بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد استوقفني حَدَثٌ جَلَل قد تناولته بعض وسائل الإعلام ـ من دون أن يحظى بأي تعليق أو ردة فعل تُذكر من قبل المراقبين والمثقفين، وبخاصة من أذناب وعملاء الغزاة المحتلين ـ مفاده أن الجنود الأمريكيين الصليبيين في العراق اتخذوا القرآن الكريم هدفاً للرماية، في معسكرات التدريب التابعة لهم .. وقد نُشر الخبر مرفقاً بصور للمصاحف التي عليها آثار الرماية .. كما هو مبين أسفل هذا المقال!
فصنيعهم هذا من بركات الديمقراطية التي بشرت ولا تزال تبشر بها أمريكا في العراق بخاصة .. وفي دول المنطقة بعامة .. لم يبقَ من الديمقراطية الأمريكية شيء لم يُمارَس ويُطبق على أرض الواقع سوى أن يجعلوا من القرآن الكريم هدفاً لرماتهم وجنودهم يجربون عليه أسلحتهم ومهاراتهم .. وهاهم قد فعلوا .. وقبل ذلك فعلوا ـ كما في سجونهم؛ سجون الخزي والعار في جوانتنامو، وسجن أبو غريب، وغيرها من السجون العراقية ـ ما هو أشد من ذلك؛ حيث ألقوا بكتاب الله تعالى في المراحيض .. إمعاناً منهم في الاستهانة والاستهتار بمشاعر المسلمين ومقدساتهم!!
يفعلون ذلك بكتاب الله تعالى .. بينما طاغية أمريكا جورج بوش رئيس هؤلاء الجنود الرماة .. يُستقبَل بحفاوة بالغة من قبل حكام السعودية .. ليوقعوا مع ضيفهم الزائر الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية التي ترتد على الغزاة المعتدين ـ الذين يجعلون من كتاب الله هدفاً لرماتهم وجنودهم ـ بالقوة والازدهار والحياة .. وكأن كتاب الله تعالى لا بواكي له من حكام وملوك العرب!
ما قيمة طباعة كتاب الله ـ عند الله ـ على نفقة خادم الحرمين .. ثم في المقابل يضع خادم الحرمين يده بيد من يستهين بكتاب الله، ويجعل من القرآن الكريم هدفاً عسكرياً للرماة والجند .. يتدربون على الرماية عليه في معسكراتهم الخاصة بهم .. أهكذا تكون نصرة الكتاب .. وخدمة الكتاب .. أم أنه الرياء، والنفاق .. والخوف على الملك ومكاسب الأسرة المالكة الحاكمة .. يستدعي مثل هذا التذبذب والتناقض .. والتلون؟!
ومن جهتنا كيف نفهم ونفسر هذا الجرم العظيم، والاعتداء الأثيم ـ المتكرر ـ على كتاب الله تعالى .. وكيف ننظر إليه، وإلى دلالاته؟
أقول: فهو أولاً يدل على الإفلاس الثقافي والقيمي الحضاري عند أمريكا، ودول الغرب النصرانية بعامة في مواجهة تعاليم كتاب الله تعالى وتوجيهاته .. وأثره البالغ في عقول الأجيال المعاصرة والتي تليها .. بالعلم، والحجة، والمنطق .. فيعبرون عن إفلاسهم هذا، وعجزهم هذا .. وجهلهم هذا .. بتصرفاتهم المشينة المخجلة المتخلفة بحق كتاب الله .. والمشار إليها أعلاه .. والسَّفَه ما كان يوماً يُضير الحقَّ شيئاً .. أو يُثنيه عن المضي في الطريق .. وإكمال رسالته في الأرض.
ثانياً: هذا الاعتداء الأثيم على كتاب الله .. يدل على مدى الغيظ والحقد والكراهية التي تعمر صدورهم نحو كتاب الله تعالى .. ونحو الإسلام والمسلمين .. وأن حروبهم ضد المسلمين لها أبعاد وأهداف، وغايات، وبواعث دينية صليبية .. ومهما رفعوا لحروبهم الشعارات البراقة التي تنأى بهم عن الدوافع الدينية الصليبية .. فإنها لا تغير من هذه الحقيقة الظاهرة شيئاً.
صدق الله العظيم إذ قال في كتابه الكريم:) وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا (البقرة:217. وقال تعالى:) قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (آل عمران:118. وقال تعالى:) وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (آل عمران:119.
ثالثاً: يرتكبون هذا الجرم الأثيم .. وفي العراق جهاد في سبيل الله .. ومقاومة للغزاة المحتلين .. وهم يعلمون أن لفعلهم الأثيم هذا ردة فعل من الأبطال المجاهدين .. فكيف لو وجد الغزاةُ العراقَ لقمة سهلة سائغة من غير جهاد ولا مقاومة .. ماذا تراهم كانوا سيفعلون بالعراق .. وبأهل العراق .. ومقدسات المسلمين من أهل العراق .. فحينئذٍ توقعوا حصول كل ما يُشين ويُسيء الحر الكريم .. وفقدان كل غالٍ وعزيز .. اللهم بارك بالمجاهدين في العراق وبجهادهم .. وسدد رميهم .. ووحد شملهم .. وارزقهم .. واحفظهم بحفظك يا أرحم الراحمين.
صدق الله العظيم:) وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج:40.
رابعاً: مما يريدونه من وراء هذا الحدث .. والأحداث المشابهة له .. أن يجسوا ـ بين الفينة والأخرى ـ نبض الأمة .. نبض المسلمين .. هل لا تزال في عروقهم دماء وروح وحياة .. وغيرة على دينهم .. وحرماتهم .. ومقدساتهم .. أم مات فيهم الإحساس بالذل والعار .. والمسؤولية .. وتحولت الدماء في عروقهم إلى ماء .. ليتجرَّؤوا بعد ذلك على التوسع في العدوان .. وبسط النفوذ .. وانتهاك الحرمات!
ونحن نقول لهم: أبشروا بما يسيئكم ويخزيكم .. ويخيِّب فألكم .. ما دام هذا القرآن
الكريم يُتلى في بيوت المسلمين .. وتتوارثه الأجيال .. جيلاً بعد جيل .. وإلى أن يرثَ اللهُ الأرض ومن عليها .. فإن أرحامَ الأمهات لا تنضب من أبطالٍ ومجاهدين .. يسومونكم الذل والعذاب .. في ساحات وميادين النزال والقتال!
خامساً: ليعلم العدو الكافر .. هؤلاء الغزاة المعتدون .. أن الله تعالى من أسمائه الحسنى وصفاته العليا أنه الحليم، الصبور .. الرؤوف .. السّلام .. الرفيق .. اللطيف .. الودود .. الغفور .. الرحمن .. الرحيم .. وأن رحمته قد سبقت غضبه .. لكن إذا أراد أن ينتقم .. ينتقم الانتقام الذي يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا القهرية؛ انتقام العزيز، القدير، الجبّار، القهّار، المتكبر، المتين، القوي .. ولو أنزل نقمته وعذابه بكم .. وبدياركم .. التمسوا السبب في أنفسكم .. وفعالكم .. وجرائمكم .. ولا تلوموا حينئذٍ إلا أنفسكم.
لا يغرنَّكم حلم الله بكم .. وصبره عليكم .. وطول أمد ظلمكم وطغيانكم .. فمن سنن الله تعالى في الظالمين .. أنه تعالى يُملي لهم .. ويوسع عليهم ـ استدراجاً ـ على ما هم عليه من ظلم وكفر وفسوق .. ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وفي ميقات محدد ـ يقدره الله ـ لا يتقدم ولا يتأخر، كما قال تعالى:) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (هود:102.
وقال تعالى:) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (الإسراء:16.
وقال تعالى:) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (الكهف:59.
وقال تعالى:) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ . أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ . أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (الأعراف:97-99.
إن هذا الاعتداء الأثيم المتكرر على كتاب الله تعالى .. كما هو مؤلم للمؤمنين الصادقين .. إلا أنه يحمل في ثناياه بشرى خير بسرعة هلاك الظالمين .. وأفولهم .. وإن غداً لناظره لقريب.
وفي الختام نود أن نقول لهؤلاء الذين امتلأت قلوبهم غيظاً وحقداً وبغضاً لكتاب الله تعالى .. فسلطوا سفهاءهم عليه: القرآن الكريم ـ بنفسه ومن دون سلطان أو حاكم عام يُقاتل دونه أو يعمل على نشره ـ قد غزاكم في عقر داركم .. ورغم كل ما تبذلونه من لغو وتشويش ومكر .. لصرف شعوبكم عن هذا الكتاب العظيم .. وعن النور الذي فيه .. إلا أنه ـ مع كل هذا الكيد والمكر واللغو المستمر على مدار الليل والنهار ـ يجد سبيله إلى قلوب وعقول الكثير من أبنائكم .. ليعلنوا إسلامهم .. وإيمانهم .. من مجرد قراءتهم أو سماعهم لبضع آيات من كتاب
الله تعالى.
أنتم تغزون وتسطون بقوة السلاح على البلاد والعباد .. وتنتهكون حرمات الآمنين .. وتكرهون الناس ـ بالسلاح والقتل والسجن ـ على ديمقراطيتكم الخرقاء .. بينما هذا الكتاب العظيم ـ بمفرده ـ يغزوكم في عقر دياركم وبيوتكم .. ليستحوذ على عقول وقلوب أبنائكم .. وبناتكم .. فيدخل الكثير منهم الإسلام .. بملء اختيارهم وإرادتهم ومن غير أدنى إكراه .. فأي الفريقين .. وأي الغزاة منا .. أولى بالأمن والتحضر .. والثناء الحسن!
كم مضى على حربكم لهذا الكتاب .. وكم هي محاولات وحملات التحريف والتشويه والتعطيل .. التي قمتم بها عبر تاريخكم الحافل بالتآمر والإجرام .. ضد هذا الكتاب العظيم .. وكم هي الأموال الطائلة التي أنفقتموها في هذا السبيل .. ومع ذلك فإن هذا الكتاب يزداد تألَّقاً وانتشاراً .. ويزداد أتباعه ومعتنقوه وحافظوه .. ويزداد إقبال الناس عليه دراسة وفهماً وتدبراً .. هو الكتاب الوحيد في الأرض الذي يحفظه ملايين من العباد في صدورهم عن ظهر غيب .. ألا يدل كل ذلك عندكم على أن هذا الكتاب هو كتاب الله .. وأنه كلام الله .. ليس للبشر فيه أي صنعة أو أثر .. وأن الله تعالى قد تكفل بحفظه، كما قال تعالى:) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9.
وفِّروا عليكم جهدكم .. ومكركم .. وأموالكم .. فأنتم تحاولون عبَثاً .. كتاب قد تكفَّل الله بحفظه فلا ضيعة عليه .. ولا طاقة لكم بمحاربته .. فالله تعالى لا يُحارَب .. كلام الله لا يُحارب .. ومن غرَّه الغرور وأخذته العزة بالإثم وأبى إلا المحاربة .. فمآله إلى الخسران، والخزي في الدنيا والآخرة.
قبلكم ـ عبر القرون الفائتة ـ قد جرب الكثير من أجدادكم وأسلافكم .. محاربة القرآن الكريم .. وبكل ما أوتوا من قوة ومكر .. وبكل الوسائل .. فأين هم الآن .. وأين كتاب الله تعالى .. هم في جحيم .. وكتاب الله تعالى في عِلِّيِّينَ .. فاعتبروا يا أولي الأبصار!
قولوا لسفهائكم .. وفروا عليكم طلقاتكم .. ونيرانكم .. ما تفعلونه لا يضير هذا الكتاب في شيء .. وهو علامة على الإفلاس .. والعجز والفشل .. والتخلف .. ومدعاة لسخرية الناس منكم!
أنتم تملكون الطائرات والصواريخ العابرة للقارات .. والدبابات .. والقنابل النووية والكيمائية .. وغيرها من الأسلحة الفتاكة .. وقد غركم ذلك .. ونحن نملك هذا الكتاب العظيم .. وسترون في النهاية لمن ستكون الغلبة والكلمة في الأرض.
قال تعالى:) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (
الأنبياء:105. وقال تعالى:) إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (الأعراف:128.
ومن بشرى النبي r لأمته ـ أمة القرآن الكريم ـ قوله:" إن الله زوى ـ أي جمع وضم ـ لي الأرض، فرأيت مشارقَها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها "[[1]].
وقال r:" ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيت مدَر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعزُّ الله به الإسلام، وذلاً يُذل به الكفر "[[2]]. وهذا أمر كائن بإذن الله .. ولتعلمن نبأه ولو بعد حين.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
13/5/1429 هـ. 18/5/2008 م.
ـ ملحق: صورة عن بعض المصاحف التي كانت هدفاً عسكرياً لرماية الجنود الأمريكيين في معسكراتهم، والتي وزعتها هيئة علماء المسلمين في العراق .. ولم ينكر قادة الغزاة المحتلين سوء صنيع جنودهم؛ لأن فعلهم هذا كان بأمرٍ منهم أولاً، وهو ـ بزعمهم ـ من ضمن الحريات الشخصية التي تكفلها وتحميها الديمقراطية الأمريكية .. وتغزو البلاد والعباد من أجلها!!