GuidePedia

0
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:) وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ . اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ . إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (يس:20-27.

هذه الآيات تحكي قصة رجل صالح ندب نفسه لنصرة رُسل الله ودعوتهم .. تتكرر نماذجه في كثير من الأزمنة والأمصار .. التي يُحارَب فيها شرع الله تعالى، ويَسود فيها حكم الطواغيت الظالمين!
) وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ (؛ أي من أطرافها .. ومن أقصى وأبعد بابٍ من أبوابها .. قاصداً وسط المدينة ومركزها .. المكان الذي يجتمع فيه الملأ وأتباعهم .. عند حصول أي أمر هام ينزل بساحتهم ومدينتهم، يقتضي منهم الاجتماع.
) رَجُلٌ (؛ إنه الحبيب .. فهو رجل لكن لا كالرجال .. رجل فيه كل معاني الرجولة والشجاعة والصدق والإقدام .. لا يخشى في الله لومة لائم .. رجلٌ صادقٌ في لهجته ودعوته .. صادق مع نفسه، وعقيدته .. وما يدعو إليه .. فباطنه كظاهره، وظاهره كباطنه .. لا يتخلف قوله عن فعله، ولا فعله عن قوله.
) رَجُلٌ (؛ كفر بالطواغيت؛ كل الطواغيت التي تُعبد من دون الله .. اعتقاداً وقولاً وعملاً .. فترجم التوحيد في جهاده وصدعه بالحق أحسن ترجمة وبيان.
) رَجُلٌ (؛ حمل على عاتقيه همَّ أمته وقومه .. كيف يُغيثهم .. كيف ينقذهم من الهلاك .. كيف يحميهم من أذى وشرِّ الطواغيت .. ويخرجهم من ظلمات الكفر والشرك إلى نور وعدل الإسلام .. ولو أدى ذلك به إلى القتل والاستشهاد.
) رَجُلٌ (؛ صدَقَ الله في البيع .. فصدقه الله في الشراء والجزاء.
) يَسْعَى (؛ فهو لم يجئ ماشياً بل جاء ساعياً يركض ويهرول بأقصى ما أوتي من قوة وعزيمة وإرادة .. لأن الأمر هام لا يحتمل التأخير .. أو التريث .. والتردد .. وبالتالي لا بد من أن يأتيه سعياً قبل أن يفوته القطار .. ويقع التفريط والندم، ولات حين مندم.
) يَسْعَى (؛ خشية أن يفوته موقف فيه نصرة لله ولرسُلِ الله.
وكونه قد جاء يسعى؛ فهذا دليل على أنه كان همَّاماً .. وأن همَّ أمته وقومه قد امتلأت به نفسه .. لذا فقد جاء يسعى.
) يَسْعَى (؛ من أجل ماذا .. هل من أجل امرأة ينكحها أو دنيا يُصيبها .. كما هو شأن الآلاف من الرجال غيره؟!
لا؛ ليس شيئاً من ذلك!
فهو جاء) يَسْعَى (؛ إلى أن توسَّط قومَه وهم مجتمعين .. ليقرروا موقفهم من دعوة الأنبياء والمرسلين ..؟!
فشقَّ جموعهم وناداهم بأعلى صوته .. ناصحاً ومشفقاً .. وقبل أن يأخذ قسطاً من راحة أو يلتقط أنفاسه من أثر السعي .. وبثبات المؤمن الواثق بوعد ربه.
فـ) قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (؛ فيما يُبلغون عن ربهم .. وآمنوا بهم .. تُفلحوا .. ومفهوم الأمر باتباع المرسلين يقتضي النهي عن كل دين يُخالف دين المرسلين .. إذ لا يصح ولا يُقبل من المرء أن يتبع دين المرسلين ثم هو في نفس الوقت يتبع دين الطواغيت .. وعبادة الأصنام والأوثان .. فلا يجتمع في قلب امرئٍ اتباع وانقياد لدين الله واتباع وانقياد لدين الطاغوت .. والقول باجتماعهما هو من قبيل القول بالشيء وضده في آنٍ واحد.
) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً (؛ فمن علامات صدق الرسل أنهم لا يسألونكم أجراً وعطاءً على دعوتهم وجهادهم ونصحهم .. وإبلاغ الرسالة .. فأجرهم على الله .. وإنما يسألونكم فقط أن تدخلوا في دين الله تعالى، وفي عبادته وتوحيده .. وأن تكفروا بالأوثان والطواغيت، وتتبرأوا من عبادتهم.
أما من يقتات ويستغني من وراء دعوته .. وكلماته .. ويكون همه الأكبر من وراء دعوته كيف يتلقى العطايا والمنح من الآخرين .. ولو على حساب الحق .. فهؤلاء حري بأن لا يُسمع لهم .. وأن يُتهموا في دينهم ومروءتهم، ويُساء بهم الظن .. والأنبياء والرسل ليسوا شيئاً من ذلك حاشاهم .. لذا فإنه لحري بكم بأن تُصغوا إليهم وإلى دعوتهم .. وتتبعوهم!
) وَهُم مُّهْتَدُونَ (؛ وهم إضافة إلى ذلك كله فهم مهتدون موفَّقون إلى الحق صراط الله المستقيم .. مهتدون في أنفسهم ودعوتهم وكل أحوالهم .. فلا هداية ولا منجاة لأحد إلا باتباعهم وطاعتهم .. فاهتدوا بهم وأطيعوهم.
لأنه قد يعترض معترض فيقول: هناك من دعاة الباطل من لا يسألون الناس المال والعطايا على دعوتهم .. فيأتي الرد الحاسم عليهم: ولكنهم غير مهتدين .. فهم إذ لا يأخذون أجراً ولا مالاً ـ وما أقل هذا الصنف في دعاة الشر والباطل ـ فإنهم يدعون إلى الفحشاء والمنكر والبغي .. وهذا بخلاف ما عليه الأنبياء والرسل؛ فهم إضافة إلى كونهم لا يسألون الناس الأجر والمال .. فهم مهتدون .. يدعون إلى الهدى والحق.
وما إن أنهى مقاله الإيماني الآنف الذكر .. إلا واعترضه الملأ من قومه مستفسرين .. ومستنكرين .. ومهددين.
هل أنت على دين الأنبياء والرسل .. هل تركت ديننا؛ دين الآباء والأجداد؛ دين عبادة الأوثان والأصنام .. والطواغيت؟!
فأجابهم:
) وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي (؛ وما الذي يمنعني من أن أفرد الله تعالى وحده بالعبادة وهو الذي خلقني، فأحسن خلقي .. وتفضل علي بالنعم التي لا تُعد ولا تُحصى .. فمن لوازم متطلبات النعم التي خص الله بها العباد، أن يخصه العباد بالشكر ويفردوه بالعبادة!
ثم هل من آلهتكم المزعومة وأوثانكم وأصنامكم من يستطيع أن يخلق شيئاً .. وإذا كان لا يستيطيع أن يخلق شيئاً .. وهو أعجز من أن يخلق بعوضة .. فهل من يخلق كمن لا يخلق .. هل يستويان مثلاً .. ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (النحل:17. وقال تعالى:) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (الأعراف:191.
) وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (؛ ثم أنكم أيها المشركون الضالون لا تحسبون أنكم بمفازة من العذاب عندما تُرجعون إلى الله يوم القيامة .. ويُجرى عليكم الحساب .. ويجازي الله تعالى الناسَ على أعمالهم، وما قدموا لأنفسهم؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر .. يوم يقع الندم، ولات حين مندم ) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (الفرقان:27. ) يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً (النبأ:40.
) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ (؛ أي من دون الله تعالى.
) آلِهَةً (؛ فأخصهم بالعبادة، والطاعة، والمحبة، والتحاكم من دون الله .. وقد تبين أنهم عاجزون قاصرون لا يملكون شيئاً .. ولا يقدرون أن يخلقوا شيئاً .. ولا ينفعون ولا يضرون أحداً إلا إذا شاء الله .. وهذا سؤال توبيخي تقريعي استنكاري؛ أي كيف تحملونني على أن أعبد آلهة من دون الله تعالى ضعيفة عاجزة؛ لا تخلق، ولا تنفع ولا تضر .. أليس لكم عقول تتفكرون بها؟!
ومن علامات ضعف، وعجز، وقصور هذه الآلهة المزعومة:
) إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ (؛ أي إن يصيبني الله ببلاء؛ كالمرض وغيره ..
) لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً (؛ أي لا تنفعني شفاعتهم في شيء .. لأنهم لا شفاعة لهم أصلاً .. فالشفاعة تكون يوم القيامة لمن ارتضى الله وأذن له من الأنبياء والرسل والصديقين
والشهداء، وغيرهم من المؤمنين الموحدين .. ولمن شاء الله أن يُشفَع له.
) وَلاَ يُنقِذُونِ (؛ أي كذلك فهم لا يستطيعون أن ينقذوني أو يخلصوني مما أنا فيه من البلاء والمرض .. فهم أضعف وأعجز من ذلك .. فهم لا يملكون من الأمر شيئاً؛ فالأمر كله لله تعالى وحده.
فكاشفُ الضُّر هو الله تعالى وحده .. وإن أرادك بفضل وخير فلا رادَّ لفضله وقضائه راد:) وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (الأنعام:17. وقال تعالى:) وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (يونس:107. ) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (الشعراء:80.
) إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (؛ أي إن أصغيت إليكم وأطعتكم فيما تأمرونني به؛ من عبادة آلهتكم وأوثانكم، وأصنامكم، وطواغيتكم .. من دون ـ أو مع ـ الله .. فإني يقيناً على خطأ بيِّنٍ ظاهر، وأنا من الهالكين الخاسرين الذين ضلوا الحقَّ، والصراط المستقيم.
فلما سمع الملأ من قومه هذه الإجابة الإيمانية عما قد سألوه عنه .. ولمسوا منه صدق لهجته .. والجد فيما يقول .. عاودوا الكرة في تهديده وزجره ونهيه .. وبالغوا في التهديد والوعيد .. إن لم يعد عن دينه .. ويدخل من جديد في دينهم؛ دين عبادة الأوثان والطواغيت!
فما كان جوابه لهم إلا أن قال لهم بكل ثبات ويقين، وبملء فِيه:
) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ (؛ الذي خلقكم .. والذي خلق السماوات والأرض .. والذي رزقكم وأمدكم بالنعم .. ثم أنتم به تكفرون.
وكفرتُ بأصنامكم وأوثانكم وطواغيتكم التي تعبدونها من دون الله .. وبيان هذا المعنى من لوازم وشروط الإيمان برب العالمين؛ إذ لا يصح إيمان برب العالمين إلا بعد الكفر بالطاغوت، كما قال تعالى:) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (النحل:36. وقال تعالى:) فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:256.
) فَاسْمَعُونِ (؛ فافهموا مقالي وخطابي جيداً: بأني قد آمنت بالله رب العالمين .. وكفرت بالطواغيت كل الطواغيت التي تعبدونها من دون الله .. فافعلوا ما بدا لكم .. فإني لا أخشاكم .. ولا أخشى جموعكم ولا عساكركم .. فأنا لا أخشى إلا الله.
فوثبوا عليه وثبة رجلٍ واحد .. يملؤ نفوسَهم الحقدُ والكراهية .. والعداوة والبغضاء .. فضربوه .. ورجموه .. وحرَّقوه .. ووطئوه بأقدامهم .. وتفننوا في تعذيبه .. حتى قيل أن أمعاءه
قد خرجت من دبره .. ولم يكن له أحد يُدافع أو يمنع عنه .. حتى قتلوه رحمه الله.
          الكل من حوله فَرِحٌ بموته .. والكل منهم لا ينسى حظَّه من اللطم .. والشَّتم .. والرَّفس .. حتى بعد موته .. عسى أن يشفي بعض ما في نفسه من غِلٍّ وحقد على دين الله وأتباعه .. بينما جند الله في السماء .. كانوا في أشد الشوق إليه .. ليحتفوا به بطريقتهم .. ويفرحوا بحياته من جديد .. وبقدومه عليهم كشهيد.
فلما مات .. وخرجت الروح من جسدها إلى بارئها .. وتلقتها الملائكة فرحين ومُبشرين .. قِيل له مباشرة ، وفي الحال:
) ادْخُلِ الْجَنَّةَ (؛ لينعم بنعيمها وخيراتها وملذاتها .. جزاء إيمانه، وجهاده، ونصحه لقومه، وصبره على البلاء .. فلما رأى ما هو فيه من النعيم والخيرات والمسرات .. بينما قومه لا يزالون ـ كالكلاب المسعورة ـ منشغلين بالانتقام من جسده الطاهر .. قال:
) يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (، ما أنا فيه، وما هم فيه .. ما أنا فيه من النعيم المقيم .. وما هم فيه من الشقاء والضلال المبين .. والانشغال بالاعتداء على جسدي!
ثم يا ليتهم يعلمون:
) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي (؛ ذنبي الذي كان مني قبل أن أتبع المرسلين، الذي لو مت عليه لكنت من الهالكين الخاسرين، ) وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (؛ فأكرمني بالمقامات العالية .. بالمسرات والخيرات .. والعطاء الجزيل .. فإنهم لو علموا ذلك عسى أن يهتدوا .. ويؤمنوا .. ويقلعوا عن شركهم وضلالهم .. فنصح قومه حياً .. وبعد مماته .. رحمه الله، وغفر له .. وزاده شرفاً وتكريماً.
مصداق ذلك في كتاب الله، قوله تعالى:) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران:169. وقوله تعالى:) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (البقرة:154.

عبد المنعم مصطفى حليمة

" أبو بصير الطرطوسي "

17/5/1427 هـ./ 13/6/2006 م.

إرسال تعليق

 
Top