قتله .. ولا سلطان له عليه .. مهما حاول .. وهذا مقصد عظيم ومهم جداً إذ كان الناس يومئذٍ يعتقدون أن الملك رباً لهم وله سلطان على أرواح العباد، يستطيع أن يُحيي ويُميت ممن يشاء  .. والعمليات الانتحارية ليست كذلك، ولا من مقاصدها شيء من ذلك!
ومنها: أن الطريقة التي قُتِل فيها الغلام .. كانت سبباً لهداية أمة بكاملها .. وسبباً في إخراج العباد من ظلمات الشرك وعبادة الطاغوت إلى نور التوحيد وعبادة الخالق سبحانه وتعالى .. وكان الغلام ـ عن طريق الوحي ـ على علم بذلك .. وعلى علم بهذه النتيجة العظيمة المحقَّقة .. لذلك كان مصراً على الطريقة الوحيدة التي دل الملِكَ عليها .. والتي من خلالها تتحقق هذه المنافع العظام التي لا تقابلها منفعة ولا مصلحة .. وقد جاء في الحديث الصحيح أن الغلام لما مات:" قال الناسُ: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. فأتى الملك، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد، والله! نزل بك
حذرك؛ قد آمن الناس .. " ......... والعمليات الانتحارية ليست شيئاً من ذلك!
ومنها: رغم أن أمة الإسلام أمة الجهاد والاستشهاد .. قد خاضت آلاف المعارك عبر تاريخها المعطاء .. ومع ذلك لم يستنبط فقهاء الإسلام من قصة الغلام مع الملك ما فهمه بعض المعاصرين من كون هذه القصة تُعتبر دليلاً على جواز قتل المرء لنفسه بنفسه من أجل النكاية بالعدو .. والخير كله .. والسلامة كلها تكمن في اتباع السلف وفهم السلف .. لا الابتداع .. وبخاصة إن كان هذا الابتداع ذا صلة بالحرمات والدماء، وزهق الأرواح!
ومنها: يُقال بعد كل ذلك أن الغلام لم يَقتل نفسه بنفسه .. وإنما قُتِل على يد الطاغية الملِك .. بينما في العمليات الانتحارية يقتل المرء نفسه بنفسه.
ومنها: أن القاتل الذي يجب أن يُقتل حداً .. لو سلَّم نفسه للقضاء الشرعي ليقيموا عليه حد القتل .. لا يُقال له قد قتل نفسه بنفسه .. ومثله مثل من يقتل نفسه بنفسه .. وبالتالي يجوز له أن يقتل نفسه بنفسه، ويُقيم حد القتل على نفسه بنفسه .. وكذلك يُقال في قصة الغلام؛ فهو إذ دل الملِك على الطريقة التي يُقتل فيها ـ للمصالح الآنفة الذكر ـ لا يعني ولا يجوز أن يُقال أنه قتل نفسه بنفسه، وحكمه حكم من يقتل نفسه بنفسه .. كما فهم البعض!
من خلال هذا الذي تقدم ندرك أن قصة الغلام مع الملك ودلالاتها في واد .. والعمليات الانتحارية المستدل عليها في وادٍ آخر .. وأكثر ما يُمكن أن يُقال في قصة الغلام مع الملك .. أنها متشابهة في دلالتها على جواز العمليات الانتحارية .. والمتشابه ـ كما ذكرنا في مقالنا محاذير .. ـ لا يقوى على مقابلة أو رد أو تخصيص أو تقييد المحكم؛ الذي يكمن هنا في حرمة الانتحار، وحرمة قتل المرء لنفسه بنفسه!
الدليل الثالث: قاسوا قتل المرء لنفسه بنفسه لغرض الجهاد ومصالحه .. على جواز قتل الترس المسلم لغرض الجهاد ومصالحه؛ فقالوا قد نص العلماء على جواز قتل الترس ـ المتترَّس به ـ من ذوي الأنفس المعصومة من المسلمين .. من أجل رد عدوان العدو .. وإذا جاز قتل الترس لغرض الجهاد ومصالحه .. جاز للمرء المسلم أن يقتل نفسه بنفسه ـ كما في العمليات المسماة بالاستشهادية ـ لغرض الجهاد ومصالحه؛ لتساويهما في الحرمة والقيمة!
الرد: أقول: هذا قياس فاسد .. لعدم تطابق المقيس على المقيس عليه .. لا يصلح للاستدلال على جواز العمليات الانتحارية، وذلك من أوجه:
منها: أن قتل الترس يخضع لشروط وقيود لا تتوفر في العمليات الانتحارية، قال القرطبي في التفسير 8/563: قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله؛ وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية؛ فمعنى كونها ضرورية: أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس، ومعنى أنها كلية: أنها قاطعة لكل الأمة؛ حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة، ومعنى كونها قطعية: أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعاً .."، يُضاف إلى ذلك كله شرط استحالة رد عدوان العدو من غير جهة الترس .. بهذه القيود والشروط يجوز العمل بفقه مسألة الترس .. والعمليات الانتحارية أو المسماة بالاستشهادية ـ كما هو مشاهد ـ لا تلتزم ولا تراعي شيئاً من تلك القيود والشروط .. وبالتالي لا يجوز قياسها على مسألة الترس!
ومنها: أن الترس يُقتل على يد غيره، وكونه مقتول على يد غيره ولا بد لا يعني أنه يجوز له أن يُباشر قتل نفسه بنفسه، ليفوت على العدو استغلاله كورقة ضغط على المسلمين .. بينما في العمليات الانتحارية المرء يقتل نفسه بنفسه!
ومنها: أن الأمة الإسلامية رغم حاجتها الشديدة إلى الاستفادة من كل جزئية من جزئيات فقه الجهاد .. لأنها أمة جهاد وقتال .. إلا أن سلفنا الصالح لم يهتدوا لهذا الفقه .. وهذا القياس الشاذ على مسألة الترس .. وهذا لا يعني قصورهم عن الفهم والاجتهاد في فهم دلالات النصوص .. لا؛ حاشاهم ذلك .. وإنما يعني شذوذ وضعف هذا الفهم الذي انفرد به بعض المتأخرين المعاصرين. 
ومنها: أن قولهم " لتساويهما في الحرمة والقيمة "؛ أي الذي يُقتل على يد غيره من الترس، والذي يقتل نفسه بنفسه لغرض ومصلحة الجهاد .. ليس صحيحاً على إطلاقه؛ فهما إن تساويا من حيث الحرمة كأنفس معصومة، إلا أنهما يفترقا من حيث المرتبة والدرجة والقيمة ووجوه أخرى؛ فليس المجاهد الحر الذي يصول في ساحات الجهاد والقتال، كالقاعدين، أو كالقاعدين المتخلفين، أو كالقاعدين من عوام الناس ممن قد يكونون ترساً للعدو .. لا يستويان مثلاً، كما قال تعالى:) لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (النساء:95. هذا بالنسبة للقاعدين المعذورين فما بالك بالقاعدين غير المعذورين .. فالمجاهد بألف منهم!
          وقال تعالى:) لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (الحديد:10. وهذا التفاوت في المرتبة والدرجة والقيمة بين من أنفق وقاتل قبل الفتح وبين من أنفق وقاتل بعد الفتح .. فكيف بمن لم ينفق ولم يُقاتل في سبيل الله مطلقاً ورضي أن يكون مع الخوالف .. فالمفاضلة حينئذٍ شاسعة وواسعة!
كما أن السنة قد دلت أن حرمة المجاهد الذي يخرج للجهاد في سبيل الله .. وحرمة عِرضه أشد وأغلظ حرمة من حرمة القاعدين .. والمتخلفين .. وحرمة أعراضهم .. ومنه نعلم أنه لا يُسلَّم بقول المخالفين بأنهما يستويان قيمة وحرمة ومرتبة من كل الوجوه .. وبالتالي كما يجوز قتل هذا لمصلحة الجهاد .. يجوز للآخر أن يَقتل نفسه بنفسه لمصلحة الجهاد .. ويُقاس هذا على ذاك .. كما فعلوا!!
لذلك عندما قلنا أن هذا الدليل متشابه لا ينهض .. ولا يصلح للاستدلال على المسألة .. فما ظلمنا المخالفين .. وكنا نعني ما نقول!
الدليل الرابع: قد أكثروا في ردودهم من ذكر الأدلة الدالة على جواز الانغماس والاقتحام في صفوف العدو لمصلحة راجحة من مصالح الجهاد .. ثم قاسوا الذي يقتل نفسه بنفسه في العمليات الانتحارية .. على تلك الأدلة والحالات التي تُجيز الانغماس في صفوف العدو لمصلحة راجحة من مصالح الجهاد!
الرد: أقول الأدلة الدالة على جواز الانغماس في صفوف العدو لمصلحة راجحة من مصالح الجهاد حق، والعمل بمقتضاها حق .. ولكن الانغماس شيء، وكون المرء يقتل نفسه بنفسه كما في العمليات الانتحارية شيء آخر؛ لا يجوز قياس أحدهما على الآخر، وذلك من وجوه:
منها: أن المنغمس يُقتَل على يد عدوه، بينما صاحب العمليات الانتحارية يَقتل نفسه بنفسه .. فلا يستويان مثلاً!
ومنها: أن قتل المنغمس في صفوف العدو ظنيٌ غير متيقن؛ إذ كثير ممن ينغمسون في صفوف العدو، فيفرقون جمعهم .. وينجحون في مهمتهم .. ثم لا يُقتَلون .. وما أكثر الشواهد من التاريخ الإسلامي الجهادي الدالة على ذلك .. بينما الذي يفجر نفسه في عملية انتحارية قتله لنفسه بنفسه متحقق ويقيني .. فلا يستويان مثلاً! 
ومنها: أن هذا القياس فقه محدث .. لم يسبقنا إليه سلف معتبر .. ولا يُقال هنا أن سلفنا لم يكن لديهم متفجرات ليقيسوا هذا على ذاك .. فوسائل قتل النفس بالنفس هي أكثر من أن تُحصر .. وهي متوفرة في كل عصر ومصر .. ولو جاز للمرء أن يقتل نفسه بنفسه لغرض من أغراض الجهاد لوجد لسلفنا الصالح قول حول ذلك ولا بد .. وبخاصة أنهم لم يدعوا شاردة ولا ورادة مهما دقت وخفيت مما يتعلق بفقه الجهاد إلا وقد خاضوا فيها وبينوها!
ومنه نعلم أن أدلة الانغماس لا تقوى ولا تصلح كدليل على جواز قتل المرء لنفسه بنفسه لغرض من أغراض الجهاد .. وهي متشابهة في دلالتها على المسألة، والله تعالى أعلم.
اعتراض: قالوا: الذي يقوم بالعمليات المسماة بالاستشهادية .. لا يقتل نفسه بنفسه ضجراً من الدنيا أو رغبة في التخلص من ألم عارض انتابه .. وإنما يفعل ذلك لغرض إنزال النكاية في العدو .. وطلباً للشهادة في سبيل الله .. وبالتالي فالآيات والأحاديث التي تُحرِّم وتُجرِّم من يقتل نفسه بنفسه تُحمل على الأول لا الآخر؟!
الرد: أقول أيما عمل تعبدي يُراد به التقرب إلى الله تعالى لا بد له من شرطين، لا يُغنِي أحدهما عن الآخر: أن يكون العمل خالصاً لله تعالى وحده .. وأن يكون موافقاً للسنة تتحقق في صفة الاتباع للشريعة وأحكامها .. لا صفة الابتداع والإحداث؛ فمن عبد الله تعالى بغير ما أذن وشرع وأمر فعبادته رد عليه وإن تحققت فيه صفة الإخلاص، كما قال تعالى:) فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً (؛ أي موافقاً للسنة وأحكام الشريعة، ) وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (الكهف:110. أي مراعياً شرط الإخلاص فيما يقوم به من عمل صالح.
وقال تعالى:) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (الملك:2. قال أهل العلم: أي أيهم أصوب وأخلص عملاً.
والعمل الجهادي لا يخرج عن هذين الشرطين؛ إذ لا يكفي أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى .. فهو مع ذلك يجب أن يكون وفق السنة، ووفق أحكام الشريعة، ولو اختل أحد الشرطين رُد العمل على صاحبه خائباً خاسراً!
أخرج محمد بن وضاح القرطبي في كتابه " البدع والنهي عنها "، عن أبي عبيدة بن حذيفة، قال: جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري قاعد، فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسفه غضباً لله حتى قُتِل، أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة. قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول! قال أبو موسى: سبحان الله! كيف قلت؟ قال: قلتُ رجلاً ضرب بسيفه غضباً لله حتى قُتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة. قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول! حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة، قال: والله لا تستفهمه، فدعا به حذيفة، فقال: رويدك، إن صاحبكَ لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحقَّ حتى يُقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يُصب الحق، ولم يوفِّقه الله للحق فهو في النار. ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلنَّ النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا.
قال الحسن البصري: فإذا بالقوم قد ضربوا بأسيافهم على البدع! 
اعتراض آخر: قالوا: ولكن قولك في المسألة الذي رجحته ليس لصالح الجهاد والمجاهدين .. وإنما يصب في مصلحة أعدائهم؟!
          الرد: أقول: المهم أولاً هو حكم الشرع في المسألة .. فحيث يحكم الشرع تكون المصلحة الراجحة .. وحيثما تكون المخالفة لحكم الشرع .. تغيب المصلحة وتتحقق المفسدة، علمنا بذلك أم لم نعلم ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (البقرة:132.
وأقول كذلك: بل قولي في المسألة ـ إضافة إلى ما تقدم ـ هو الذي تكمن فيه المصلحة الراجحة للجهاد والمجاهدين .. ولسمعة ومكانة الجهاد كمبدأ عظيم من مبادئ الإسلام .. وهو الذي أعتقده وأوقن به .. وهو من جملة الأسباب التي حملتني على الخوض في المسألة ومنذ زمن ليس بالقريب .. وليعلم الجميع أننا لا نرضى ولا نقبل أن يتحول شباب التوحيد والجهاد في الأمة ـ على قلتهم وندرتهم ـ إلى محرقة العمليات الانتحارية ـ فنُسِرُّ بذلك الأعداءَ ونقدم لهم أثمن هدية ومن دون مقابل يُذكَر علمنا بذلك أم لم نعلم ـ  وكأنه لا وسيلة للجهاد وإحياء فريضة الجهاد إلا من خلال هذه الوسيلة المتشابهة المثيرة للجدل والاختلاف بين المسلمين!
التضحية المتيقنة بشابٍّ من شباب التوحيد والجهاد ـ الذين قد لا يتجاوز تعدادهم المئات أو بضعة آلاف ـ مقابل شخصٍ أو شخصين .. أو جرح عددٍ لا يتجاوزون أصابع الكف الواحد من قوات العدو ـ التي يتجاوز تعداد أفرادها مئات الملايين ـ من خلال عملية من تلك العمليات الانتحارية التفجيرية .. أترون في هذا العمل وهذه النتيجة ـ من الناحية الاستراتيجية العسكرية، ومن حيث الربح والخسارة ـ مصلحة راجحة للجهاد والمجاهدين .. مالكم كيف تحكمون؟!!
ألهذا الحد هان عليكم شباب التوحيد والجهاد .. صفوة الأمة .. وقَلَّ ثمنهم؟!
ثم لنا أن نسأل: قد أجاز المخالفون هذه العمليات وفق قيود وشروط محددة:
منها: أن تكون استثنائية، وأن لا يُلتجأ إليها إلا لضرورة ملحة تقتضيها مصلحة راجحة من مصالح الجهاد، في ظرف من الظروف.
ومنها: أن تكون المصلحة من ورائها راجحة ومحققة؛ أي غير ظنية!
ومنها: أن تكون المصلحة من ورائها عامة لجميع المسلمين.
ومنها: أن تحقق نكاية بليغة بالعدو.
ومنها: انعدام إمكانية تحقيق هذه النكاية إلا من خلال هذا العمل.
ومنها: أن لا تؤدي إلى زهق الأنفس البريئة المعصومة شرعاً، التي لا تدخل تحت حكم مسألة الترس والتترس.
ومنها: إضافة إلى جميع ما تقدم أن يكون الباعث على العمل التضحية الإخلاص، والجهاد في سبيل الله، وأن تكون كلمة الله هي العليا .. وليس أي غرض أو باعث آخر.
هذه هي شروط الطرف المجيز لهذه العمليات من أهل العلم المعاصرين .. والتي على أساس الالتزام بها أجازوا هذه العمليات .. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الذين يقومون بالعمليات الانتحارية ـ كما نشاهدها ونعايشها ونسمع بها ـ يحققون ويلتزمون بهذه الشروط والقيود .. وكم عدد ونسبة تلك العمليات التي تلتزم بهذه القيود والشروط .. من مجموع العمليات؟!
سيأتي الجواب محرجاً جداً: أن أكثر من تسعين بالمائة من تلك العمليات ربما قد لا تتحقق فيها مجموع تلك الشروط والقيود .. وبالتالي لا يجوز نسب القول بجواز ومشروعية هذه العمليات إلى العلماء والمشايخ المعاصرين الذين أجازوا هذه العمليات بشروطهم وقيودهم!
وهذا مدعاة كذلك لهذا الفريق من العلماء المعاصرين الذين أفتوا بالجواز وفق شروطهم وقيودهم .. أن يراجعوا فتاواهم عندما يجدوا أن الفتوى قد تُفهم خطأ .. وقد تُمارس خطأ .. وقد توضع في غير موضعها الصحيح .. وقد تُستغل من أطراف لا يعرفون شيئاً عن قيودهم وشروطهم ولا يلقون لها بالاً .. كما هو ملاحظ في كثير من الأحيان!
بهذا أرد وأجيب عن أدلة واعتراضات المخالفين .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

20/8/1426 هـ.                             عبد المنعم مصطفى حليمة 

23/9/2005 م.                                  أبو بصير الطرطوسي


ـ تنبيه: لكي يكون القارئ على بينة من مجموع قولنا في المسألة لا بد له ـ إضافة لهذا المقال ـ من أن يقف على مقالنا الآخر " محاذير العمليات الاستشهادية أو الانتحارية ".



ـ ملحق: كنت أحسب في مقالي أعلاه " مناقشة أدلة واعتراضات المخالفين حول العمليات الانتحارية " قد رددت على جميع أدلة وشبهات واعتراضات المخالفين .. إلا أنه قد تبين لي أن هناك شبه واعتراضات  جديدة حول الموضوع تُثار بين الفينة والأخرى ـ تشوش على بعض الشباب المسلم ـ مقالي أعلاه لم يتضمن الرد عليها .. من هذه الشبه والاعتراضات والاستدلالات ما ورد ذكره في السؤال أدناه .. لذا فاستحسنت ذكره والرد عليه، ومن ثم إضافته كملحق إلى هذا المقال ليكون شاملاً لجميع أدلة واعتراضات المخالفين، والرد عليها، والله تعالى الهادي والموفق إلى سواء السبيل.
السؤال: هناك من يحتج على جواز العمليات المسماة بالاستشهادية بقوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (النساء:29-30.
فقالوا: مفهوم الآية أن من قتل نفسه بنفسه من غير عدوانٍ ولا ظلم فهذا لا يطاله الوعيد؛ بل له أجر .. وإنما الوعيد يطال فقط من يقتل نفسه عدواناً وظلماً .. وقد راجعنا مقالك " محاذير العمليات الاستشهادية أو الانتحارية " وكذلك مقالك:" مناقشة أدلة واعتراضات المخالفين حول العمليات الانتحارية "، فلم نجد جواباً يرد على هذا الفهم أو الاستدلال بجواز العمليات المسماة بالاستشهادية .. فما ردكم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. لم نرد على هذا الفهم أو الاستدلال لأنه أضعف الأدلة على ما اختُلِف فيه، ولأنني لم أكن أتوقع أن يستدل به مخالف معتبر على القول بجواز تلك العمليات المستحدثة والمسماة بالاستشهادية أو الانتحارية .. لخلو الآيات الكريمة الوارد ذكرها أعلاه في السؤال من أي معنى يُفيد جواز تلك العمليات، أو يُعين على مثل هذا الاستدلال أو الفهم، بل هي من جملة الأدلة التي يُمكن الاستدلال بها على القول بحرمة تلك العمليات، وبيان ذلك من أوجه:
منها: أن هذا الفهم والاستدلال الوارد في السؤال أعلاه لم يقل به عالم ولا مفسر معتبر.
ومنها: أن أقوال العلماء والمفسرين دلت على خلاف هذا الفهم الوارد في السؤال أعلاه، وإليك بعض أقولهم:
قال ابن جرير الطبري في التفسير: يعني بقوله جلّ ثناؤه:) وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ (ولا يقتل بعضكم بعضاً, وأنتم أهل ملة واحدة, ودعوة واحدة ودين واحد فجعل جلّ ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعض, وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه, إذ كان القاتل والمقتول أهل يد واحدة على من خالف ملتهما. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.( ثم نقل نحو هذا القول عن السديّ، وعطاء بن أبي رباح ).
ثم قال: القول في تأويل قوله تعالى:) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً (.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً ( فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن يقتل نفسه, بمعنى: ومن يقتل أخاه المؤمن عدواناً وظلماً ) فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً (.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يفعل ما حرّمته عليه من أوّل هذه السورة إلى قوله: ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلكَ ( من نكاح من حرّمت نكاحه, وتعدّى حدوده, وأكل أموال الأيتام ظلماً, وقتل النفس المحرّم قتلها ظلما بغير حقّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يأكل مال أخيه المسلم ظلماً بغير طيب نفس منه وقتل أخاه المؤمن ظلماً, فسوف نصليه ناراً.
وأما قوله:) عُدْوَاناً (فإنه يعني به: تجاوزاً لما أباح الله له إلى ما حرّمه عليه, ) وَظُلْماً ( يعني: فعلاً منه ذلك بغير ما أذن الله به, وركوباً منه ما قد نهاه الله عنه. وقوله:) فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( يقول: فسوف نورده نارا يصلي بها فيحترق فيهاا- هـ.
فابن جرير الطبري رحمه الله على علمه وسعة اطلاعه بأقوال المفسرين لم يشر إلى أن أحداً منهم قد ذهب إلى ما ذهب إليه المخالفون في سؤالهم.
وبنحو قول ابن جرير الطبري قال غالب المفسرين، قال ابن كثير:) وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (؛ أي بارتكاب محارم الله, وتعاطي معاصيه, وأكل أموالكم بينكم بالباطل ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (؛ أي فيما أمركم به ونهاكم عنه.
) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً (؛ أي ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فيه ظالماً في تعاطيه أي عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه ) فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( الآية, وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد, فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد ا- هـ.
وقال القرطبي في التفسير:" قوله تعالى:) وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (؛ أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً ا- هـ. فهنا ينقل القرطبي إجماع أهل التفسير والتأويل على أن المراد من الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً؛ أي لا أحد منهم قد فهم ما فهمه المخالفون من الآية!
ثم قال: ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال:) وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ( في حال ضجر أو غضب؛ فهذا كله يتناول النهي. وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفاً على نفسه منه؛ فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئاً.
) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً (؛ والعدوان تجاوز الحد. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم. وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط ا- هـ.
وقال الشوكاني في التفسير: قوله ) وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (؛ أي لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع المعاني.
) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً (؛ والعدوان: تجاوز الحد. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه ... وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك قتل الخطأا- هـ.
وقال عبد الرحمن السعدي رحمه الله:) وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (؛ أي لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يقتل الإنسان نفسه. ويدخل في ذلك، الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وفعل الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك. ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ( أي أكل الأموال بالباطل، وقتل النفوس ) عُدْوَاناً وَظُلْماً ( أي لا جهلاً ونسياناً ) فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً (ا- هـ.
ومنها: أن قيد ) عُدْوَاناً وَظُلْماً ( خرج بمقتضاه ـ كما تقدم من كلام المفسرين ـ من يقع في شيء من ذلك خطأ وجهلاً ونسياناً أو تنفيذاً لحدٍ من حدود الشرع كحد قتل القاتل أو قتل الكافر المرتد أو القتل الخطأ ونحو ذلك .. فهذا مستثنى بمنطوق أدلة أخرى لا يطاله الوعيد ) فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً (.
أقول: كذلك يُستثنى المجاهد في سبيل الله الذي يستشرف مواطن الخطر، وينغمس في صفوف العدو المحارب ـ لمصلحة راجحة ـ فيُقتل على أيديهم .. فهذا ـ لو سُمي مجازاً بأنه قاتل لنفسه على اعتبار أنه قد اقتحم أسباب الموت والقتل ـ فإنه مستثنى بمنطوق نصوص أخرى تأذن بالجهاد والانغماس في صفوف العدو لمصلحة راجحة .. لكن أدلة الجهاد والانغماس التي قد يُقتل فيها المرء بيد عدوه شيء .. وأن يَقتل المرء ـ بعملية متشابهة محفوفة بالمحاذير ـ نفسه بنفسه شيء آخر!
ومنها: أن يقتل المرء نفسه بنفسه لأي غرض كان هو ممن يقتل نفسه ) عُدْوَاناً وَظُلْماً (، وبالتالي فالوعيد الوارد في الآية ) فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( وفي النصوص الأخرى المحكمة التي تحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه .. يُحمل عليه، فالآية ـ كما هو ظاهر ـ دليل على ما ذهبنا إليه من القول بحرمة العمليات الانتحارية المسماة بالاستشهادية لا حظَّ فيها للمخالف.
والقائل بجواز أن يقتل المرء نفسه بنفسه لأغراض الجهاد؛ لأنه لم يفعل ذلك ) عُدْوَاناً وَظُلْماً (، مثله مثل من يقول: للمرء أن يرابي، وأن يسرق، وأن يغدر لأغراض الجهاد؛ لأنه لم يفعل ذلك ) عُدْوَاناً وَظُلْماً (!
فإن قيل: هذه الأمور محرمة لذاتها لا تبررها نبل الغاية ... نقول: كذلك قتل المرء لنفسه بنفسه محرم لذاته لا يبرره نبل الغاية؛ فالغاية الشرعية النبيلة لا تبرر الوسيلة الباطلة. 
ومنها: من محاذير العمليات الانتحارية المسماة بالاستشهادية ـ في الغالب كما هو مشاهد وحاصل، وكما تُمارَس ـ أنه يترتب عليها زهق وقتل الأنفس البريئة والمعصومة شرعاً .. ويتعدى قتل المرء لنفسه بنفسه إلى أن يقتل معه الأنفس البريئة والمعصومة شرعاً .. وبالتالي فهي معنية من النهي الوارد في قوله تعالى:) وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (، ويشملها الوعيد الوارد في قوله تعالى:) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (
ومنها: ليس بمثل هذا الدليل المتشابه حمال الأوجه .. تُزهَق الأنفس .. وتُبنى المسائل الخطيرة الكبيرة، وتُرد الأدلة المحكمة الصريحة الدالة على حرمة أن يقتل المرء نفسه بنفسه .. وما أكثرها. 
بهذا أرد على السؤال الوارد أعلاه، والشبهة الواردة فيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * * * *
ـ ملاحظة: هذا الملحق ـ بإذن الله ـ مخصص للرد على ما يستجد من شبهات واستدلالات خاطئة قد تُثار حول الموضوع .. وبالتالي فهو عرضة للتحديث باستمرار بحسب ما يردنا من استدلالات وشبهات يتكئ عليها المخالفون، نرى ضرورة الرد عليها .. سائلين الله تعالى السداد، والتوفيق، والقبول.


[1] الأمر المتشابه؛ هو الأمر الذي ليس إلى الحل قولاً واحداً، ولا إلى الحرمة قولاً واحداً، وإنما فيه من القرائن ما يدل على الحرمة أو الكراهة من وجه، وما يدل على الإباحة من وجه، وكذلك النصوص؛ فمنها المتشابه في دلالتها على مسألة من المسائل؛ فهي لا تفيد حلها قولاً واحداً، ولا حرمتها قولاً واحداً .. وإنما تحتمل الوجهين أو المعنيين وربما أكثر لتشابه النص في دلالته عليها .. ويُقال كذلك هو النص الذي يحتمل أكثر من تفسير .. وفهم .. ومعنى .. وله أكثر من دلالة .. حمال أوجه ومعانٍ .. وهذا لفهمه وفهم المشكل منه لا بد من النظر في الأدلة المحكمة ذات العلاقة التي تفسر وتوضح الغامض منه .. بينما النص المحكم هو النص القطعي في دلالته على المسألة؛ لا يقبل إلا تفسيراً واحداً، ودلالة واحدة؛ وهو الحل أو الحرمة، والعدل عند ورود المتشابهات يقتضي أن تُرد إلى المحكمات وإلى النصوص المحكمة، وأن يُفسر المتشابه على ضوء المحكم وليس العكس .. فاتباع المتشابهات وتقديمها على المحكمات، وجعلها حكماً على المحكمات من خلق وطبائع من أصاب قلوبهم الزيغ ومرض اتباع الشبهات، كما قال تعالى:) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (آل عمران:7.

google-playkhamsatmostaqltradent