بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد كثرت رسائل الإخوان إليَّ الذين يسألونني رأيي .. في الأوضاع المستجدة على
الساحة العراقية .. وبخاصة ظاهرة اقتتال بعض الفصائل الجهادية بعضها مع بعض ..
فريق يتهم فريقاً بالعمالة والخيانة .. والفريق المقابل يتهم الآخر بأنه من
الخوارج الغلاة .. وكيف السبيل للخروج من هذه الفتن التي تركت الحليم حيراناً ..
وأين ينبغي أن يقف المسلم ومع مَن .. فكان لا بد ـ إبراءً للذمة ـ من النصيحة ..
وأن نقول ما نعتقده حقاً وصواباً حول ما تم السؤال عنه .. علماً أن الخائض في هذه
المسائل الكبار لا يسلم عِرضه من الطعن والتشهير والتجريح من قِبل مخالفيه وشانئيه
.. وشغب العامة .. لكن لا بد مما لا بد منه .. فالحق عزيز وحبيب .. لا بد لبيانه
وإنصافه من ضريبة نحتسبها عند الله تعالى، ونرجو القبول.
ابتداءً لا بد من التسليم أن الذين يعيشون خارج الساحة العراقية ـ مهما أُوتوا من
علم ودراية وحكمة، وكانوا على اطلاع بالأحداث ـ لا يملكون الحل الناجع والحاسم لكل
ما ذُكر ويُذكر من مشاكل ومسائل .. إذ جزء كبير من الحل مرتبط بإجراءات عملية واقعية
.. ومقابلات .. واستماع مفصل لهذا الطرف أو ذاك .. وهذا مما لا يملكه الذي يعيش
خارج الساحة .. وبعيداً عنها .. كما لا يكفي في ذلك مجرد الاطلاع على البيانات
التي تتراشقها الأطراف بعضها ضد بعض .. وإن كانت تُعطي للقارئ الفطن بعض الدلالات
.. لكن هذا كله لا يعفي المسلم من النصح وإبداء النصيحة للآخرين، ولو بصورة عامة
توجه وترشد جميع الفرقاء والجماعات الموجودة على الساحة إلى الأفضل والأحسن، وإلى
ما فيه خيري الدنيا والآخرة؛ إذ الدين النصيحة .. والنصيحة باقية وماضية في كل وقت
وزمان وظرف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .. والناس كلهم في خسر ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر:3.
وأختصر نصيحتي للإخوان في العراق وغير العراق ممن يعيشون ظروفاً مشابهة بالعراق
وأهل العراق .. في النقاط التالية:
1- ليعلم الجميع .. أن سبب كل بلاء أصاب ويُصيب الأمة يأتي من جهة الإفراط أو
التفريط .. من جهة الغلو والتشدد ومن جهة الجفاء والتميع .. من جهة الخوارج الغلاة
وخصالهم وأخلاقهم ومن جهة المرجئة وخصالهم وأخلاقهم .. وكلا المنهجين والفريقين
على ضلالٍ مبين .. نبرأ إلى الله تعالى منهما ومن صنائعهم وأخلاقهم .. والحق الذي
لا ريب فيه ـ والذي دل عليه النقل الصحيح، والعقل السليم ـ وسط بينهما .. ومن غير
جنوحٍ إلى إفراط أو تفريط.
من السلامة والحكمة أن تراجع الجماعات ـ العاملة من أجل الإسلام ـ نفسها ـ على
مستوى القيادات والأفراد سواء ـ وتجري بين الفينة والأخرى عملية فحص ومسح وتقييم
وتدقيق .. لتشخيص الذات هل أصيبت بلوثة الغلو أو الإرجاء .. هل تسرّب إليهم أو إلى
أحدٍ من أفرادهم وقياداتهم ـ وهم لا يشعرون ـ شيء من طبائع وأخلاق وصفات الخوارج
الغلاة أو طبائع وأخلاق وصفات أهل الإرجاء والتفريط .. ليستدركوا الخطر والعلاج
واستئصال التورمات الخبيثة قبل أن تتمكن منهم فيصعب عليهم التخلص منها، ومن
آثارها!
لا يحسبن المرء .. ولا يغرّنّه أن له بدايات في الالتزام والطلب كانت على منهج
الوسطية؛ منهج أهل السنة والجماعة .. وبالتالي فهذا كفيل له أن يعصمه ـ طيلة حياته
ـ من الوقوع في شيء من خصال وأخلاق الخوارج الغلاة أو المرجئة الجفاة .. وبالتالي
فهو فوق الشبهة أو أن يُشار إليه بالمرض .. فهذا إن حصل فهو من تلبيس إبليس عليه
ومن الغرور وتزكية النفس على الله بغير علم .. وعلامة ذلك أنه لو عرض نفسه على
عالم مختص لشخَّص له ـ بإذن الله ـ نوع مرضه وحجمه ودرجة انحرافه مهما كان دقيقاً
أو خفياً!
فالمسلم قد يطرأ عليه النفاق .. وكذلك قد يطرأ عليه قليل أو كثير من خصال وأخلاق
أهل الإفراط أو التفريط وهو لا يدري .. لذا لزمت المراقبة .. والمراجعة والمحاسبة
.. وأن نسأل الله تعالى باستمرار أن يثبتنا ويثبت قلوبنا على دينه؛ على الحق وعلى
المنهج الوسط في جميع أمور ديننا ودنيانا .. من غير جنوح إلى غلو أو تفريط.
2- من الأمراض الخطيرة المتفشية عند كثير من الجماعات والعاملين في حقل الدعوة ـ
التي تحتاج إلى انتباه وعلاج مستعجل ـ ظاهرة غياب الإنصاف والعدل في الرضى
والسخط .. في الحب والكره .. وتضخيم أخطاء الطرف المقابل المخالف .. إلى درجة لا
يحتملها الخطأ من أي وجه من الوجوه!
فالصغائر .. نظل نفسرها ونكبِّرها وننفخ فيها .. ونضخمها .. ونُضفي عليها من
أوهامنا وظنوننا .. ونسيء الظن بأصحابها .. إلى أن نجعلها من الكبائر والمهلكات ..
ونتعامل مع أصحابها على أنهم من ذوي الكبائر والموبقات .. فنحرمهم بعضاً أو كثيراً
من حقوقهم.
وكذلك الكبائر .. نظل نفسرها ونكبرها وننفخ فيها .. ونسيء الظن بأصحابها .. ونضفي
عليهم من الأوهام والتخيلات والظنون السيئة .. والتحليلات التي لا تُغني ولا تُسمن
من جوع .. حتى نجعلها بمصاف الكفر الأكبر .. ونكفِّر أصحابها .. ثم يتبع التكفير
الجائر انتهاك الحرمات .. وسفك الدم الحرام بغير حق.
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من قذف ـ وفي
رواية: من رمى ـ مؤمناً بكفرٍ فهو كقتله " البخاري. لأنه بتكفيره له ـ بغير
حق ـ يُسقِط جميع حقوقه التي منحها الإسلامُ إياه.
والأسوأ من هذا كله .. والأخطر منه .. التكفير بالظن والشبهات .. والاحتمالات ..
وبالاجتهاد الخاطئ الذي يحتمل التأويل، وقد يكون لصاحبه أجراً إن سلمت نيته، وبذل
وسعه في طلب الحق ثم أخطأه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا حكم الحاكم
فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " البخاري.
نضرب
مثالاً لتتضح به الصورة بشكل أفضل: المسلم المجاهد في مرحلة من مراحل جهاده .. قد
يجد من الضرورة والحاجة الملحة .. أن يُجالس عدوه .. وأن يتفاوض معه .. بل ويهادنه
ويُصالحه إلى أجل محدد .. وأن يُجيره ويؤمِّنه وفق ضوابط الشرع .. وأن يسمع من
عدوه وعدوه يسمع منه .. فهذه المفردات كلها قد دلت عليها سنة النبي المصطفى صلى
الله عليه وسلم وسيرته مع أعدائه .. فإذا فعل المجاهد الذي يصطلي نار المعركة
شيئاً من ذلك .. أسرع الناس ـ وبخاصة منهم المخالفين الذين يتصيدون له العثرات ـ
في تخطئته .. ثم يتمادون فيتبعون التخطئة بالتخوين .. ثم يتمادون في النقد
والتجريح .. فيتبعون التخوين بوصفه بالعمالة .. وبعد العمالة تأتي مرحلة التكفير
.. وبعد التكفير تأتي مرحلة سفك الدماء وانتهاك الحرمات .. والمأخذ في أصله قد لا
يرقى إلى درجة اعتباره خطأ شرعياً!
المجاهد
يُخطئ ويُصيب .. وقد يضع بعض ما أجازه الشرع له ـ مما تقدم ذكره ـ في غير موضعه ..
وقبل أوانه .. فيخطئ .. وإذا أخطأ قلنا أخطأ .. ونصحناه وسددناه .. لكن هذا لا
ينبغي أن يحملنا على أن نُضخم الخطأ وننفخ فيه ونكبّره .. لنجعله في مصاف الخيانة
.. ومن ثم العمالة والكفر البواح .. لتأتي بعد ذلك مرحلة سفك الدماء وانتهاك
الحرمات!
هذا
الذي نُشير إليه يحصل ـ وللأسف ـ في كثير من الساحات الجهادية المعاصرة .. وعند
التحري والتقصي تجد أن المسائل المتنازع عليها لا تبرر تفريق الكلمة وشق الصف إلى
صفوف .. فضلاً عن كونها مبرراً لنشوب التقاتل والنزاعات المسلحة فيما بين
المجاهدين .. التي يصعب احتواء آثارها فيما بعد .. فعلى جميع الفرقاء المتواجدين
على الساحة أن يتقوا الله في أنفسهم وإخوانهم .. وأن يجتهدوا أن يضعوا الأمور في
نصابها الشرعي الصحيح من غير زيادة ولا نقصان .. وأن يصفوا الأشياء بصفاتها
وأسمائها الشرعية التي تستحقها من غير غلو ولا جفاء.
3-
ليعلم الجميع .. أن النقل الصحيح والعقل السليم .. قد اتفقا واجتمعا ودلا على أن
وحدة الكلمة .. واجتماع الصف .. ونبذ الفرقة والتنازع والاختلاف والشقاق ـ وبخاصة
من يعيش في ساحات الجهاد وأجواء المواجهة مع الغزاة المعتدين ـ من أعظم
المطالب والمقاصد الشرعية، كما قال تعالى:) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُواْ (آل
عمران:103. وقال تعالى:) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ
تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ (الأنفال:
46.
وفي
الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن الله يرضى لكم أن
تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " مسلم.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد
وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة "[ صحيح سنن
الترمذي:1758 ]. وغيرها من النصوص التي تحض على الجماعة والوحدة .. وتنهى عن
التفرق والاختلاف والتنازع.
وبالتالي
لا يُمكن ولا يجوز أن نفرط بهذا المطلب العظيم .. من أجل مطالب ومقاصد هي أقل منه
شأناً وأهمية.
نجتهد
في أن نُحيي جميع المطالب والمقاصد .. فإن تعثر ذلك .. وكان لا بد من تقديم مطلب
على مطلب آخر قُدم الأهم فالأهم، والأوكد فالأوكد .. وأعظم مطلب ومقصد بعد مطلب
التوحيد .. مطلب الوحدة واجتماع الكلمة.
وعليه
لا ينبغي أن تنتظر الجماعات المجاهدة المتفرقة والمتناحرة ـ الموجودة على الساحة
العراقية وغيرها من الساحات ـ من العلماء والدعاة المخلصين أن يُباركوا أو يؤيدوا
أي ظاهرة تفرق وتقاتل وتفرق بينهم .. وبخاصة في أجواء وظروف المواجهة والقتال مع
العدو .. والغزاة المعتدين الصائلين قابعين في عقر دار المسلمين، يعيثون في الأرض
فساداً!
نعم؛
قد يميل القلب ويستريح إلى منهج وأسلوب وسياسة فريق أو فصيل من فصائل الجهاد
الموجودة هنا أو هناك .. لكن هذا الميل لا يبرر لصاحبه أن يميل كل الميل .. أو أن
يحمل لواء الطعن والتجريح بالفصائل الأخرى .. ويفرق كلمة المسلمين والمجاهدين بعد
اجتماعها .. أو أكثر مما هي متفرقة!
ونصيحتي
للمسلمين الذين يراقبون الأحداث عن بعد .. من خلف أجهزتهم الإلكترونية والإعلامية
.. أن يتقوا الله في إخوانهم .. وفي أمة الإسلام من خلفهم .. فإما أن يقولوا كلمة
توحد ولا تفرق .. وتؤلف بين القلوب .. أو يصمتوا .. ومن صمت نجا .. أما من تابع ..
وأبى إلا أن يحرَّض الفصائل المجاهدة على التفرق والتناحر .. والتقاتل فيما بينهم
.. فقد شارك القوم في الوزر والإثم .. وله ما لهم من الوزر والإثم وإن كان جالساً
في بيته خلف جهازه الإلكتروني .. فالرضى بالشيء كفاعله!
من
السياسات المتبعة للعدو في أرض الجهاد .. أن يفرق المجاهدين أو الجماعة المجاهدة
إلى جماعات متناحرة متنافرة ومتدابرة ـ على مبدأ فرق تسد ـ وأن يهوّش بينهم
ويحملهم على التقاتل فيما بينهم .. ليصفُّوا بعضهم بعضاً .. ثم هو في النهاية ينقض
على المنهكين ممن تبقى من المجاهدين ولم تصفِّه النزاعات الداخلية فيما بين
الجماعات!
وبالتالي
كل من يغذي أو يؤيد هذه السياسة .. التي تؤدي إلى هذه النتائج بين المجاهدين فهو
ليس من أنصار الجهاد .. ولا يُمكن أن يُعتبر من أنصار الجهاد .. وإنما هو من أنصار
الغزاة المعتدين .. علم بذلك أم لم يعلم .. وإن زعم بلسانه ألف مرة خلاف ذلك!
4-
أكدت نصوص الشريعة على أهمية الشورى .. وعلى ضرورة العمل بمبدأ الشورى .. وبخاصة
في القضايا العامة التي تمس مصلحة الأمة .. ومصلحة الجهاد والمجاهدين، كما قال
تعالى:) وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (الشورى:38.
وقال تعالى:) وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ (آل
عمران:159. وهذا الخطاب يوجه لسيد الخلق الذي لا ينطق عن الهوى .. لما في الشورى
من تطييب لخاطر المستشارين .. وتأليف قلوبهم .. وتوحيد كلمتهم وصفوفهم خلف قيادتهم
.. فكيف بمن هو دون المصطفى صلى الله عليه وسلم .. لا شك أن العمل بمبدأ الشورى
بحقه يكون أولى وأوكد.
ثم
أن من حسنات الشورى أن تجعل الجميع يأخذون مواقعهم المناسبة من الأحداث .. وتجعل
الجميع يتحملون مسؤولياتهم عن الأحداث .. بخلاف لو كانت القرارات تؤخذ بطريقة
فردية أنانية .. فحينئذٍ المسؤوليات والمهام كلها تقع على عاتق هذا الفرد أو هؤلاء
الأفراد بعيداً عن الآخرين .. ووحدهم يتحملون نتائج الأحداث .. وأنَّى لهم بهذا
العبء الثقيل!
لذا
لا نرى لفصيل من فصائل المجاهدين ـ في العراق أو غيرها من الساحات ـ أن يفرض نفسه
وقراراته الكبيرة والعامة .. وبخاصة منها الإمارة العامة على بقية الفصائل من
دون أن تكون الأمور بينهم شورى .. وعن تراضٍ بينهم وتشاور .. وبخاصة في مرحلة
الصراع والقتال مع الغزاة المعتدين!
فإن
حصلت الاستهانة بمبدأ الشورى .. وأبى فصيل من الفصائل إلا أن يفرض نفسه على
الجماعات الأخرى .. وعلى المسلمين من خلفهم بالقوة .. فإن النتيجة ستؤول حتماً إلى
التقاتل والتفرق والتنازع .. وسفك الدم الحرام .. كما هو حاصل الآن .. وهذا الذي
ينتظره ويرغبه العدو!
قال
تعالى:) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ
يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (المائدة:14.
وهذا
مثل قيل في النصارى .. ويُحمل على المسلمين إن سنّوا سنتهم فنسوا حظاً من الدين ..
والشورى من أهم حظوظ وأسهم الدين .. فإن النتيجة المتوقعة والمنتظرة أن يُغري الله
العداوة والبغضاء بين أولئك الذين نسوا حظاً من الدين .. ونعيذ إخواننا المجاهدين
من أن ينسوا حظاً من الدين!
5-
الخلافات والنزاعات واردة الحصول بين الجماعات المجاهدة .. لكن لا تُحسم بالتحاكم
إلى السلاح .. فليس لأدنى خلاف أو تنازع يُفزَع إلى السلاح .. وإنما تُحسم
الخلافات بالرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. وهذا لازم
من لوازم الإيمان وشرط له، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ
اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (النساء:59.
وقال تعالى:) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (النساء:65.
6-
ليعلم الجميع .. أننا ـ وغيرنا من الدعاة والعلماء ـ لا يمكن أن نبارك أو نؤيد أو
نبرر سفك الدم الحرام .. أياً كانت الذرائع والدوافع والمبررات التي حملت على سفك
الدم الحرام .. أو كانت الجهة والمسميات التي خلف هذا الحرام!
هذا
المعنى ـ لأهميته ـ قد ذكرناه مراراً وتكراراً .. ونعيد ذكره والتذكير به هنا ..
فالمؤمن لا يزال دينه بخير ما لم يصب دماً حراماً .. وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:" لا يحولنَّ بين أحدكم وبين الجنة وهو ينظر إلى
أبوابها ملء كف دمٍ مسلمٍ أهراقه ظلماً "[السلسلة الصحيحة:7/1133].
أما
هؤلاء المجاهيل؛ مجاهيل الاسم .. والقصد .. والدوافع .. والجهة التي ينتمون إليها
.. والمنهج الذي ينتمون إليه .. الذين يطربون .. ويصفقون .. ويفرحون .. ويُكبرون
لكل قطرة دمٍ تسيل وتُسفك هنا وهناك .. ولو بالحرام .. فهؤلاء من حقنا أن نُسيء
الظن بهم وبدينهم .. وبدوافعهم .. وأن نقول لهم: أنتم وصاحب الوزر سواء ..
فانتظروا واستعدوا ليوم الحساب؛ فنصوص الشريعة قد دلت أن الرضى بالشيء كفاعله ..
والرضى بالذنب كفعل الذنب وإن لم يُباشر فعله .. ونصيحتنا للمجاهدين الصادقين أن
يُعرضوا صفحاً عن شغب هذه الشريحة من الناس، فلا يُصغوا إليهم في شيء .. فضرهم قد
استطار .. وهو أكثر من نفعهم!
وللعلم
فإن من الشيعة الروافض .. وغيرهم ممن يُصنَّف في خانة أعداء الأمة ـ لغرض الإساءة
للجهاد والمجاهدين .. وتنفير الناس عنهم ـ من يتقمص هذا الثوب .. ثوب المزاودة
والحماس الزائد .. والنصرة للمجاهدين ـ تحت أسماء مستعارة مضللة وما أسهل فعل ذلك
عليهم ـ وما في أنفسهم حماس صادق .. ولا نصرة للجهاد ولا للمجاهدين .. وإنما
هو الحقد والكيد والمكر .. فالحذر الحذر عباد الله!
7-
ليعلم الجميع .. كما أننا لا يمكن أن نبارك سفك الدم الحرام كما تقدم .. كذلك لا
يُمكن أن نبارك أو نؤيد الخيانة والعمالة .. والوقوف في خندق أعداء الأمة من
الغزاة الصائلين الصليبيين والصفويين .. ضد المسلمين بعامة .. والمجاهدين منهم
بخاصة .. مهما كانت الذرائع والمبررات الداعية إلى ذلك .. فمظاهرة الكافرين
والمشركين في حربهم على الإسلام والمسلمين .. كفر بواح بالنص، واتفاق جميع أهل
العلم.
قال
تعالى:) لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ
فِي شَيْءٍ (آل
عمران:28.
وقال
تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (المائدة:51.
وقال
تعالى:) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ
إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (المائدة:81.
وهؤلاء
الذين يسمون أنفسهم بمجالس الصحوة ـ الذين آثروا إلا أن يقفوا في خندقٍ واحدٍ مع
الغزاة المعتدين ضد المجاهدين ـ ما هم إلا مجالس الغفوة والغفلة .. ليس فيهم شيء
من معاني الصحوة .. فليفيقوا على أنفسهم .. وليتقوا الله .. وليحذورا أن تحملهم
الثارات وحب الثأر والانتقام .. والانتصاف للنفس على الوقوع في الكفر البواح؛
والمتمثل في الوقوف مع الغزاة الكافرين الصائلين على الإسلام والمسلمين!
فإن
قيل: ما حملنا على هذا الموقف إلا ظلم ذوي القربى لنا من أبنائنا وإخواننا ..؟!
نقول
لهم: الظُّلمُ ـ على افتراض وجوده ـ يُنكر ويُرد .. ويواجه .. ونبرأ إلى الله منه
.. والمظلوم يُنتصَف من ظالمه .. لكن ليس من الانتصاف أو العدل أن يضع المظلوم يده
بيد الكافر الغازي المعتدي على من ظلمه من المسلمين .. فالظلم لا يبرر الوقوع في
الظلم الأكبر .. ولا يُدفَع بظلم أكبر منه، والمتمثل في الكفر والشرك، والوقوف في
صف الغزاة الكافرين على البلاد والعباد، كما قال تعالى:) إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان:13.
فالظلم
يُنكر .. لكن لا يُنكر بما هو أنكر وأخطر منه ظلماً وعدواناً .. ومن عقيدة أهل
السنة والجماعة أن الظالم الكافر الصائل إذا كان لا يندفع كفره وظلمه وعدوانه إلا
بالقتال مع الظالم المسلم .. جاز بل وجب القتال مع الظالم المسلم لدفع ظلم وعدوان
الظالم الكافر الصائل الأشد ظلماً وعدواناً، من قبيل دفع الضرر الأكبر بالضرر
الأصغر، كما في الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن
الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم:"
إن الله تعالى يؤيد هذا الدين بأقوامٍ لا خلاق لهم "[صحيح الجامع: 1866].
قال
شيخ الإسلام في الفتاوى 28/506:" من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر
وفاجر؛ فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، كما أخبر
بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار، أو
مع عسكر كثير الفجور؛ فإنه لا بد من أحد أمرين: إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك
استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضرراً في الدين والدنيا، وإما الغزو مع الأمير
الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين، وإقامة أكثر شرائع الإسلام، وإن لم يكن إقامة
جميعها. فهذا هو الواجب في هذه الصورة، وكل ما أشبهها؛ بل كثير من الغزو الحاصل
بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه ا- هـ.
8-
جانب هام من جوانب الفقه والسياسة الشرعية طالما أشرنا إليه في مقالاتنا .. نعيد
التذكير به هنا لأهميته .. وهو ليس كل من جاز قتله شرعاً أو استحق حداً .. استحسن
بالضرورة من الناحية الفقهية والسياسة الشرعية قتله أو إقامة الحد عليه .. من دون
النظر إلى الاستطاعة .. وتقدير المصالح والمفاسد .. وبخاصة في ساحات الحرب والقتال
.. خشية أن يُفتتن المحدود في دينه فيلتحق بالمشركين، فينقلب معهم على المسلمين ..
وقد نقل بعض أهل العلم إجماع الصحابة على أن الحدود لا تُقام في أرض الحرب، مراعاة
لهذا المعنى.
وبالتالي
ليس من الفقه والسياسة الشرعية أن يُقصد ـ في ساحات القتال والحرب ـ إلى كل منافق
خائن فيُقتل .. وبخاصة إن كان من ذوي الجاه والشرف والزعامة .. قد يفتتن الناس من
ورائه بسبب قتله .. كما في الحديث الصحيح: لما قال رأس النفاق عبد الله بن أُبي ـ
وكان زعيماً يُسمع له في قومه قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ـ:
ليخرجنّ الأعزُّ ـ يعني نفسه ـ منها ـ أي من المدينة ـ الأذل ـ يعني النبيَّ صلى
الله عليه وسلم ـ .. فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا
المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" دعه؛ لا يتحدّث الناس أن محمداً
يقتلُ أصحابه " البخاري. لم ينكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم على عمر وصفه
لابن أُبي أنه خائن منافق، وأنه يستحق القتل .. وإنما نهاه عن قتله حتى لا يُقال
.. وحتى لا يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه .. وهذه سمعة منفرة ضررها على الدعوة
والدولة الإسلامية كبير .. وبخاصة في المراحل الأولى من نشوئها وبداياتها .. قد
يستغلها العدو أسوأ استغلال.
نفسه
رأس النفاق وزعيم المنافقين ابن سلول يعتدي ثانية على عِرض النبي صلى الله عليه
وسلم في حادثة الإفك .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من يعذرني من
رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمتُ على أهلي إلا خيراًً، وقد ذكروا رجلاً ما
علمتُ عليه إلا خيراً "، فقام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله أنا والله
أعذرك منه: إن كان من الأوس ضربنا عنُقَه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتَنا
ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة، وهو سيدُ الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً،
ولكن احتملته الحمية، فقال: كذبت؛ لعمر الله لا تَقتُلُه، ولا تقدِرُ على ذلك!
فقام أُسيد بن الحضير، فقال: كذبت؛ لعمر الله لنَقْتُلَنَّه؛ فإنك منافق تجادل عن
المنافقين. فثار الحيَّان: الأوس والخزرج حتى همُّوا ورسولُ الله صلى الله عليه
وسلم على المنبر، فنزل فخفَّضهم حتى سَكتُوا وسكتَ " البخاري.
ثم
بعد ذلك إذا أحدث ابن أبي ابن سلول حدثاً كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه
ويُعنفونه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك من شأنهم:" كيف
ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لرعدت له أُنُف ـ أي لاضطربت
وانتفخت واحمرت له أنوفهم حمية وعصبية ـ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ". قال
عمر: قد والله علمتُ لأمر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركةً من أمري.
فتأملوا
كيف أن أمر مقتل رأس النفاق ابن سلول قد أحدث هذا النوع من الفتنة والشرخ بين أعظم
طائفتين تتشكل منهما طائفة الأنصار أعظم بها وأكرم من طائفة .. والنبي صلى الله
عليه وسلم بين أظهرهم يخفِّضهم ويسكتهم .. ثم تأملوا كيف عالج النبي صلى الله عليه
وسلم الموقف .. وظاهرة هذا الخبيث المنافق .. إلى أن انتهى به الأمر أن قومه الذين
كانوا يغضبون له .. هم الذين يقتلونه لو أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ..
ومات ابن أبي والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بشيء من ذلك .. بل صلى عليه
وكفَّنه بثوبه ـ وفي سيرته صلى الله عليه وسلم مع هذا المنافق من الفوائد العظام
ما يُكتب فيها مجلد لو شئنا التوسع ـ فما بالكم بمن هم دون الأنصار .. فما بالكم
بالناس في زماننا .. والنبي صلى الله عليه وسلم ليس بين أظهرنا .. ينبغي أن نتوقع
من الناس هذا النوع من النعرات والحميات والعصبيات .. والمطلوب منا قبل أن نلومهم
.. أن لا نفتنهم في دينهم .. وأن لا نُعين الشيطان عليهم!
كثير
من الأخطاء والإفرازات السيئة .. قد تكون من عند أنفسنا .. وبسبب من أنفسنا وجهلنا
.. ومن العدل والتقوى والفقه حينئذٍ أن نفقه ذلك .. وأن ننصف الحق من أنفسنا ..
وأن نتحمل مسؤولياتنا عن الأحداث .. قبل أن نرمي المسؤوليات على الآخرين وعلى
مؤامراتهم وخياناتهم!
لا
ينبغي أن نصنع العدو بأنفسنا .. وبسببٍ من عند أنفسنا .. ونكثر أنصاره وأعوانه ..
ثم نمعن القتل فيهم .. من دون أن نراجع أنفسنا .. وسياساتنا ومناهجنا .. وطريقة
تعاملنا مع الناس!
وفي
الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" يَسِّروا ولا
تُعَسِّروا، وبشِّروا ولا تنفروا " متفق عليه.
وقال
صلى الله عليه
وسلم:" إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم:" إن الله رفيق يحب الرفق،
ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه " مسلم.
9- الاجتهاد ما استطعنا أن لا ننسى شيئاً من حظوظ
وواجبات الدين؛ فإن نسيان حظٍّ من حظوظ وأسهم الدين مآله إلى التفرق، والتناحر،
والتباغض، والتقاتل بين الإخوان، وأن يُسلط الله عليهم العدو، كما قال تعالى:) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا
مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ
اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (المائدة:14.
هناك معنى طالما أشرنا إليه وإلى أهميته .. وأثره البالغ
على وحدة وسلامة الصف .. وسلامة المجاهدين .. حتى أن من المرضى ـ لكثرة ما ذكَّرنا
أنفسنا والآخرين بهذا الأمر ـ من هزئ بنا .. واستخفَّ بأحاديث النبيِّ صلى الله
عليه وسلم وتوجيهاته وأوامره .. واتخذها مادة للتندر والاستهزاء .. يحسبون صنيعهم
هذا هيِّناً وهو عند الله عظيم!!
هذا الأمر هو " الوفاء بالعهود واجتناب الغدر
" .. بل الوفاء بما هو شبهة عهد وأمان .. واجتناب ما فيه شبهة غدر ـ مع
المسلمين فيما بينهم، وبين المسلمين وغيرهم ـ لما في الغدر بالعهود من آثار
وخيمة جداً ترتد على المجاهدين وجماعاتهم وأفرادهم وقياداتهم .. من هذه الآثار أن
يُسلط الله عليهم العدو، ويجعل لهم عليهم سلطاناً .. وأن يجعل القتل والقتال بين
تلك الجماعات ذاتها التي لم تحفظ العهود ولم تُراع حرمتها، كما في الحديث فقد صح
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما نقضَ قومٌ العهدَ إلا سُلِّطَ
عليهم عدوُّهم "[صحيح الجامع:3240 ]. وقال صلى الله عليه وسلم:" ما نقضَ
قومٌ العهدَ إلا كان القتلُ بينهم "[صحيح الترغيب:2418].
هذا قول الحبيب المصطفى يا قوم .. وليس قول أبي بصير ..
وإني أعيذكم أن تستخفوا بقول وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم .. فإن حصل شيء من
ذلك ثم واجهتكم آثار المخالفة والنسيان والعصيان، والتي منها أن يكون القتل
والقتال فيما بينكم .. فلا تلوموا حينئذٍ إلا أنفسكم .. اللهم إني قد بلَّغت ـ حتى
هزئوا مني ـ اللهم فاشهد.
10- ليعلم الجميع أن التعصب بجميع ألوانه وأنواعه وصوره
كله مذموم شرعاً وعقلاً؛ سواء منه التعصب المذهبي، أو التعصب الحزبي، أو التعصب
المشيخي؛ القائم على أساس الانتماء إلى بعض الشيوخ والأسماء، أو التعصب القبلي
العشائري، أو التعصب الإقليمي القطري، أو التعصب القومي .. أو التعصب لبعض الأسماء
والمسميات الجهادية على حساب الحق .. حيث بتنا في الآونة الأخيرة نلمس ـ عند بعض
الناس ـ ظاهرة التعصب الشديد لبعض الأسماء والمسميات الجهادية المعاصرة .. فلا
يقبلون في حقهم توجيهاً ولا نصحاً ولا تخطئة .. ومن يفعل وينصح ـ عملاً بتوجيه
النبي صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة " ـ سرعان ما يُساء به الظن،
ويُرمى بالخيانة، ويُكبَّر عليه .. وإن كان ممن له سابقة علم، وجهاد، وبلاء في
الله!!
فالحق الذي لا ريب فيه ـ عند هؤلاء المتعصبة من الناس ـ
هو ما هم عليه، وما تكون عليه تلك الأسماء والمسميات .. وما خالفهم فهو الباطل ..
فأصبحت هذه المسميات ـ عند هؤلاء النفر من الناس ـ هي الميزان وهي المقياس الذي به
يُعرف الحق من الباطل .. والعدو من الصديق .. والتي فيها وعليها يُعقد الولاء
والبراء .. بعيداً عما تأمر به أو تنهى عنه نصوص الشريعة .. وهذا من الغلو ومن
أخلاق الجاهلية التي حذَّرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث، عن
جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: غزونا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد ثابَ
معه ناسٌ من المهاجرين حتى كثُروا، وكان من المهاجرين رجلٌ لَعَّابٌ، فكَسَعَ
أنصارياً ـ أي ضربه على دبره إما بيده أو رجله ـ فغضب الأنصاريُّ غضباً شديداً حتى
تداعَوا، وقال الأنصاريُّ: يا للأنصار، وقال المهاجريُّ: يا للمهاجرين، فخرج
النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:" ما بالُ دَعوَى أهل الجاهليَّة، دعوها
فإنها خبيثةٌ ". وفي رواية:" دعوها فإنها مُنتِنَة "
البخاري.
فتأملوا رغم أن مصطلحي الأنصار والمهاجرين من المسميات
المباركة التي أقرها الشرع وباركها .. لكن لما كان الانتصار على أساس التعصب لها،
قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ما بالُ دَعوَى أهل الجاهليَّة، دعوها فإنها
خبيثةٌ .. دعوها فإنها منتنة ".
وقال صلى الله عليه وسلم:" من قُتِل تحت راية
عميَّةٍ؛ يدعو عصبيةً، أو ينصر عصبيةً، فقتلة جاهلية " مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم:" من قاتل تحت راية
عُمِّيَّةٍ؛ يغضبُ لعصبيةٍ، أو يدعو إلى عصبيةٍ، أو ينصر عصبيَّةً، فقُتِل،
فقِتلَتُهُ جاهلية "[صحيح الجامع: 6227].
وقال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ الله، ما
العصبيَّة؟ قال:" أن تُعينَ قومَكَ على الظلم "[[1][1]].
وقال صلى الله عليه وسلم:" مَن نصرَ قومَه على غير
الحقِّ فهو كالبعير الذي رُدِّيَ، فهو يُنزَعُ بذنَبه "[صحيح سنن أبي داود:
4271].
كما أن هذا النوع من التعصب والغلو مدعاة لتسرب الخونة
والجواسيس إلى صفوف المجاهدين وأنصارهم .. فالمهمة تكون عليهم حينئذٍ سهلة؛ إذ
يكفيهم لكي يكونوا من المقربين أو يُصنفوا من أنصار الجهاد والمجاهدين .. أن
يتعصبوا لهذه الأسماء والمسميات .. وأن ترتفع أصواتهم، وتنتفخ أوداجهم في مدح
وإطراء هذه الأسماء والمسميات .. أو يَطرُوا ويَلعنوا الآخرين .. على أساس هذه
الأسماء والمسميات .. وما أكثر الجماعات الجهادية المعاصرة التي اخترقت ولُدغت من
هذا الجانب .. فالحذر الحذر عباد الله!
11- مما يستدعي التنبيه والتحذير منه كذلك تلك الظاهرة الغريبة المُشينة التي بتنا
نلحظها بوضوح، وهو الإرهاب الفكري والنفسي الذي تُمارسه شريحة من المجهولين ـ ممن
يصنفون أنفسهم بأنهم أنصار الجهاد! ـ ضد العلماء والدعاة المخلصين الذين لهم سابقة
علم وجهاد وبلاء في الله .. فلا يترددون من النيل منهم والطعن بهم وبدينهم
وأعراضهم .. عند أدنى نصيحة أو توجيه يقومون به نحو إخوانهم وأبنائهم من المجاهدين
.. لا تروق لهم ولا تُلامس أهواءهم!
وهذا مما لا شك فيه إلى جانب كونه مخالفاً للشريعة ونصوصها .. وآدابها .. له
تداعيات خطيرة على العمل الإسلامي بعامة والعمل الجهادي بخاصة .. إذ الحركة
الإسلامية بكل أطيافها وتجمعاتها .. تحتاج إلى كلمات ونصائح وتوجيهات وخبرة هؤلاء
الدعاة والعلماء .. أكثر من أي شيء آخر .. والمجاهدون ـ جزاهم الله خيراً ـ من
أكثر الناس إدراكاً لهذا المعنى.
وأنا إذ أشير إلى هذه الظاهرة السلبية المتفشية في المنتديات الحوارية .. محذراً
منها ومن مضاعفاتها وتداعياتها على عطاء الدعاة العاملين وسلامة المجاهدين معاً ..
فإني أشهد أن المجاهدين برآء منها براءة الذئب من دم يوسف u .. وهم حريصون أشد الحرص على
السماع من دعاتهم وعلمائهم وشيوخهم .. أكثر من حرصهم على اقتناء السلاح .. سواء
اختلفوا معهم في بعض التوجيهات والإرشادات أم اتفقوا .. فالمجاهدون ـ كما نعرفهم
وخبرناهم ـ من أكثر الناس تأدباً مع العلماء والدعاة العاملين .. ومن أكثر الناس
معرفة لحقوقهم ومراعاة لها .. لذا من حقنا أن نقول لهؤلاء الذين يُثيرون الفتن
والشغب باسم الانتصار للجهاد والمجاهدين عن بُعد .. حيدوا .. تأدبوا .. لا ترفعوا
أصواتكم .. فالمورد ليس موردكم .. لا تُزاودوا، ولا تتشبعوا بما ليس فيكم ولا
عندكم .. فإن لم تفعلوا فمن حقنا أن نُسيء الظن بكم وبدوافعكم .. ونحذّر منكم ..
ولا تلومونا حينئذٍ!
12- هذا المقال
ـ وما ورد فيه ـ رغم أن المعني منه بالدرجة الأولى الساحة الجهادية في العراق ..
وما يجري على تلك الساحة من أحداث .. إلا أننا نعني منه كذلك جميع الساحات
الجهادية ـ في فلسطين، وأفغانستان، والصومال، وغيرها من الساحات والميادين
الجهادية ـ لمشابهتها للساحة العراقية في كثير من الجزئيات والجوانب .. وللإخوان
في هذه الساحات أن يستفيدوا منه.
وفي
الختام ليعلم إخواني المجاهدين حفظهم الله ـ أينما كانوا ـ أنني أحبهم في الله ..
وأنا منهم وهم مني .. وأنا لهم أرضاً وخادماً .. يسرنا ما يسرهم ويُسيئنا ما
يُسيئهم .. فإن وجدوا في ثنايا كلماتي نوع شدة .. فالشدة ليست مرادة لذاتها ـ معاذ
الله ـ .. فهي شدة الوالد على أبنائه قرَّة عينه، وفلذات كبده .. وإنما ـ أحياناً
ـ تشخيص الداء والدواء .. يقتضي نوع مصارحة ومكاشفة ومناصحة .. قد تُفسَّر من
البعض بأن فيها نوع شدة .. وليس هو المراد .. غفر الله لي ولكم، ونصركم على
أعدائكم أعداء الدين، وسدد خطاكم، ووفقكم لكل ما فيه خير دينكم ودنياكم وأمتكم ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
13/11/1428 هـ. 23/11/2007 م.
ـ ملاحظة: هذا المقال سيُضاف ـ بإذن الله ـ كملحق في
نهاية كتابنا " الجهاد والسياسة الشرعية، مناصحة ومكاشفة للجماعات الجهادية
المعاصرة "، لارتباطه وتعلقه بموضوع ومادة الكتاب.