بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد لاحظت منذ فترة ليست بقريبة .. توجهاً خاطئاً عند بعض الشباب المتحمس لقضايا الجهاد .. حيث تراهم ـ بدافع العصبية والتعصب والجهل ـ يردون كل قولٍ ـ ولو كان حقاً ـ يخالف بعض ما عليه بعض أهل الثغور والجهاد .. الحق عندهم هو ما عليه أهل الثغور والجهاد ولو كان مخالفاً لنصوص الكتاب والسنة .. لا يقبلون أن يُقال في مجاهد مقاتل أخطأ والصواب كذا وكذا .. لسان حالهم يقول بعصمة المجاهدين عن الوقوع في الخطأ .. وهم يعلمون أو لا يعلمون .. لا يقبلون قولاً ولا رأياً ـ وإن كان حقاً ـ لمن لا يُقاتل ـ وإن كان من أهل التقوى والعلم ـ فيمن يُقاتل وإن كان يغلب عليه الجهل والخطأ!
فالمجاهد .. ما دام يُجاهد ويُقاتل فهو دائماً على حق وصواب .. وما سواه ممن يُخالفونه ـ وإن كانوا من أهل العلم والفضل والتقوى ـ فهم دائماً على باطل وخطأ!
يردون ـ أحياناً ـ نصوص الكتاب والسنة ـ لهوى في نفوسهم .. ورغبة في التشويش على الحق ـ تحت حجة أنهم على مذهب وقول المجاهدين وأهل الثغور!
وحجتهم في جميع ما تقدم ذكره، فهمهم الخاطئ لقوله تعالى:) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت:69.
فقالوا: هذا دليل على أن الله تعالى تكفل بهداية المجاهدين المقاتلين إلى سبل الحق والهداية والصواب دون غيرهم أو أكثر من غيرهم، فحصروا الهداية للحق على المجاهدين المقاتلين دون غيرهم .. وبالتالي لو اختلفوا مع غيرهم فالحق معهم على الإطلاق .. ومخالفهم على الباطل .. ومن دون أن يدققوا النظر في أدلة الطرفين .. وأي القولين أو الفريقين أقرب لأدلة الكتاب والسنة ومقاصدها!
أقول: هذا فهم خاطئ للآية الكريمة وللمراد منها؛ فالذي عليه أكثر أهل العلم والتفسير أن المراد من قوله تعالى:) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا (؛ أي الذين جاهدوا ـ في طلب مرضاة الله ـ أنفسهم وحملوها على المتابعة، والطاعة، ومخالفة الهوى، وطلب العلم، فصدعوا بالحق، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .. وقالوا: مما يدل على هذا المعنى أن الآية مكية؛ أي نزلت قبل أن يُشرع ويؤذن بالقتال.
وإليكم بعض أقوالهم:
قال ابن عطية الأندلسي في تفسيره:" فهي قبل الجهاد العُرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله تعالى وطلب رضائه.
قال السدي وغيره: نزلت هذه الآية قبل فرض القتال.
وقال الحسن: الآية في العبَّاد.
وقال ابن عباس، والحسن، وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون.
وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط، بل هو نصرُ الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعُظْمُه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله.
وقال الضحاك: معنى الآية: والذين جاهدوا في الهجرة لنهدينهم سبيل الثبوت على الإيمان " ا- هـ.
وقال ابن كثير في التفسير:" ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا (؛ يعني الرسول r وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عباس الهمداني:) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ( قال الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون "ا- هـ.
وقال الشوكاني في التفسير:" ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (؛ أي جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته، ورجاء ما عنده من الخير لنهدينهم سبلنا؛ أي الطريق الموصل إلينا.
قال ابن عطية: هي مكية نزلت قبل فرض الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته .. "ا- هـ. ثم نقل بقية كلامه الذي ذكرناه أعلاه.
وقال الألوسي في كتابه روح المعاني:" ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ( في شأننا ومن أجلنا ولوجهنا خالصاً .. وأطلقت المجاهدة لتعم مجاهدة الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعهما.
ومن الناس من أول ) جَاهَدُوا ( بأرادوا الجهاد، وأبقى) لَنَهْدِيَنَّهُمْ ( على ظاهره، وقال السدي:المعنى والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبلنا إلى الجنة، وقيل: المعنى والذين جاهدوا في الغزو لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة، وما ذُكر أولاً أولى "ا- هـ.
وقال القرطبي في التفسير:" ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا (؛ أي جاهدوا الكفار فينا، أي في طلب مرضاتنا، وقال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال. قال ابن عطية: فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته .."ا- هـ.
ونحن هنا لا ننكر أن من أهل العلم والتفسير من أدخل مجاهدة العدو وقتاله في سبيل الله في معنى قوله تعالى ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا (. وأن من السلف من قال:" إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين، وأهل الثغور "، ولكن الذي نرده ولا نقبله حصر المراد من الآية بجهاد القتال دون غيره من أنواع المجاهدة والجهاد، وبخاصة بعد أن علمنا أن الآية مكية؛ أي نزلت قبل أن يُشرع الجهاد ويؤذن به.
مما يدل على هذا المعنى الذي ذهبنا إليه كذلك، قوله تعالى:) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة:282.
قلت: وتقوى الله تعالى أعم من مجاهدة العدو وقتاله .. حيث يدخل فيها جهاد العدو، وجهاد النفس، وحملها على الانقياد والطاعة والمتابعة الظاهرة والباطنة لنصوص الشريعة .. وبالتالي فالمرء على قدر ما يحقق التقوى بمعناها العام في نفسه على قدر ما يُعلِّمه الله تعالى ويزداد علماً وفضلاً .. ويكون حجة على غيره.
ومما يستدل به كذلك قوله تعالى:) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة:122. فهذه الآية الكريمة دلت أن الطائفة التي بقيت مع النبي r يطلبون العلم والتفقه في الدين منه صلوات ربي وسلامه عليه، ولم يخرجوا للقتال والغزو هم الذين يُعلمون ويفقهون من نفر للقتال والغزو إذا ما رجعوا إليهم .. ما كانوا قد تعلموه من النبي r؛ أي أن القاعد عن الجهاد لغرض طلب العلم يُعلم ويفقه من نفر للغزو والجهاد حينما يعود من جهاده.
ونقول كذلك: الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ لم يكونوا من أهل الجهاد ـ الجهاد القتالي ـ ولا من أهل الثغور .. ومع ذلك كانوا مرجعاً للأمة في الفقه والعلم .. ولا تزال مذاهبهم وأقوالهم مرجعاً للأمة في جميع أمصارها .. والناس ـ بما فيهم أهل الثغور ـ عالة على فقههم وعلمهم .. ولم يقل أحد منهم: قولهم مردود لأنهم لم يكونوا يوماً من أهل الجهاد والثغور!
وفي المقابل الحجاج بن يوسف الثقفي .. كان من أهل الجهاد والثغور .. وقد فُتحت على يديه كثير من بلاد العدو .. ومع ذلك يُذكر بالسوء .. ويوصف بالظلم والطغيان .. ولا أحد يقول بأنه يؤخذ منه علم أو فقه .. فضلاً عن أن يقول: هو أفقه وأعلم ممن ليسوا من أهل الثغور كالأئمة الأربعة رحمهم الله .. وغيرهم!
ويُقال كذلك: أن العصمة لنبينا ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ فقط .. وما سواه سواء كان من أهل الثغور أم لا .. يُخطئ ويُصيب، يُؤخذ منه ويُرد عليه .. وفي حال وقوع التنازع والاختلاف بين الناس فما هو العاصم .. وما هو المرجع الذي يُتحاكم إليه ويُرد إليه النزاع والاختلاف..؟
الجواب: يعلمه الجميع؛ ألا وهو كتاب الله وسنة نبيه r .. كما قال تعالى:) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (النساء:59. ولم يقل I فردوه إلى أهل الثغور .. أو إلى غيرهم، وإنما قال:) فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (؛ أي إن كنتم صادقين في إيمانكم؛ فإن لم تردوا ما تنازعتم فيه ) إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ( فهذا دليل على كذب ادعائكم بأنكم مؤمنون، وأنكم ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (.
قال تعالى:) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (النساء:65.
ويُقال كذلك: من خلال تطوافنا في الأرض والأمصار وجدنا كثيراً من المجاهدين ومن أهل الثغور .. عندهم من العادات والسلوكيات الكثيرة التي تُخالف تعاليم الإسلام .. وقد قُدر لصاحب هذه الكلمات ولله الحمد أن يكون من أوائل ـ إن لم يكن أول ـ من يطؤون أرض الجهاد في أفغانستان ـ وكان ذلك أوائل عام " 1981 "م ـ فكان مما رأيته أن من المجاهدين المقاتلين من يُعلق في رقبته التمائم والتعاويذ المليئة بالصور، والرموز، والكلمات الشركية .. ويعتقدون ـ جهلاً ـ أنها تنفعهم وتحفظهم .. وترد عنهم الضرر .. وكذلك توجههم إلى القبور بالدعاء، والتمسح والتبرك .. وغير ذلك من السلوكيات الخاطئة .. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يجوز ـ شرعاً ـ السكوت على هؤلاء وعلى منكرهم .. وعلى سلوكياتهم الخاطئة هذه .. بحجة أنهم من أهل الجهاد والثغور .. وأنهم هم الأعلم والأحكم .. لا يجوز للقاعدين .. أو من ليس له درجة جهادهم وقتالهم .. أن ينصحهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؟!
لا أظن عاقلاً يقول بذلك فضلاً عن عالم بدين الله وأحكامه .. يحترم نفسه ودينه وعقله .. وقد وجدنا أدلة الكتاب والسنة مطلقة في حضها على التناصح، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. ومن دون أن تخصص فريقاً من الناس دون آخر .. أو فريقاً من أهل العلم دون آخر؛ فالكل على ثغرة من ثغور الإسلام، وعلى كل امرئٍ أن يتقي الله في الثغر الذي استُؤمن عليه.
قال تعالى:) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت:33.
وقال تعالى:) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة:105.
خلاصة القول الذي نرجحه، والذي دلت عليه مجموع نصوص الكتاب والسنة: أن المرء بقدر ما يلتزم جادة التقوى .. والعمل بما يعلم .. ويخالف هواه .. ويكون بعيداً عن الحرام وارتكاب الحرام .. ويحمل نفسه على المجاهدة الظاهرة والباطنة ليوافق الشرع في جميع سلوكه وحياته .. بما في ذلك مجاهدة العدو بالسنان إن استطاع .. وتكون حياته كلها لله رب العالمين .. ويكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر .. ناصحاً للمسلمين .. صداعاً بالحق .. بعيداً عن الطواغيت الظالمين وقصورهم .. ومجالسهم .. ومع كل ذلك فهو يحمل نفسه على طلب العلم من مظانه الموثوقة .. كلما كان هو الأعلم والأحكم .. وكلما كان له الحظ الأوفر من الفهم والفقه والعلم .. عما هو دونه درجة أو درجات في تلك الصفات الآنفة الذكر، والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد المنعم مصطفى حليمة
أبو بصير الطرطوسي
10/10/1426 هـ./ 12/11/2005 م.