بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد شُرِعَ الجهاد في سبيل الله للحفاظ على مقاصد الإسلام الكليَّة وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو العِرض، والمال، ومن المال الأرض؛ إذ لا قيام ووجود لمقاصد الإسلام الأخرى الآنفة الذكر ـ على الوجه الأكمل ـ من دون وجود أرض تحتضنها، وتحميها، وتُحافظ عليها.
وشرطه: المتابعة للسنَّة أو الموافقة لأحكام الشريعة وحدودها، والإخلاص، فإن انتفى أحد الشرطين بطل العمل والأجر، وسُلِب عن الجهاد والمجاهدين صفة ومسمى الجهاد في سبيل الله.
ومن لوازمه: العلم؛ فالعلم يتقدم العمل ويتقدم الجهاد .. فمن انطلق إلى الجهاد بغير علم ولا فقه فيما يتعلق بالجهاد من أحكام ومسائل ضرورية .. وقع في العدوان والإفراط أو التفريط ولا بد، وعن قصدٍ أو غير قصد .. فجاهل الشيء كفاقده لا يُمكن أن يقوم به فضلاً عن أن يعطيه للآخرين.
هذه هي مقاصد وغايات الجهاد، وهذا هو لازمه، وهذه هي شروطه .. التي تُحدد مسار الجهاد ومعالم طريقه، فلا يتجاوزها في شيء.
وعلى قدر انحراف سفينة الجهاد عن تلك المقاصد والغايات، وتلك الشروط .. يكون انحرافها عن المسار الصحيح .. وهي بقدر انحرافها عن هذا المسار تفقد مبررات وجودها .. ودواعي القبول والنصر والتمكين.
لا يُمكن لجماعة من الجماعات أن تعتبر المسائل الفقهية الخلافية التي يُستساغ فيها الاختلاف والاجتهاد ـ وعلماء الأمة قد اختلفوا فيها، ولا يزالون ـ من الثوابت .. والكليات العامة التي لا تقبل النقاش .. والتي يُقاتل من أجلها أو من أجل نصرة قول من جملة الأقوال التي قيلت في المسألة .. ويرتبون على ذلك ولاءً وبراء .. ثم بعد ذلك نعتبر هذه الجماعة جماعة جهادية جادة تسير في الاتجاه والمسار الصحيحين.
لا يُقبل من أي حركة تنتسب للجهاد .. أن يكون تأصيلها النظري وفق قواعد أهل السنَّة والجماعة .. بينما تطبيقها العملي .. وإنزال أحكامها على الواقع والأعيان .. وفق قواعد ومناهج الخوارج الغلاة .. ثم بعد ذلك تُعتبر هذه الحركة الجهادية حركة جهادية جادة تسير في الاتجاه والمسار الصحيحين .. وأن منهجها هو منهج أهل السنة والجماعة.
الجماعة التي تضع السيف في أبناء المسلمين من أهل القبلة .. وغيرهم ممن صان الشرع حرماتهم .. أو يظهر منها نوع استهانة واستهتار بالحرمات .. وبمقاصد الجهاد أو بعضها .. لا يُمكن حينئذٍ أن يُنظر لهذه الجماعة على أنها جماعة جهادية جادة تسير في الاتجاه والمسار الصحيحين.
الجماعة التي تتجرأ على انتهاك الحرمات المصانة شرعاً بالظن، والشبهات، والاحتمالات .. لا يُمكن أن يُنظر إليها على أنها جماعة جهادية جادة تسير في الاتجاه والمسار الصحيحين.
الجماعة التي تتعامل مع القضايا الكبرى العامة بأنانية وعصبية وحزبية .. فتُقدم مصلحتها الخاصة .. ومصلحة أفرادها .. على مصلحة الأمة .. ومصلحة الدين .. وعلى مصلحة وسلامة غيرهم من المسلمين .. لا يُمكن حينئذٍ أن يُنظَر لهذه الجماعة على أنها جماعة جهادية جادة تسير في الاتجاه والمسار الصحيحين.
الجماعة التي تكون جل حركتها وعملها في الساحات المتشابهة المُختلف عليها .. والتي هي مثار جدل بين المسلمين وفقهائهم .. مع توفر الساحات المحكمة التي لا خلاف عليها .. لا يُمكن حينئذٍ أن يُنظَر لهذه الجماعة على أنها جماعة جهادية جادة تسير في الاتجاه والمسار الصحيحين.
عندما تقدم جماعة من الجماعات حب التشفي والانتقام على الحكم الشرعي .. والمتابعة للسنَّة .. لا يُمكن حينئذٍ أن يُنظَر لهذه الجماعة على أنها جماعة جهادية جادة تسير في الاتجاه والمسار الصحيحين.
أخوف ما يُخاف على سفينة الجهاد أن يتسلط عليها .. وعلى قيادتها .. أفراد يجنحون إلى الغلو والتشدد والتنطع في الدين .. والاستهانة بالحرمات المصانة شرعاً .. فإن حصل ذلك أو شيء منه .. لا تسأل حينئذٍ عن درجة الانحراف والهلكة التي يُمكن أن تُصيب حركة الجهاد .. والأمة من ورائها .. وعن العواقب الوخيمة التي يُمكن أن تحصل من جراء ذلك!
فإن حصل لحركة الجهاد الانحراف عن المسار الصحيح ـ المباين لمناهج أهل الغلو والإرجاء، والإفراط والتفريط ـ فما هي النتائج المتوقعة، والتي يُمكن أن تقع:
1- تأخير النصر والتمكين .. لأن النصر والتمكين يُشترط لهما الطاعة لله ولرسوله r .. والاستقامة على المنهج القويم الذي كان عليه النبي r وأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين .. كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
2- تسليط العدو .. والاستئصال المُبكر للقائمين على تلك الجماعة أو المجموعات، وللمنخرطين فيها .. لأن البغي، والظلم، والغدر .. كل ذلك عواقبه وخيمة .. وعقوبته مستعجلة في الدنيا قبل الآخرة .. كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، فسنن الله في خلقه لا تُحابي أحداً.
3- تشويه صورة الإسلام .. وصورة عظمة الجهاد في الإسلام .. في أذهان كثير من الناس .. مما يؤدي إلى تنفيرهم وصدهم عن دين الله .. وهذه نتيجة يدفع العدو لأجلها الغالي والنفيس!
4- تخلي الناس عن احتضان وتبني ودعم تلك الجماعات .. وبخاصة إن أدركوا أن هذه الجماعات تعمل بطريقة لا تُبالي معها لمصالحهم وحرماتهم وحقوقهم .. في شيء .. ضررها يغلب نفعها .. والملام حينئذٍ هم القائمون على تلك الجماعة أو الجماعات لا غيرهم.
لا ينبغي ولا يجوز أن نضع الشعوب المسلمة بين خيارين لا ثالث لهما: إما الرضى بهذه الجماعة أو تلك على ما هي عليه من انحراف وغلو وممارسات خاطئة خطيرة تحصل باسم الإسلام والدين ـ والإسلام منها براء ـ وإما الرضى بالطاغوت وحكمه ونظامه ـ بمعنى السكوت عليه والتعامل معه بتقية ومداراة ـ والاستفادة بما يمن به عليهم ويعدهم به من الأمن والرخاء .. وفي كثير من الأحيان يحصل التردد ويصعب الاختيار .. ثم إن أخطأوا في الاختيار ـ طلباً للسلامة والأمان .. وهرباً من ظلم وطغيان هذا الفريق أو ذاك ـ ضيقنا عليهم ساحة الأعذار .. وأسرعنا في تكفيرهم، وانتهاك حرماتهم .. فهذا لا يجوز، وهو من فتنة الناس عن دينهم!
5- في مرحلة من المراحل قد يكتشف القائمون على هذه الجماعات غلوهم وخطأهم وانحرافهم عن المسار .. وأنهم قد أسرفوا في القتل .. فيحملون أنفسهم على المراجعة والتراجع .. والاعتذار عما يجوز الاعتذار عنه ومالا يجوز .. بصورة هي أقرب للارتكاس، والارتداد، والانتكاس .. فيقابلون الخطأ بخطئٍ آخر .. والانحراف بانحراف آخر قد يكون أشد خطراً عليهم وعلى دينهم من الانحراف الأول .. وهذه النتيجة متوقعة وغير مستبعدة ممن يتربى على انتهاج الخطأ منذ انطلاقته الأولى .. فيكونون بفعلهم هذا كشهداء زور على الإسلام .. وعلى الجهاد في الإسلام .. وعلى مبادئ وقيم الإسلام .. في حالة الحرب والسلم سواء!
6- الإطالة من حياة الطواغيت الظالمين .. وحياة أنظمتهم الفاسدة الظالمة .. لأن الطاغوت هو المستفيد الأكبر من وراء هذه النتائج .. ومن وراء هذا الانحرافات والممارسات الخاطئة .. وفي كثير من الأحيان ـ لولا أن البراهين تأتي فيما بعد بخلاف ذلك ـ نكاد نقول أن هذا العمل المنسوب للجهاد والمجاهدين .. لا يُمكن أن يقوم به إلا الطاغوت وحاشيته .. لا يُمكن أن يقوم به إلا العدو .. لأنه هو المستفيد الأوحد من هذا العمل .. لكن وللأسف في كثير من الأحيان تأتي التقارير لتكذب ظننا، وتُخيب فألنا!
انحراف هذه الجماعة أو تلك عن المسار الشرعي الصحيح .. وانتهاجها سُبل الإفراط أو التفريط .. هو الذي يقوي الطواغيت الظالمين على القائمين على تلك الجماعات .. ويجعل لهم عليهم سلطاناً .. وليس نصح الناصحين المشفقين من الدعاة المموحدين الذين ينصحون ويسددون ويسدوا الخلل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .. كما يصور ذلك بعض المشاغبين عندما تأتي نصيحة الدعاة ـ المعروفين بنصرة قضايا الأمة، وقضايا الجهاد ـ بخلاف أهوائهم ورغباتهم، وانتماءاتهم الحزبية العصبية!
كان المجاهدون من سلفنا الصالح يخافون على أنفسهم من ذنوبهم أكثر مما يخافون من جموع العدو، وعتاده، وسلاحه .. وما أكثر الشواهد والأدلة ـ من تاريخنا الإسلامي ـ الدالة على ذلك لو أردنا الاسترسال في الاستدلال.
اعلموا أن المُنكر يُنكَر أيَّاً كان صاحبه .. والخطأ يُرد ويُزال أيَّاً كان صاحبه .. والقيادات الجهادية الجادة والمخلصة لا بد من أن تملك الجرأة على محاسبة النفس .. ومحاسبة أفرادهم الذين ينتمون إليهم وما يصدر عنهم من أعمال وممارسات مخالفة للشرع .. قبل أن يتسع الخرق، ويصعب الترقيع، والاحتواء!
أعلم أن من القيادات الجهادية المعاصرة من لديه ردة فعل تجاه مواقف الإخوان المسلمين القديمة والجديدة من بعض أفرادهم الذين يقومون بواجب الجهاد، وبترجمة بعض أدبيات الإخوان الجهادية على أرض الواقع .. ثم بعد ذلك تتبرأ قيادات الإخوان منهم ومن جهادهم .. كما فعل الإخوان زمن البنا رحمه الله عندما تبرأوا من بعض أفرادهم لما قتلوا الطاغية " محمود فهمي النقراشي باشا " الذي كان الحربة المشرعة لمحاربة الإسلام والمسلمين في زمانه .. وما يترتب عن هذا النهج والتذبذب من انفصام بين الفكرة وتطبيقها، وبين الأفراد وقياداتهم.
وهو حتى لا يكرر نفس النهج، ويقع فيما وقع فيه قادة الإخوان من قبل، ويُحدث هذا الشرخ الكبير بين الأفراد والقادة، وبين الفكرة والعمل بها .. تراه يبارك كل عمل تقوم به مجموعته أو الأفراد الذين ينتمون إليه مهما كان نوع وطبيعة هذا العمل، سواء كان حقاً أم باطلاً .. ويصف أعمالهم ـ على خطأ بعضها ـ بأنها غزوة وغزوات، وفتح ما بعده فتح ..!
ونحن نقول لهذا الأخ الكريم وغيره من الإخوان من قادة العمل الجهادي: كلا المنهجين خطأ: المنهج القائم على التوسع في البراء ليشمل البراء من المجاهدين أنفسهم ومن أعمالهم المشروعة، وغير المشروعة .. والمنهج المقابل القائم على الولاء المطلق والثناء المطلق لكل ما يصدر عن المجاهدين من حق أو باطل، ومن خطأ أو صواب .. فهذا خطأ، وهذا خطأ!
والصواب: وسط بينهما، وهو ما كان عليه النبي r الذي أمرنا بأن نشهد على المحسن بأنه محسن أياً كان هذا المحسن، ونشهد على المسيء بأنه مسيء أيَّاً كان هذا المسيء، وأن ننصف الحق ولو من أنفسنا.
لا بد من أن نقول لمن أصاب الحق من المجاهدين قد أصبت وأحسنت .. جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيراً .. ولمن أخطأ منهم قد أخطأت، والصواب كذا.
إن أخطأ المجاهد .. تبرأنا من خطئه واعتذرنا لمن أخطأ بحقهم .. من دون أن نتوسع في البراء والاعتذار ليشمل البراء من الفعل الخاطئ ومن فاعله سواء، كما حصل مع النبي r لما تبرأ من صنيع خالد بن الوليد t لما قتل أولئك النفر الذين قالوا صبأنا، أرادوا أن يقولوا أسلمنا فلم يُحسنوا التعبير عما يريدون قوله، فقالوا صبأنا صبأنا .. فاستعجل خالد قتلهم، فقال النبي r لما بلغه الخبر:" اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " ثلاثاً، وأصلح خطأه بدفع دية من قتلهم.
فمكانة خالد العظيمة عند النبي r محفوظة ومعلومة .. لكنها لم تمنع النبي r ـ حاشاه ـ من إنصاف الحق من خالد .. ومن البراءة من فعله الخاطئ .. والاعتذار إلى من أخطأ بحقهم.
وكذلك لما أخطأ أسامة بن زيد t عندما قتل في أجواء القتال من قال " لا إله إلا الله " ظناً منه أنه قالها فرقاً وخوفاً من السيف .. فأنكر النبي r عليه صنيعه .. وقال له مستنكراً:" يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!". قال أسامة: يا رسولَ الله إنما كان متعوذاً! فقال r:" أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!" فما زال يكررها على أسامة، حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم!
علماً أن أسامة t من أحب أصحاب رسول الله r إلى قلب رسول الله r .. فحبه محفوظ .. ومكانته محفوظة ومعلومة .. ولكن هذا كله لا يمنع من رد الخطأ والبراءة منه إذا جاء الخطأ من جهته أو طرفه.
أما إذا كان خطأ المجاهد ناتجاً عن تدين بأصول بدعية فاسدة .. مخالفة لأصول أهل السنة والجماعة .. كأصول الخوارج الغلاة .. وكان هذا الخطأ هو ديدنه الدائم .. فحينئذٍ يتوسع البراء ليشمل البراء من الفعل والفاعل نفسه، كما أمر النبي r بالبراء من الخوارج الغلاة أنفسهم، ومن صنائعهم وأخطائهم سواء .. علماً أنهم وصفوا بأنهم من أكثر الناس عبادة، وتلاوة للقرآن .. إلا أنهم مع ذلك يستحلون الحرمات بتأويلات فاسدة، وينشغلون بقتل أهل الإسلام، ويتركون أهل الشرك والأوثان .. ينشغلون بقتل أهل الإسلام بالظن والشبهات، والاحتمالات والتأويلات الفاسدة .. ويسلم منهم طواغيت الكفر والظلم الكبار!
هذا هو المنهج الحق الوسط العدل في التعامل مع المجاهدين وأخطائهم .. لا بد من أن نربي أنفسنا وإخواننا عليه .. ونرقى إلى مستواه هذا إذا أردنا أن يكتب الله النصر لهذا الدين على أيدينا .. وأن نكون سبباً في نصره وعلو كلمته، وليس سبباً في هزيمته، وتخلفه.
) إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (هود:88.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
29/3/1428 هـ/ 16/4/2007 م.