بسم الله الرحمن الرحيم
قد عَلاهُ الشَّيْبُ .. وداهَمَتْهُ الأدْواءُ والأوْجَاعُ .. ودَنَت منه علاماتُ الأجَل .. وفِراقُ الأهلِ والأحِبَّةِ أصبحَ قَابَ قوسينِ أو أدنى .. والهمُّ يَعتَلِجُ قلبَهُ على مَن بَعده من ذريَّتِه .. لا خوفاً عليهم من رزقٍ أو فَقرٍ أو جُوع .. فقد تركَ لهم من أسبابِ العَيشِ ما يَدفعُ عنهم ذلك كُلِّه .. وإنما هو شيءٌ آخر يُشتِّتُ عليه همَّه وحزنَهُ وفِكرَه ...
وهو في شرودِه، وحُزنِِه، وهمِّهِ، وقَلَقِهِ .. وخَلْوَتِه .. يَدخلُ عليه ولَدُه ـ الذي لم يتجاوز من العمرِ عَقْداً من الزمان ـ وهو يرتدي ثوباً أبيض .. تعلو رأسَهُ قبعةٌ بيضاء .. تَغمرهُ الحيويَّةُ .. والنشاطُ .. والأملُ في غدٍ واعد .. ما الذي يُحزِنُك .. ويُقْلِقُك .. ويجعلُكَ شارِدَ الذهنِ والبالِ يا والدي ..؟!
هَلْ رأيتَ مني شغَبَاً أو شيئاً آخر يُغضِبُك .. لأعتذرَ وأتراجعَ عنه؟!
هلْ قصَّرتُ في شيءٍ ينبغي أنْ أقومَ به .. ثم لم أفعلْهُ؟!
الوالِدُ: ليس شيئاً من ذلك يا ولَدِي ..!
الولَدُ: إذاً ما هو .. ما الأمر؟!
الوالِدُ: شيءٌ آخر .. أقوى مِنك .. ومِن عُوْدِك الطري .. أخشى أنَّك لا تفهمهُ الآن .. وهو ما يزيدُ من خوفي وقَلَقِي!
الولَدُ ـ بشَغَفٍ ممزوجٍ بالفضولِ وحُبِّ الاطلاعِ، والثِّقةِ، والتحدِّي ـ: حدِّثني عنه يا والدي .. جَلِّهِ لي .. ستجدني إن شاءَ الله فاهِماً عاقِلاً لكل ما تقول!
الوالِدُ: هذا المكر الضخم المنظَّم .. والمستمر على مدارِ الوقتِ؛ في الليلِ والنهارِ من دونِ انقطاعٍ .. الذي يُحيطُ بك .. إحاطةَ السَّورِ بالمعصَمِ .. ويَتجاذبُكَ إليه من كلِّ حدبٍ وصَوب .. أنْ إِلَيَّ .. إِلَيَّ .. هو الذي أخافهُ عليك!
الولَدُ: ماذا تعني بالمكرِ يا والِدي ..؟!
الوالِدُ: المكرُ هو كلُّ قولٍ أو فعلٍ .. أو وسيلةٍ .. تُزيِّنُ الباطلَ وتُحسِّنُهُ .. وتُشِينُ الحقَّ وتُقبِّحُهُ في أعينِ الناسِ!
المَكْرُ هو ضَرْبٌ من ضُروبِ الخِداع؛ يُظهِرُ الحقَّ باطلاً، والباطِلَ حقاً .. والمعروفَ مُنكراً، والمنكرَ معروفاً .. والفضيلةَ رذيلةً والرذيلَةَ فضيلَةً .. فيخلِطُ الصوَرَ والحقائِقَ والمعاني بعضَها مع بعض .. بطريقةٍ يَصعبُ معها ـ على كثيرٍ من الناسِ ـ التمييزُ فيما بينها .. ومعرفَةُ ما ينفعُ منها مما يضر!
الولَدُ: لو ضربت لي مثالاً عن الوسائل التي تنشرُ ثقافَةَ المكرِ والشرِّ .. لكي أحذَرَها وأكون على بيِّنَةٍ منها؟
الوالِدُ: في كثيرٍ من الأحيانِ قد لا تكونُ المشكلةُ في الوسيلةِ ذاتِها، وإنما في شياطينِ الإنسِ والجنِّ القابعين خلفَها .. ونوعيَّةِ الرَّسائلِ التي يَبثونَها من خِلالِ تلكَ الوسائل .. من هذه الوسائل وسائلُ الإعلامِ المتنوعة والمختلفة: من مِذياعٍ، وسينما، وتلفاز، وأجهزة إلكترونية، وجرائد، ومجلات .. وكتب .. وروايات وقصص هابطة ساقطة .. وملصقات ودعاياتٍ .. ومناهج دراسية باطلة تُفْرَض على الأبناءِ والأجيالِ .. تبثُّ ثقافَةَ الشرِّ والفسَادِ، والرَّذِيلَةِ والمجونِ والشَّكِّ والإلحادِ .. على مَدارِ الوقتِ، ومن دونِ انقطاع!
أضف إلى ذلك أوكار وأماكن اللهوِّ والفساد المنتشرة على جنباتِ الطُّرُقِ .. وفي كلِّ زاويةٍ من زوايا الطريق .. تفترشُ شِباكَها المزخرفَةِ والمُغْريةِ لكلِّ من يمرُّ بجوارِها!
الولَدُ: حقَّاً إنه لأمرٌ مخيفٌ .. ومَكرٌ عظيم .. لكن ما الغَرَضُ من هذا المكرِ كُلِّه .. الذي تُنفَقُ في سبيله مئات الملايين من الدنانير والجنيهات .. ومَن المستفيدُ منه؟!
الوالِدُ: هذا سؤالٌ هامٌّ وكبيرٌ .. أُجِيبُكَ عنه بأقصرِ وأوضحِ عبارةٍ أستطيعُها: الغرَضُ منه ـ يا ولَدي! ـ أن تَكفُرَ باللهِ وتُؤمِنَ بالطاغوتِ .. أن تَعبُدَ الطاغوتَ من دونِ اللهِ عز وجل .. أن يُخرجوا العبادَ من عبادةِ اللهِ وحده إلى عبادةِ العِبادِ .. أن يخرجوا العبادَ من التوحيدِ إلى الشركِ والتنديدِ .. ومِن نورِ اليقينِ إلى ظُلمةِ الشكِّ والإلحادِ .. أن يُطفِئوا نورَ اللهِ في قُلوبِ الناسِ .. ليسهلَ عليهم غزوها بما شاءوا من الأدرانِ والأوساخِ .. هذا هو غرضُهم وبكلِّ وضوحٍ، كما قال تعالى:) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً (سبأ:33.
فهو ليس مَكرُ الليلِ وحسب .. ولا مَكرُ النهارِ وحسب .. بل مَكرٌ متواصِلٌ، يَصِلُ النهارَ بالليلِ، والليلَ بالنهارِ من غير انقطاعٍ ولا تَوقُّفٍ .. الغرَضُ منه:) أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً (؛ أي شركاء وطواغيت يُعبدون من دونِ ـ أو مع ـ الله!
وقال تعالى:) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ (؛ أي صُرِفَت العبادةُ إليه وحدَهُ .. ) اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ (؛ أي نَفَرَت، وأعرَضَت، وتَكبَّرَت .. ) وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ (؛ وهم الشركاءُ والأندادُ والطواغيت؛ فصُرِفَت إليهم العبادةُ من دونِ اللهِ عز وجل ) إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (الزمر:45. يَفرحون ويُسرون!
وقال تعالى:) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (التوبة:32.
هذه هي الحقيقةُ كاملة كلها قد وضعتُها بين يديك يا ولَدِي ..!
الولَدُ: قد سمعتُكَ تكررُ كلمَةَ الطاغوتِ على لسانِكَ ـ يا والدي! ـ أكثَرَ مِن مَرَّةٍ، محذِّراً إيَّايَ منه ومن عبادَتِه .. فمن هو الطاغوت .. وما هي صفاتُهُ التي يُعرَف بها .. هل هو حجرٌ .. أم شجرٌ .. أم بشرٌ .. أم ماذا .. لو تُجَلِّه لي ـ يا والدي! ـ لأجتنبه وأعتزله وأحذَرَه أكثر فأكثر؟!
الوالِدُ: أحسنتَ سؤالاً يا ولَدي .. الطاغُوت: هو كل من ارتضى لنفسه خاصيَّةً أو صِفَةً من خصائص وصفاتِ اللهِ عز وجل وحدَه، فأقرَّهُ الناسُ وتابعوه عليها .. وعبدوه من جهتها .. هذا هو الطاغوت الذي يجب الكفر به والبراءة منه، ومن عبادَتِه، وعابِدِيه.
الولَدُ: لو تبسِّطَ ليَ المعنى .. وتضربَ له الأمثالَ؟
الوالِدُ: مِثالُ ذلك: مِن خصائِصِ وصفاتِ اللهِ تعالى أنَّهُ المحبوبُ لذاتِه، وما سواهُ يُحبُّ له وفيه؛ فيه يُعقَدُ الولاءُ والبراءُ، والحبُّ والبُغضُ .. فإن زعَمَ مخلوقٌ لنفْسِه هذهِ الخاصيَّةِ أو الصِّفةِ .. وطالبَ الناسَ بأن يُوالُوه لذاتِه لأنه فلان، بغضِّ النظرِ عمَّا يَصْدُرُ عنه مِن حقٍّ أو باطلٍ .. ويُلزمهم بأن يوالُوا فيه ويُعادُوا ويُجافُوا فيه .. ثم أنَّ من الناسِ من يقرُّه ويُتابعُه على ذلك .. فهو حينئذٍ طاغوت .. ومن تابعه وأقرَّهُ من الناسِ على هذا الإدعاءِ .. فهو داخل في عبادةِ الطاغوتِ من دونِ اللهِ عز وجل.
مِثَالٌ آخر: من خصائصِ وصفاتِ اللهِ تعالى أنَّه المطاعُ لذاتِه؛ فيُطاع في جميعِ ما أمَر لأنه الله، ولأنهُ المعبودُ بحقٍّ، ولأنه لا يصدرُ عنه سبحانه وتعالى إلا مُطلقُ الحقِّ، ومطلقُ العدلِ؛ لكمال أسمائِه الحسنى وصفاتِه العُليا .. فإن زعمَ مخلوقٌ لنفسِه هذا الزعمُ الكبير؛ فقال: أنا المطاعُ لِذاتي؛ فكلُّ ما يصدرُ عني من أمْرٍ أو قانونٍ مُلزِمٌ للناسِ .. لا يسعهم إلا طاعتي واتباعي .. لا رأيَ لهم إلا ما أرى .. ولا خيارَ ولا حقَّ لهم سوى اتباعي وطاعَتي في كلِّ ما يصدرُ عني .. فهو حينئذٍ ـ بهذا الإدعاءِ الكبير ـ طاغوت .. ومن تابعه وأقره من الناس على هذا الإدعاءِ .. فهو داخلٌ في عبادة الطاغوتِ من دونِ الله عز وجل.
مِثَالٌ آخر: من خصائصِ وصفاتِ اللهِ تعالى أنَّه الحَكَمُ وإليهِ الحُكْمُ؛ لا شريكَ له في الحُكْمِ والتشريعِ؛ فالحقُّ ما حكَمَ عليه الخالقُ سبحانه وتعالى بأنَّه حقٌّ، والباطِلُ ما حكَمَ اللهُ تعالى عليه بأنَّهُ باطلٌ، والحلالُ ما حكمَ اللهُ تعالى عليه بأنهُ حَلالٌ، والحرامُ ما حَكمَ اللهُ تعالى عليه بأنَّه حرامٌ .. فالحكمُ على الأشياءِ إليه وحدَهُ سبحانه وتعالى لا لغيرهِ، كما قال تعالى:) إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف:40. وقال تعالى:) وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (الكهف:26.
فإن زعَمَ مخلوقٌ لنفسِه هذا الحقِّ، وقالَ: الحكمُ لي، ولي الحقُّ في أن أُشَرِّعَ، وأحلِّلَ، وأحرِّمَ، وأن أحكمَ على الأشياءِ بالتحسيِن والتقبيحِ من تِلقاءِ نفسي من دونِ اللهِ عز وجل .. فهو حينئذٍ ـ بهذا الإدعاء الكبير الكاذِب ـ طاغوتٌ .. ومن تابَعَهُ وأقرَّه من الناسِ على هذا الإدعاءِ .. فهو داخلٌ في عبادةِ الطاغوتِ من دونِ اللهِ عز وجل.
مِثَالٌ آخر: من خصائصِ وصفاتِ الله تعالى أنه تعالى يعلَمُ الغيبَ، وما كان وما سيكونُ .. وأن الضرَّ والنفعَ بيدِه، وأنَّه تعالى وحدَهُ القادِرُ على جَلْبِ النفْعِ لمن يشاء، وأن يدفَعَ الضرَّ عمن يشاء .. فإن زعمَ مخلوقٌ لنفسِه شيئاً من ذلك .. ثم من الناس من يُتابعُهُ ويقرُّه على ذلك .. فهو حينئذٍ بهذا الزعمِ والإدعاءِ طاغوتٌ .. ومن يُتابِعُهُ ويُقِرُّهُ من الناسِ على هذا الزَّعمِ والإدِّعاءِ .. فهو داخِلٌ في عبادة الطاغوتِ من دون اللهِ عز وجل.
هل تريدُني أن أزيدَكَ أمثلةً .. أم فيما تقدم كفاية؟
الولَدُ: بل فيما تقدم كفايةٌ .. فالمسألةُ أصبحت واضحةً لي ولله الحمد .. جزاكَ اللهُ خيراً ـ يا والِدي! ـ من أبٍ ومُعلمٍ ومُرشِدٍ.
الوالِدُ: إن عَلِمْتَ ذلك ـ يا ولدي! ـ عَلِمتَ كم هم هؤلاءِ الطواغيتِ الذين يَسْتَشْرِفُونَ ـ في زماننا ـ خصائِصَ الألوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ مِن دونِ اللهِ عز وجل .. وكم هم هؤلاء الذين يَعبدونَ الطاغوتَ من دونِ اللهِ عز وجل .. ثم يحسبونَ أنهم على شيءٍ أو أنهم ممن يُحسِنونَ صُنعَاً .. فإيَّاكَ إيَّاكَ ـ يا ولدي ـ أن تدخلَ يوماً في عبادةِ الطاغوتِ وأنتَ لا تدري!
الولَدُ: ما العاصِمُ من ذلك كلِّه .. كيفَ لأحَدِنا وسَطَ هذه الفتنِ المائجة .. أن يحفظَ نَفْسَهُ من الانسيابِ والانزلاقِ خَلْفَهَا؟!
الوالِدُ: العاصِمُ مِن ذلك كُلِّه وما سوى ذلك من الفِتن .. الدُّعاءُ أولاً؛ فتَسألِ اللهَ السَّلامَةَ، وأن يُديمَ عليكَ حِفظَه ونِعَمَهُ .. ثانياً: في الالتزامِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وفقَ فَهمِ الصحابةِ والتَّابعينَ لهم بإحسَانٍ إلى يومِ الدينِ .. فتلتزم غَرْزَهما .. وتَدورُ معهما حيثُما دارا .. فمن التزم غرزَ الكتابِ والسُّنَّةِ لا يضلُّ بعد ذلك أبَداً.
واعلم يا ولدي أن الإناءَ ينضَحُ ما فيه .. فإن ملأته ماءً طاهراً نظيفاً نضحَ ماءً طاهِراً نظيفاً .. وإن ملأتَهُ ماءً نجِساً ممزوجاً بالأوساخِ والأدرانِ .. نضح الإناءُ ما فيه من أوساخٍ وأدرانٍ .. فما تزرعه تحصده .. وكذلك وعاءُ الرأسِ؛ فإن ملأته حَقَّاً وخيراً وعلماً نافعاً .. نضَحَ حقاً وخيراً وعِلماً نافعاً .. ونطقتَ بالحكمة .. وإن ملأتَه باطلاً وعِلماً ضاراً .. نضحَ باطلاً وعلماً ضاراً .. ونطقت بالفتنةِ والهوى .. فتؤذِي بذلك نفسَكَ والآخرين .. فأنتَ وما يُلقَى في وعاءِ رأسك وعقلِكَ .. فاحذَر أن يُلقَى فيه إلا حقَّاً وخيراً، وما ينفعُكَ وينفعُ الناسَ .. فكما لا تسمحُ للآخرين أن يَقذِفوا في معدتِكَ الطعامَ الضارَّ الفاسِدَ والملوَّث .. حتى لا تحصل لديك تشوهاتٌ مرضيَّةٌ وجسديَّةٌ يَصعبُ عليك استئصالُها وعلاجُها .. كذلك ينبغي عليك أن لا تسمحَ لهم أن يَقذفوا في وعاءِ رأسِك وعقلِكَ الطريّ الأفكارَ والقِيمَ والمبادئَ الضارَّةِ الفاسِدةِ .. حتى لا تحصل لديكَ تشوهاتٌ وتورماتٌ فكرية وثقافية وعقديَّةٍ .. تُشكِّل عندك سلوكياتٍ منحرفةٍ وخاطئةٍ .. يَصعبُ عليك فيما بعد علاجُها أو استئصالها .. فتَضِلَّ وتُضِل .. وتَهْلَكَ وتُهلِك .. ثم بعد ذلك قد تحسبُ نفسكَ أنَّك ممن يُحسِنُون صُنعاً!
الولَدُ: لكن كيف لي أن أُميِّزَ بين النَّافِعِ من الضَّارِ مما يُعرَضُ عليَّ من أفكار ..؟!
الوالِدُ: اعرضها على الميزان؛ فالميزانُ هو الذي يَكشِفُ لكَ النافِعَ من الضَّارِّ مما يُعرَضُ عليكَ من أفكار ..!
الولَدُ: أيُّ ميزانٍ .. وهل للأفكارِ والقِيَمِ ميزانٌ تُوزَن به؟!
الوالِدُ: الميزانُ هو ما تقدَّمَ ذِكرُهُ؛ هو الكِتابُ والسُّنَّة؛ فما وافقَهُما فهو حَقٌّ .. اقبَلْهُ .. وليس لك إلا أن تقبلَهُ .. وما خالفَهُما .. فهو باطِلٌ .. اطرَحْهُ أرضَاً .. وبَعيداً .. أيَّاً كان صاحِبُهُ أو كان قائِلُه.
كان الوالِدُ ـ وهو يُناصِحُ ولَدَه ـ يتصبَّبُ جبينُهُ عرَقاً .. ويُغالِبُ آلامَه وأوجَاعَهُ .. وأنفاسَه .. وكأنَّه يتكلَّمُ مع ولَدِهِ كلامَ مودِّعٍ ومُفارِق .. وكان الولَدُ قد لاحظَ ذلك على أبيه .. وأدرَك أن أيَّاماً قلائل .. وربما سويعات .. قد تتخطَّفُ منه والدَه الحبيب ليقضيَ نحْبَه .. ويلقَى أجلَه الموعود الذي لا مَفرّ منه .. فيخسر حكمتَهُ وعِلمَه الذي طالما كان يستفيدُ منهما عندما كانت تواجهه المشاكل أو يُراودُه أيُّ سؤال!
الولَدُ: أوصِني يا والدي .. فأنا كُلِّي آذانٌ صَاغِيةٌ لك!
الوالِدُ: اتقِ اللهَ حيثما كُنْتَ .. فالتقوى دواءٌ لكلِّ دَاءٍ أو بلاء .. وفَرَجٌ ومخرَجٌ من كُلِّ كَرْبٍ أو ضِيقٍ .. ما خَابَ ولا خَسِرَ من جرَّبَ التَّقوَى بصِدقٍ ويقينٍ.
ثم الصَّلاة الصلاة .. فحَذَارِ ـ يا ولَدِي! ـ أن تتركَ الصلاةَ .. مهما تكالَبَت واشتدَّت عليك الظروفُ والمحن .. يجبُ عليك أن تقيمَ الصلاةَ؛ حتى لو كنتَ مصلُوباً على أعواد المشانقِ عند الظالمين، ثم أدركتك الصلاةُ وأنت على هذه الحال .. فتصلي إيماءً برأسِك وقَلبِك .. فالصلاةُ لا تُترَك .. فمن تركَ الصلاةَ فلا دِينَ له .. وآخرُ ما يُفقَدُ من الدِّينِ الصلاة!
لا تنسَ ـ إن استطعت ـ أن تصومَ من كل أسبوعٍ يومي الاثنين والخميس .. ففي الصومِ خير كثير لدينك يوم الدين .. ولِصحَّتِك في دنياك .. واعلم أن أكثرَ النَّاسِ جوعاً يومَ القيامةِ أكثرُهُم شَبعَاً في الدنيا.
اجعلْ لنفْسِك في كلِّ يومٍ وِرْداً مِن كتابِ الله .. وقَدْراً محدوداً من القراءاتِ النافعةِ في كتُبِ العِلمِ والفقه .. توخَّى مجالِسَ العِلمِ والذِّكرِ إن وُجِدَت .. وسَلْ نفسكَ في كل يومٍ: هل ازدَدْتَ في هذا اليومِ إيماناً وعِلماً أم لا .. فإن كان الجوابُ نعم، فتحمد الله، وتسأله المزيدَ .. وإن كان لا، فتتنبَّه لتقصيرِك .. وتستدرِك ما قد فاتك في يومِك الجديد!
إن داهمَك حقَّانٍ في آنٍ واحدٍ، وصَعُب عليك العمَلُ بهما معاً: حقُّ اللهِ تعالى وحقُّ العباد .. فتُقدِّم حقَّ الله؛ لأنَّ حقَّ اللهِ مُقَدَّمٌ على حَقِّ العِبادِ .. واعلم أن لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ سبحانه وتعالى.
لا تُصاحِب إلا تَقِيّاً مؤمِناً .. فالصاحِبُ ساحب .. والمرءُ على دينِ خليلِه .. فانظُرْ لنَفْسِكَ خليلاً ترضى أن تلقَى اللهَ على دينِه .. فإن لم تجدْ .. فلا أرى لسلامَتِك وسلامَةِ دينِك مِثْلَ الاعتزالِ والابتعادِ عن قُرَناءِ السُّوء!
خالِقِ الناسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ .. وعامِلْهُم بما تُحبُّ أن يُعامِلوكَ به .. واعلَم أنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى اللهِ أحسَنُهم خُلُقاً .. وأحبّ المسلمين إلى الحبيبِ المصطفى r، وأقربهم منه مجلساً يومَ القيامةِ أحاسِنُهم أخلاقاً.
إياكَ وأبوابَ السلاطين .. فما ازدادَ عبدٌ من السُّلطانِ قُرباً إلا ازدادَ من اللهِ بُعداً .. فرَّ منهم بدينِك كما يفرُّ السَّليمُ الصحيحُ من الأجْرَبِ العليل!
أنصِفِ الحقَّ ولو من نَفْسِك .. وأمرْ بالمعروفِ وانهى عن المنكر .. واصبِرْ على ما أصابَك .. ولا تخشى في اللهِ لَومَةَ لائمٍ .. واعلم أنَّ ما أصابَكَ لم يكنْ ليُخطئك، وما أخطأكَ لم يكن ليُصيبَك.
إيَّاكَ والكِبر .. والكِبرُ رَدُّ الحقِّ واحتقارُ الخَلْقِ .. تواضع للناس .. أحِبَّ الخيرَ للجميع .. كُن رحمةً للناسِ أجمعين .. وبخاصة منهم الفقراء والمساكين.
واعلم أنَّ لأمِّكَ ورَحِمكَ عليك حَقّاً، فاتقِ اللهَ في حقِّهم عليك ...!
وأنا أبوك .. غداً مودِّعُكَ ومُفَارِقُك .. وهو يومٌ آتٍ لا محالَة .. أشعرُ بِدُنوِّهِ .. حقِّي عليكَ أن لا تنسني من الدعاء ....
فقامَ الولَدُ من مجلِسِ أبيه وهو يَجْهَشُ بالبُكاء ...!