بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد استوقفني خبر تناولته بعض وسائل الإعلام يتحدث عن الرصيد المالي لبعض النجوم الدعاة المعاصرين الذي تحصَّلُوا عليه من خلال عملهم الدعوي لعام 2007م فقط؛ فكان أعلاهم دخلاً ـ في ذلك العام ـ ذاك الذي بلغ دخله " 2.5 " مليونين ونصف المليون دولار!
فتذكرتُ قوله r:" سيكون قومٌ يأكلون بألسَنَتِهم؛ كما تأكلُ البقرَةُ من الأرضِ "[[1]]. ولا أرى هؤلاء الدعاة النجوم المعنيين من الخبر أعلاه إلا من هؤلاء الذين يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقرة من الأرض!
يا سبحان الله .. كل كلمة .. يقولونها .. يتقاضون عليها أجراً ومالاً .. لا يوجد شيء لله .. وفي سبيل الله!!
أهكذا تكون الدعوة إلى الله .. كل كلمة نقولها .. كل آية نتلوها .. كل موعظة نعظ الناس بها .. كل قصة من قصص القرآن نقصها على مسامع الناس .. نتقاضى عليها مالاً وأجراً .. وكأن الدين سلعة تقبل الاتِّجار .. والمساومة .. والربح والخسارة .. فندعو إلى الله حيثما نجد الأجر والمال .. ونمسك عن الدعوة إلى الله .. إن لم نجد الأجر والمال .. أو إن لم نجد المبلغ من المال المرضي الذي نتقاضاه على الدعوة والتذكير!
صدق رسولُ الله r إذ يقول:" تعَلَّموا القرآنَ، وسَلُوا الله به الجنَّة قبلَ أن يتعلَّمَهُ قومٌ يسألونَ به الدنيا؛ فإنَّ القرآن يتعلَّمهُ ثلاثةٌ: رجلٌ يُباهي به، ورجلٌ يَستأكِلُ به، ورجلٌ يَقرأهُ لله "[[2]]. وقال r:" مَن قرأَ القرآنَ فليسأل الله به؛ فإنه سيجيءُ أقوامٌ يقرؤون القرآنَ يسألون به الناسَ "[[3]].
وقال r:" من تعلَّمَ عِلماً مما يُبتغَى به وجهُ الله، لا يتعلَّمهُ إلا ليُصيبَ به عَرَضاً من الدنيا، لم يجدْ عَرْفَ الجنَّة يومَ القيامة ". يعني ريحها[[4]].
وعن عُبادة بن الصامت، قال: عَلَّمتُ ناساً من أهلِ الصُّفَّةِ الكِتابَ والقُرآن، فأهدَى إليَّ
رجلٌ منهم قَوسَاً. فقلت: ليست بمالٍ، وأرمي عنها في سبيلِ الله U، لآتينَّ رسولَ الله r فلأسألَنَّه فأتيتُه، فقلتُ: يا رسولَ الله! رجلٌ أهدَى إليَّ قَوسَاً مِمَّن كنتُ أُعَلِّمُه الكتابَ والقرآنَ، وليسَت بمالٍ، وأرمي عنها في سبيلِ الله، قال:" إن كنتَ تحبُّ أن تُطوَّقَ طَوقاً مِن نارٍ، فاقبلها " فقلت: ما ترى فيها يا رسولَ الله؟ فقال:" جَمرَةٌ بين كتفيك تقلَّدْتَها أو تَعلَّقْتَها "[[5]]. هذا فيمن يقبل هدية تعينه على الجهاد في سبيل الله .. مقابل تعليمه الناس كتابَ الله تعالى .. فكيف بمن لا يُعلِّم القرآن .. ولا يدعو إلى الله تعالى إلا بعد أن يتقاضى الأجر والمال، ويتفق مع الطرف الآخر على قدر المبلغ الذي سيتقاضاه كأجرٍ على دعوته أو تعليمه لشيء مما يتعلق بعلوم وأحكام القرآن .. كحال هؤلاء النجوم .. ومن سار على نهجهم ودربهم من النجوم الصغار نحو النجومية والشهرة .. حقاً نحن في الزمان الذي أشار إليه سلفنا الصالح، والذي فيه تُلتمَس الدنيا بعمَلِ الآخرة، ويُتَفَقَّه لغير الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ثمة أمرٍ آخر هامٍّ لا بد من ذكره وبيانه .. وهو أن هذه الأموال الطائلة لو تقاضوها على عملهم الدعوي .. وكلماتهم الدعوية وحسب .. لخف المصاب بعض الشيء .. أما أنهم مع ذلك .. تراهم يقتاتون تلك الأموال الطائلة .. مكافأة لهم على كتمانهم للحق ..وجدالهم عن الباطل .. وتزيينهم لحكم الطواغيت الظالمين في أعين الناس .. يفعلون ذلك كله باسم الدين .. والدين من ذلك كله براء .. فحينئذٍ يتغلَّظ الذنب، ويتغلَّظ الجرم، والعقاب، وتتسع دائرة الشبهة والاتهام، كما قال تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة:159. وقال تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (البقرة:174.
وليُعلَم صدق ما نقول .. فليُجرِّبوا ـ هؤلاء النجوم المشهورين إن شاؤوا ـ أن يقولوا كلمة حق في طواغيت الحكم المعاصرين .. وفي أنظمتهم الفاسدة الظالمة .. أو ليقفوا ـ لمرة واحدة فقط ـ في صف الشعوب المقهورة المظلومة المستعبدة .. ضد أنظمتهم الفاسدة الظالمة .. ثم لينظروا كيف سيفقدون كل تلك المخصصات والمنح والعطايا والفرَص .. ويُصبحوا في قائمة أفقر دعاة العصر!!
مما دلَّ أن هذه الأموال التي احتطبوها لم تُجمَع بالجهد والتعب والكسب الحلال .. وإنما جُمعت بالدين .. وبكتمان الحق .. وتزيين الباطل .. والجدال عنه .. ولبئس ما يفعلون!
وليعلم هؤلاء الدعاة النجوم .. ومن سار على دربهم نحو النجومية والشهرة من النجوم الصغار .. أنني ما أردت من كلماتي هذه التشهير .. فخبركم قد شاع .. وضرب الأمصار .. يعلم به القاصي والداني .. وإنما أردت النصح والتذكير .. والتحذير .. من العواقب والخواتيم .. فإنَّا غداً لجميعناً مودعون ومفارقون .. وتاركون وراءنا كل شيء .. الأموال .. والألقاب .. والأضواء .. ولا ينفع العبد عند قدومه على ربه إلا ما كان خالصاً من عمله الصالح لوجه الله تعالى.. نسأل الله تعالى الإخلاص في القول والعمل .. والثبات على الإخلاص في القول والعمل .. وأن يُختَم لنا بالإخلاص .. وبأحب الأعمال والأقوال إلى الله تعالى .. وأن يجعلنا ممن يصدعون بالحق كاملاً .. لا ينقصون ولا يكتمون منه شيئاً .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد النبيِّ الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
19/2/1429 هـ. 26/2/2008 م.