بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال: الحمد لله قاذف الحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، والصلاة والسلام على نبي الملحمة، ونبي الرحمة محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
طلبنا من الشيخ أبي بصير ـ حفظه الله وثبت خطاه ـ أن يكتب لنا نحن المسلمين في فلسطين الـ " 48 " ملخصاً يبين فيه حكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في الانتخابات التشريعية ـ الكنيست ـ علماً أن قِسماً من الحركة الإسلامية في بلادنا؛ وهي امتداد للإخوان المسلمين، وقِسماً آخر هم حركة إسلامية ( شمالية ) تمتنع ليس قطعاً لحرمتها وإنما لضرورة معينة ترتئيها لعدم الخوض في هذه الانتخابات، وقولهم دائماً بعدم القطع بحرمتها، ويُطالبون أتباعهم بأن يصوت كل فرد منهم حسب ضميره الوطني .. أفيدونا أفادكم الله، وجزاكم الله عنا كل خير.
علماً أننا سنسعى لنشر المادة لعموم المسلمين في البلاد صدعاً بالحق .. والله غالب على أمره.
أنصار الله، بيت المقدس ـ الناصرة.
اللجنة الشرعية
الجواب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد وردني نحو هذا السؤال من أكثر من أخ، وطرف، وجهة .. وأنا أجيب هؤلاء جميعاًَ بما أجيب الأخوة الأنصار عن سؤالهم هذا .. راجياً من الله تعالى أن يرينا الحقَّ حقَّاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه تعالى سميع قريب.
أقول: لمعرفة الحكم الشرعي في حدث أو نازلة من النوازل، لا بد أولاً من معرفة واقع وحقيقة هذه النازلة .. ومن ثم إنزال الحكم الشرعي الذي يتناسب ويتطابق مع هذه النازلة.
فما هي مهام وصفة المجالس التشريعية النيابية .. وما هي مهام أعضائه .. كما هو معمول به في ظل الأنظمة الوضعية الطاغوتية السائدة؟
المجالس التشريعية النيابية: هي المجالس التي تضم مجموعة من المشرعين، تنوب عمَّن صوَّت لهم وانتخبهم، في سَن القوانين والتشريعات، ومراقبة مدى تنفيذ وتطبيق هذه القوانين والتشريعات من قبل السلطتين التنفيذية، والقضائية، معتمدة آلية التصويت، والاحتكام إلى أكثرية أصوات أعضاء المجلس، في جميع أنشطتها وما يصدر عنها من قوانين وشرائع وقرارات.
وهذا يعني أن مهام أعضاء المجلس التشريعي ـ لأي نظام وضعي ـ تنحصر في عملين أو أمرين، هما:
أولاً: سن القوانين والتشريعات، والأنظمة التي تُحدد معالم سياسة الدولة الداخلية والخارجية: فخاصية التشريع، والتحليل والتحريم، والتقبيح والتحسين من خصائص وصفات هؤلاء المشرعين من دون الله .. فهم يمثلون السلطة التشريعية العليا للدولة والمجتمع التي يعلو حكمها كل حكم .. ولا يعلو حكمَها حكمٌ .. ولا شرعَها شرعٌ ـ بما في ذلك حكم الله وشرعه ـ وما على الآخرين إلا الدخول في طاعتهم فيما يُشرعون ويُقنِّنون!
وهذا معناه وبكل وقاحة ووضوح أنهم بذلك قد رضوا لأنفسهم بأن يُمارسوا خصائص الربوبية والألوهية، وأن يجعلوا من أنفسهم أنداداً وأرباباً على العبيد يعبِّدونهم لأهوائهم وشرائعهم القاصرة من دون الله تعالى!
وهذا عين الكفر والشرك البواح لتضمنه الاعتداء على أخص خصائص الله تعالى؛ ألا وهي خاصية التشريع، والتحليل والتحريم، والتحسين والتقبيح.
فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن الذي يُشرع ويحق له أن يشرع للعباد هو خالقهم ومالكهم، والعالِم بهم وبأحوالهم، وما ينفعهم وما يضرهم، كما قال تعالى:) وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (الكهف:26. وقال تعالى:) إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (يوسف:40. وقال تعالى:) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة:50. وقال تعالى:) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (غافر:20. وقال تعالى:) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (الشورى:10. وقال تعالى:) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (الزخرف:84. فكما أن الله تعالى هو الإله المعبود المطاع بحق في السماء، فهو كذلك الإله المعبود المطاع بحق في الأرض. وقال تعالى:) أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (الأعراف:54. فالذي له الخلق هو الذي له الأمر، والذي له الأمر هو الذي له الخلق .. أما من ليس له الخلق .. فليس له الأمر .. ولا سمع له ولا طاعة.
وقال تعالى:) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (التوبة:31. وذلك عندما اتخذوهم مشرعين من دون الله، واتبعوهم فيما يُحلون ويحرمون ويشرعون بغير سلطان من الله .. فسماهم من أجل ذلك أرباباً من دون الله.
فربوبية الأحبار والرهبان هنا لا تعني عبادتهم واتخاذهم أرباباً من دون الله من جهة الركوع والسجود لهم، فهذا لم يحصل، وإنما تعني اتخاذهم مشرعين يُطاعون فيما يشرعون ويحللون ويحرمون من دون الله تعالى، فذلك معنى اتخاذهم أرباباً من دون الله.
ونحو ذلك قوله تعالى:) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64. فقوله ) وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (؛ أي لا يتخذ بعضنا بعضاً مشرعين من دون الله، نشرِّع، ونحلل ونحرم لبعضنا البعض من دون الله، وبغير سلطانٍ من الله .. فهذا تجاوز لمقام العبودية التي فُطر الإنسان عليها .. وتعدٍ على مقام الربوبية التي هي من خصوصيات الله تعالى وحده.
والمسلمون عندما يشاركون في الانتخابات التشريعية .. ويرشحون منهم أرباباً يمارسون مهمة التشريع، والتحليل والتحريم .. ويدخلوا في لعبة الشرك والاعتراف بربوبية المخلوق على المخلوق .. لم يعد يستطيعون أن يقولوا لأهل الكتاب وغيرهم من المشركين:) تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه (؛ لأنه مباشرة سيُقال لهم: أنتم قد رضيتم بأن تتخذوا بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله .. وأن تقارفوا الشرك .. وتدخلوا المجالس التشريعية الشركية .. من أجل مغانم دنيوية زهيدة .. فكيف تنهون عن خلق وتأتونه، وتأمرون الناس بالبر والتوحيد وتنسون أنفسكم، والله تعالى يقول في كتابكم:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (الصف:2-3.
ثانياً: من مهام السلطة التشريعية كذلك الممثلة في أعضاء المجلس التشريعي، السهر على تنفيذ ما يصدر عنهم من قوانين وتشريعات، ومراقبة السلطتين: التنفيذية، والقضائية لمعرفة مدى التزامهما بما يُسن لهما من القوانين والتشريعات .. ومحاسبتهما لو بدر منهما أدنى تخلف أو تقصير في عملية تنفيذ وتطبيق القوانين والشرائع!
فهم إذاً لا يقتصر عملهم على سن التشريعات والقوانين التي تُضاهي شرع الله، واستشراف خصائص الربوبية والألوهية من دون الله وحسب .. بل يتعدى عملهم إلى السهر ومراقبة السلطات الأخرى في مدى التزامها بالقوانين والشرائع المضاهية لشرع الله تعالى التي تصدر عنهم!
فهم يشرعون الكفر والشرك .. ويسهرون على حماية وتنفيذ هذا الشرك والكفر .. هذا هو عمل السلطة التشريعية في ظل جميع الأنظمة الوضعية السائدة اليوم .. والتي يتنافس بعض المسلمين
ـ إلى درجة التقاتل وللأسف ـ لأن يكونوا بعض أعضائها وأفرادها!
هذان العملان لأعضاء المجالس النيابية التشريعية ـ إضافة لما تقدم ذكره ـ يترتب عليهما مزالق عدة أخرى لا يُمكن النفاد منها أو اجتنابها، كما لا يجوز أن يُستهان بها أو أن يُغض الطرف عنها عند الحديث عن مدى شرعية الدخول على تلك المجالس التشريعية.
منها: أن العضو ملزم بأن يتقيد في مجموع نشاطه بدستور الدولة العلمانية القائم أصلاً على الكفر ومضاهاة شرع الله؛ فهو من جهة ملزم بالتحاكم إليه، ومن جهة ملزم بأن يقسم على احترامه وتقديسه والحفاظ عليه، ومن جهة لا يحق له أن يمارس أي نشاط أو أن يعمل على إصدار أي قانون يتعارض مع الدستور ومبادئه.
فالدستور بهذا المعنى طاغوت تُرد إليه المنازعات، ويُحتكم إليه من دون الله، وهذا مناف ومناقض للإيمان، كما قال تعالى:) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (النساء:60. فاعتبر إيمانهم زعماً لا حقيقة له لمجرد إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت، وشرائع الطاغوت!
وقال تعالى:) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (النساء:59. والرد إلى الله والرسول يكون بالرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا انتفى هذا الرد انتفى معه الإيمان مباشرة.
وقال تعالى:) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ (الشورى:10. بينما دساتير الأنظمة الوضعية العلمانية تقول فحكمه إلى الطاغوت، وإلى الدساتير الوضعية من دون الله .. والنائب المسلم ـ الذي يأبى إلا أن يُشارك القوم باطلهم ومجالسهم ـ مهما حاول الفكاك لا يمكن له أن يتفادى هذا المزلق العقدي الخطير!
ومنها: أن من قوانين المجالس التشريعية المتفق عليها التي يجب على الجميع أن يلتزموا بها أن أي شيء مهما سمت مكانته وقدسيته .. بما في ذلك حكم الله .. وشرع الله .. ودين الله .. لكي يُمرر يجب أولاً أن يخضع للتصويت ولاختيار أعضاء المجلس .. ولرفع الأيدي وخفضها .. والحكم في النهاية لما ترتئيه الأكثرية .. ولو كان هذا الذي ترتئيه كفراً ويتضمن التكذيب والرد لحكم الله تعالى وشرعه .. وليس على الأقلية سوى الإقرار بشرعية وقانونية هذه النتيجة، ما دامت قد مرت على عملية التصويت والاختيار .. وهذا مناقض لقوله تعالى:) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (الأحزاب:36. وقوله تعالى:) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (النساء:65. وقوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (الحجرات:1-2. فإذا كان مجرد أن يرفع المرء صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم قد يُحبط عمله، ولا يُحبط العمل إلا الكفر والشرك، لقوله تعالى:) وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام:88. فكيف بمن يرفع حكمه وقانونه فوق حكم وقانون النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبلغه عن الله U .. لا شك أنه أولى بأن يحبط عمله، وأولى بأن يقع في الشرك والكفر، والعياذ بالله!
ومنها: أن المجالس التشريعية للأنظمة الوضعية ـ كما تقدم ـ يسودها الكفر، والاستهزاء، والطعن بالدين، ولو لم يكن من ذلك سوى إجراء عملية التصويت والاختيار والتعقيب على حكم الله ورسوله .. لكان كافياً لاعتزالها واجتنابها، كما قال تعالى:) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( فإن أبيت إلا الجلوس ) إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (النساء:140.
وكذلك قوله تعالى:) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (الأنعام:68.
ومنها: من مقتضيات العمل النيابي التشريعي الاعتراف بشرعية الطاغوت الحاكم وحكمه ونظامه الفاسد الكافر .. والتعامل معه على أنه حاكم شرعي تجب طاعته .. وبخاصة إن جاء أو فُرض هذا الحاكم عبر التصويت وصناديق الاقتراع .. وقد دلت قواعد ونصوص الشريعة على أن الرضى بالكفر كفر، فكيف بمن يتجاوز معنى الرضى القلبي ليعترف طواعية بشرعية الطاغوت، وشرعية كفره وظلمه، وحكمه؟!
ويُضاف إلى ذلك فيما يتعلق بالمشاركة في الكنيست الصهيوني، فيقال: إن المشاركة من قبل المسلمين في الكنيست ـ إضافة إلى جميع ما تقدم ـ فإنه يعني الإقرار والرضى بشرعية الغزاة الصهاينة المحتلين لأرض فلسطين .. وشرعية دولتهم .. وشرعية جرائمهم التي ارتكبوها ولا يزالون يرتكبونها بحق أهلنا وإخواننا في فلسطين .. وهذا مزلق شرعي وسياسي .. لا يجوز الوقوع فيه .. أو الاستهانة به مقابل مصالح شخصية زهيدة!
مثل الذي يُشارك من المسلمين الفلسطينيين كنائب في الكنيست اليهودي .. مثل من يُغتصب بيته .. ثم يقول للغاصب المعتدي على بيته دعني أشاركك الرأي والمشورة في كيفية تنظيمك لهذا البيت .. وكيفية استثمارك له وتنعمك به .. ولا شكَّ أن الغاصب المعتدي عندما يرى هذا الهوان والذل، والاعتراف الطوعي من قبل صاحب الأرض والملْك .. بحق المغتصب المعتدي فيما اغتصبه ونهبه وسطى عليه .. فإنه يرحب بذلك أيما ترحيب!
وعليه ـ ومن خلال جميع ما تقدم ذكره من مزالق ـ نقول: لا يجوز للمسلمين أياً كانوا .. وحيثما كانوا .. وكانت بلادهم أن يُشاركوا في الانتخابات التشريعية النيابية لا تصويتاً ولا ترشيحاً، ولا في أي جهدٍ يُذكر، كما لا ينبغي لهم أن يختلفوا في ذلك، قال تعالى:) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (المائدة:2. وأي إثم وعدوان يعلو إثم وعدوان أن يعترف العبيد بألوهية وربوبية العبيد .. وربوبية المخلوق على المخلوق .. أو أن يعمل المرء على ترويج ثقافة ألوهية وربوبية العبيد على العبيد.
فإن قيل: ما هو البديل ...؟!
أقول: الاعتزال والبراء .. وأن نقف موقف العقيدة والتوحيد الذي يرضاه منا ربنا U، كما قال تعالى:) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64. ) فَإِنْ تَوَلَّوْا ( وأبوا إلا أن يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله .. فما هو البديل .. وما هو الخيار الذي ينبغي أن ننحاز إليه بكليتنا ) فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( موحدون لا يمكن أن نُشرك بالله شيئاً .. ولا أن نرضى مثلكم بأن يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله .. فلنا ديننا .. ولكم دين.
وقال تعالى عن نبيه إبراهيم:) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (مريم:48. هذا هو البديل، وهذا هو الخيار الآخر لما يأبى القوم أن يدخلوا في التوحيد وفي سلم الإسلام كافة، ويأبوا إلا الشرك، وأن يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله!
ولنا في اعتزال شيخ الملة وإمامها إبراهيم u لقومه وبراءته منهم ومما يعبدون من دون الله أسوة حسنة، كما قال تعالى:) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (الممتحنة:4.
هذا هو الخيار .. وهذا هو البديل .. وهذا هو الطريق .. لا يتنكبه ويرغب عنه إلا من سفه نفسه، كما قال تعالى:) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (البقرة:130.
وإني لأعجب أشد العجب عندما أسمع عن حزب من الأحزاب العلمانية .. أو شخصيات لا تمت للإسلام بصلة ..كيف أنهم يعتزلون المشاركة في نظام من الأنظمة الحاكمة لكون هذا النظام يتعارض مع بعض توجهاتهم ومصالحهم الحزبية أو الشخصية .. بينما في المقابل نجد من المسلمين .. ممن ينتسبون إلى بعض التجمعات والحركات الإسلامية المعاصرة .. من أجل سلامة العقيدة والتوحيد .. وخيري الدنيا والآخرة .. تراهم يشحون .. ويترددون .. ويستكثرون أن يعتزلوا باطل الأنظمة الطاغية الحاكمة ومجالسها .. وما يحملهم على هذا الشح والتردد سوى الطمع ببعض المكاسب الدنيوية الزهيدة التي لا يمكن أن ترقى إلى مستوى مكسب ومصلحة الحفاظ على سلامة العقيدة والتوحيد .. وسلامة دين وعقيدة الأجيال من بعدهم .. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
بهذا المختصر المفيد أجيب الأخوة الأنصار عما سألوا عنه .. وكل من سأل نحو سؤالهم .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
29/10/1426 هـ/ 1/12/2005 م.