بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله
وحده، والصلاةُ والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
مما تُعاني منه كثير من الحركات، والتجمعات، والشخصيات الإسلامية الدعوية المعاصرة
ظاهرة الحساسية الزائدة من النصيحة والناصحين .. والنقد والناقدين .. فلا يقبلون
نصيحة من ناصح، ولا نقداً من ناقد مُشفِق .. فالكل ـ إلا من رحم الله ـ يُحب أن
يُحمَد .. ويُمدَح .. ولو بما ليس فيه .. قد ألِفوا المدح والإطراء .. وكأنهم فوق
النقد أو النصيحة .. أو أن يُقال لهم: اتقوا الله .. فإما أن تمدح .. وتُطريهم ..
ولو بما ليس فيهم .. وإما أن تسكت، وتكون شاهد زور، وشيطاناً أخرساً!
والله
تعالى يقول:) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (آل عمران:188.
وقال
تعالى عن عبده ونبيه صالح:) يَا قَوْمِ لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ
النَّاصِحِينَ
(الأعراف:79. فالنفور من النصيحة،
والإعراض عنها، وعدم محبة الناصحين من صفات وأخلاقيات الكافرين لا المؤمنين!
غاب
فيهم النقد الذاتي الداخلي البنّاء الجريء المخلص الذي يصف الأشياء بمسمياتها
الحقيقية وبما تستحقه .. والذي يحدد مواضع النقص والخلل والتقصير في العمل
والبرامج، والمناهج .. ومن غير زيادة ولا نقصان .. حيث لا تكاد تجد منهم من
يقول لمن فوقه أو معه في الحزب أو الجماعة اتق الله .. هذا خطأ والصواب من هنا ..
لأن الناصح أو الناقد ـ في أخلاقياتهم الحزبية والتربوية ـ سرعان ما يُسيئون به
الظنَّ؛ وسرعان ما يُصنّفونه كعدو للجماعة أو الحزب .. أو الشيخ .. يستحق
الطرد والعقوبة .. وتعميم التحذير منه .. ومن خطره .. فالتربية الحزبية التي يربون
ويُنشِّئون أفرادهم عليها؛ إما أن تكون معهم فتوافقهم على كل ما يصدر عنهم من حق
أو باطل .. ومن دون تعقيب أو نقاش .. وإما أن تكون ضدهم فترد كل ما عندهم من حق
وباطل .. أما المنهج الوسطي الحق الذي يُلزم المرء بأن يستمع إلى القول فيتبع أحسنه
.. فيقبل ما فيه من حق .. ويرد ما فيه من باطل أو خطأ .. فبينهم وبينه ـ عما يبدو
ـ أمد بعيد!
فربُّوا
أجيالاً من المدَّاحين المتعصبين .. المتحزّبين .. المداهنين المتزلفين .. الذين
يوالون ويُعادون في الحزب أو الجماعة أو الشيخ .. الذين لا يعرفون سوى لغة المدح والإطراء
.. والتأييد .. وهزِّ الرأس إلى أسفل في كل ما يسمعون ويُؤمَرون به .. الحقّ عندهم
ما عليه الحزب أو الجماعة أو الشيخ، والباطل ما يراه الحزب أو الشيخ باطلاً ..
أوداجهم منتفخة .. وأصواتهم مرتفعة على كل مخالفٍ يتجرأ على إبداء رأي أو نقدٍ أو
نصيحة لحزبهم أو جماعتهم أو شيخهم .. فابتليت الأمة بطابور كبير من المنافقين
والمدّاحين المتزلفين .. خاملي الذهن والتفكير .. الذين يشهدون على الأشياء بالزور
وبما ليس فيها!
كل
هذا مما أعاق وصعَّبَ من مهمة الناصحين المُشفقين .. حتى أن كلمة حق تُقال لسلطان
جائر أصبحت أهون وأسهل من كلمة حق تُقال لشيخ أو حزب أو جماعة .. محسوبة على
الدعوة، والعمل الإسلامي!
وفي
المقابل نشهد فوضى في ممارسة النصيحة، وإحياء العمل بواجب التناصح .. ونقد الآخرين
.. وبخاصة إن كان الناصحُ ينتمي إلى حزب أو شيخ .. يختلف عن الحزب أو الشيخ الذي
ينتمي إليه المنصوح .. فحينئذٍ حدِّث عن لهجة التصعيد والتجريح، والتشهير،
والتنابز بالألقاب والأحكام ولا حرج .. وهذا كله يتم ـ بزعمهم ـ باسم النصيحة ..
وإحياء العمل بواجب التناصح فيما بين المسلمين!
يعتدون
.. ويظلمون .. ويكذبون .. باسم النصيحة والتناصح .. والنقد البناء .. وما يحملهم
على ذلك سوى الرغبة في التشفي والانتقام من المنصوح!
وفريق
من هذا الفريق قد غالى في فهم النصيحة .. وممارسة النصيحة أو النقد .. حيث تراهم
يحصرون النصيحة أو النقد في تكفير المنصوح .. فإن خطَّأته وأنصفته وأنصفت الحق منه
.. فهذا لا يكفي .. وأنت لست بناصح .. ولا تكون ناصحاً حتى تصدع بتكفير المنصوح ـ
بغير موجبٍ شرعي ـ وتهدر دمه وحرماته، فحينئذٍ أنت أنت، وإلا فلا ..!
كل
هذا وذاك .. أشعرنا أن المسألة تحتاج إلى ضبط وترشيد وتوجيه .. مما حملنا على أن
نُشْرِع ـ بإذن الله ـ في بيان أهم الآداب والضوابط الشرعية التي ينبغي أن تُحاط
بها النصيحة .. والعملية التناصحية ككل .. ولكن قبل هذا نجيب عن هذا السؤال الهام،
كتقديم ضروري بين يدي البحث:
ـ لماذا النصيحة .. والتأكيد على أهمية النصيحة والتناصح؟
أولاً: لأن النصيحة والعمل بالنصيحة واجب شرعي، لا مناص للمسلم ـ كل بحسب
استطاعته ـ من القيام به نحو الناس أجمعين، وبخاصة منهم إخوانه المسلمين، كما قال
تعالى في سورة العصر:) وَالْعَصْرِ . إِنَّ
الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (؛ أي كل الناس في خسر ) إِلَّا
(؛ أداة استثناء تفيد الحصر والقصر ) الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (؛ فهؤلاء المؤمنين
الذين من صفاتهم أنهم يتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر .. هم المستثنون من الخسران
في الدنيا والآخرة.
وفي
الحديث فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنَّ الدينَ النَّصيحةُ، إنَّ الدينَ النصيحةَ، إنَّ الدينَ
النَّصيحةَ "، قالوا: لمن يا رسولَ الله؟ قال:" لله، وكتابِه، ورسولِه،
وأئِمَّةِ المسلمين، وعامَّتِهم "[[1][1]].
وقوله " إن الدينَ النصيحة "؛ من صيغ العموم؛ أي إن الدين كله النصيحة
.. فالنصيحة الدين، والدين النصيحة .. لا يُقبل من امرئٍ ديناً بلا نصيحة .. وهو
كقوله صلى الله عليه وسلم:" الحجُّ عرَفَة
"[[2][2]]؛
فالموقف في عرفة هو الركن الأعظم للحج .. فلا يُقبل حج بلا عرفة .. كذلك لا يُقبل
دين بلا نصيحة.
ومن
حق المسلم على أخيه المسلم:" أن ينصحَ له إذا غاب أو شَهِدَ " مسلم. أي
يضمر له الخير .. فيعينه ويدله عليه، ويمنع عنه السوء والشرّ .. ومن ذلك تبصيره
بسبل ودروب المجرمين .. حتى لا يردها ويحذرها .. ويكون ذلك في حضرته وغيبته سواء.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" المسلمُ أخو المسلم لا
يظلِمُه ولا يُسْلِمُه .. " متفق عليه. أي لا يدعه يرد موارد الهلكة
والظلم والضياع .. بل يأخذ بيده .. فينصحه ويمنعه من السوء، ويمنع السوء عنه ما
استطاع.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده لا يؤمن
عبدٌ حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه " متفق عليه. وأن يحب المرء
لأخيه ما يحبه لنفسه، هو من النصيحة، بل هو من أعظم ما يدخل في النصيحة ومعانيها.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" المؤمنون كرجلٍ واحد؛ إذا
اشتكى رأسَه اشتكى كلُّه، وإن اشتكى عينَهُ اشتكى كُلُّه " مسلم.
وفي
الحديث القدسي:" حَقَّت محبَّتي على المتناصحين
فيَّ "[[3][3]].
ومن التناصح في الله أن تكون الغاية من نصح الناصح مرضاة الله تعالى، والقيام بما
أمر وأوجب نحو المنصوح .. لا يقصد من نصحه سمعة ولا رياء .. ولا استعلاءً .. ولا
عرَضاً من أعراض الدنيا!
وقال صلى الله
عليه وسلم:" المؤمنُ مرآةُ المؤمنِ، والمؤمنُ
أخو المؤمِن، يكفُّ عليه ضَيعَتَهُ[[4][4]]، ويحوطُه[[5][5]] من ورائه "[[6][6]].
وقوله صلى
الله عليه وسلم:" المؤمنُ مرآةُ المؤمنِ "؛
أي كما يرى المرء نفسه من خلال المرآة .. فيهتدي إلى عيوبه .. وإلى ما يستدعي
الإصلاح والتصحيح، كذلك المؤمن بالنسبة لأخيه المؤمن فكل منهما مرآة لأخيه .. وكل
منهما يرى نفسه في أخيه .. ويدل أخاه إلى جوانب النقص والخلل فيه وما يستدعي
إصلاحه واستدراكه، إن وجد ما يستدعي الإصلاح والاستدراك، كما في الأثر عن أبي
هريرة رضي الله عنه، قال:" المؤمنُ مرآةُ أخيه؛
إذا رأى فيه عَيباً أصلَحَهُ "[[7][7]].
وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناسِ أنْ يقولَ بحقٍّ إذا عَلِمَهُ؛
فإنَّه لا يُقرِّبُ من أجلٍ ولا يُبعدُ من رِزْقٍ "[[8][8]]. وهذا عام
وشامل لكل مسلم؛ فالكل مُطالب بأن ينصح ويصدع بما يعلم من حق، وأن لا يصدنه عن
القيام بهذا الواجب الخوف أو الرهبة من المخلوق؛ فإن ذلك " لا يُقرِّبُ من
أجلٍ ولا يُبعدُ من رِزْقٍ "، إذاً علام الخوف والرهبة من المخلوق ..؟!
ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يَحْقِرَنَّ أحدُكم نَفسَه " قالوا: يا رسولَ الله
كيف يَحقِرُ أحدُنَا نَفْسَه؟ قال:" يَرى أمراً للهِ عليه مقالاً، ثمَّ لا
يَقولُ فيه، فيقولُ اللهُ U يومَ القيامة: ما منعَكَ أن تقولَ فيَّ كَذا وكذا؟ فيقول: خشيةَ
النَّاسِ. فيقولُ: فإيَّايَ كُنتَ أحقَّ أن تخشَى "[[9][9]].
وقال صلى
الله عليه وسلم:" إن الإسلام بدأ غريباً،
و سيعودُ غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء ". قيل: من هم يا رسولَ الله ؟ قال
:" الذين يُصلحون إذا فَسَدَ الناسُ "[[10][10]]. وغيرها كثير من النصوص التي تبين
أن المسلم إما ناصح وإما منصوح .. إما عالم يُعلّم وإما متعلم يطلب العلم .. ولا
يجوز له أن يكون غير ذلك، كما في الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:" الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا
ذِكرُ اللهِ وما والاه، وعالماً أو متعلماً "[[11][11]]. فهذا المستثنى من اللعن؛ ذِكْرُ
اللهِ وما والاه من الطاعات والعبادات، وعالماً أو متعلماً .. وما سوى ذلك ملعون
ممقوت.
وبالتالي لا
مكان في الإسلام لقول القائل هذه قضية داخلية .. محلية .. لا يحق لغير أهلها
المحليين أن يتكلموا فيها .. أو أن يأمروا وينهوا .. أو أن ينصحوا، حيث بتنا نسمع
من يقول من ذوي التوجه الإسلامي: هذه قضية سورية لا يتكلم فيها إلا السوري .. وهذه
قضية ليبية أو تونسية داخلية لا تخص ولا يتكلم بها إلا الليبي أو التونسي .. وهذه
قضية فلسطينية داخلية .. لا يحق لغير الفلسطيني أن يتكلم عنها .. أو يشارك في حل
مشاكلها .. وهكذا كل قضية قطرية محلية تراهم يقولون: أهلها أولى بها .. ولا يحق
لغيرهم أن ينصح أو يشارك في رأي حولها .. وهذا القول يكرس التقسيم والتفرق الحاصل
بين أبناء الأمة .. وهو مردود بالنقل والعقل .. وهو غريب جداً على مبادئ الإسلام
وتوجيهاته .. فالمنكر يُنكَر .. والخطأ يُزال .. والمحسن يقال له: أحسنت؛ فأنت
محسن .. والمسيء يُقال له: أسأت؛ فأنت مسيء .. أيّاً كان المحسن أو المسيء .. ولا
يُشترَط في المُنكِر أو الناصح أن يكون منتمياً لنفس بلد أو جماعة المنكَر عليه أو
المنصوح!
ثانياً: غياب النقد
والنصح يعني التمادي في الخطأ والانحراف والظلم إلى أن يتضخّم ويُصبح واقعاً مُراً
لا فكاك منه، وهذا من لوازمه هلاك البلاد والعباد، والخسران في الدنيا والآخرة ..
وغرق المجتمعات الإنسانية في مستنقع آثن من الأمراض الفتَّاكة المعنوية منها
والمادية، كما قال تعالى:) وَإِذَا
أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا
فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (الإسراء:16.
وقال تعالى:) وَكَمْ
قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً
آخَرِينَ (الأنبياء:11.
وقال تعالى:) فَكَأَيِّنْ
مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (الحج:45.
وقال تعالى:) وَكَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ
تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (القصص:58.
وقال تعالى:) فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (الأعراف:165. وقال تعالى:) وَمَا
كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (هود:117. وقال تعالى:) لُعِنَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ . كَانُواْ لاَ
يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (المائدة:78-79. فالهلاك والدمار
واللعن يتنزل على العباد في حال غياب النصح والناصحين، والإصلاح والمصلحين ..
وعندما تكون الكلمة والغلبة للمفسدين المجرمين.
وفي
الحديث، فقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مثَلُ
القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استَهَمُوا على سفينةٍ؛ فأصابَ
بعضُهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا
على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن
يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " البخاري.
قلت:
ومثل السفينة في الحديث مثل المجتمعات والدول في حياة الناس .. فإن ترك القائمون
على حدود الله؛ وهم المصلحون الناصحون، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر،
المهمة المنوطة بهم؛ وهي النصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وتركوا
المفسدين المخربين أن يُفسدوا في المجتمعات ويبثوا سمومَهم وخرابهم ـ تحت أي ذريعة
كانت ـ فحينئذٍ يهلك الجميع: الصالحون، والطالحون، والمجتمع معهم .. وأن أخذوا على
أيديهم بالزجر والمنع والإنكار، نجوا جميعاً: الصالحون والطالحون، والمجتمع الذي
يعيشون فيه.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الله لا يعذب
العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعملٍ تقدرُ العامة أن تُغيره ولا تُغيره،
فذاك حين يأذن الله في هلاك العامة والخاصة "[[12][12]].
وقال
صلى الله عليه وسلم:" ما مِنْ قومٍ يُعمَلُ
فيهم بالمعاصي، هم أعزُّ منهم وأمنَعُ، لا يُغيِّرُون، إلا عمَّهُمُ اللهُ
بِعِقابٍ
"[[13][13]].
وعن قيس، قال: قال أبو بكرٍ
بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيُّها الناسُ، إنَّكم تقرؤون هذه الآية،
وتضعونَها على غيرِ موضعها:) عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (، وإنَّا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" إن
النَّاس إذا رأَوا الظالمَ فلم يأخذوا على يدَيْهِ أوشَكَ أن يَعُمَّهم اللهُ
بعقابٍ ". وإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما مِن قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، ثمَّ يَقدرون على أن
يُغيروا، ثم لا يُغيِّرُوا، إلا يوشَكُ أن يعمَّهُم اللهُ منه بعقابٍ
"[[14][14]].
وقال
صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده
لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولَتَنهوُنَّ عن المنكرِ، أو ليوشِكَنَّ اللهُ أن يَبعثَ
عليكم عِقاباً من عندِه، ثم لتدْعُنَّه فلا يَستجيبَ لكم "[[15][15]].
وقال
صلى الله عليه وسلم:" إذا رأيتَ أمتي تهابُ
الظالمَ أن تقولَ له أنتَ الظَّالمُ فقد تُودِّعَ منهم "[[16][16]]. أي انتهى خيرهم .. لم يعد يرجى
منهم خير .. فهم الأحياء الأموات!
وعن
زينب بنت جحش رضي الله عنها، قالت: يا
رسُولَ الله أنهلَكُ وفينا الصَّالحون؟ قال:" نعم إذا كثرَ الخبَث "متفق عليه. ولا يكثر الخبث إلا
مع غياب النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ثالثاً: النقد الهادف الذي يُحدد موضع الداء ويُشخّصه، هو الخطوة
الأولى والأساس نحو العلاج، والتصحيح والتغيير؛ إذ لا يُمكن تشخيص الدواء ..
والشروع في تناوله من أجل التغيير إلى الأفضل .. من دون تحديد وتشخيص الداء أولاً
.. وعلى قدر ما يكون تشخيص الداء دقيقاً يكون تشخيص الدواء دقيقاً ومحكماً ..
وتُرجى ثماره وعطاؤه .. وهذا لا يمكن أن يتحقق شيء منه إلا بالنصح .. وبعد فتح
الباب على مصراعيه للنقد الجريء الصادق .. الذي يحدد مواطن الداء ومكامنها!
كيف
للمريض أن يتناول الدواء .. ويرجو الشفاء من مرضه .. وهو لم يحدد ولم يعرف مرضه
بعد .. ولم يسمح للأطباء أن يقولوا له أنت مريض .. وفيك الأمراض العديدة التالية
.. التي تحتاج إلى الأدوية التالية ..؟!
أعجب
لحزب أو جماعة تنشد التغيير، وتُطالب بالتغيير .. ثم هي تُحجِّر على النصح
والناصحين .. والنقد والناقدين .. ويضيق صدرها نحو الناصحين الغيورين من أبناء
الأمة .. ونحو أي نصيحة أو نقد يوجه إليها من ناصح غيور!
لا
يُمكن أن نصنّف أي حزب أو جماعة .. على أنها جماعة راشدة ترقى إلى مستوى هموم
ومشاكل الأمة .. ويمكن أن تنفع في حلّ شيء من هموم ومشاكل الأمة .. ثم هي في
المقابل تجرِّم الناصحين .. ويضيق صدرها نحو النصيحة أو النقد .. أو لا تعتمد
أسلوب النقد الذاتي الجريء الذي يحدد مواطن القصور والتخلف لديها ليتم اجتنابها.
العمل
بالنصيحة والشورى والنقد .. ظاهرة صحية في جسد الأمة والمجتمعات والجماعات ..
وعلامة على حياة الأمة والمجتمعات .. يحيا الجسد بوجودها .. ويموت ويذبل ويضعف
بزوالها أو ضعفها .. والجماعة الراشدة هي التي تربي أفرادها وشبابها على ثقافة
العمل بالتناصح والشورى والنقد البنَّاء .. وتنظم لهم الوسائل التي تنمي مهاراتهم
في هذا المجال .. وتعينهم على ممارسة هذه الثقافة بصورة حضارية راقية أفضل.
لأجل
هذه الأوجه مجتمعة يؤكد الإسلام على أهمية النصيحة والتناصح .. وبعد أن أجبنا عن
السؤال المتقدم: لماذا النصيحة، والتأكيد على أهمية النصيحة والتناصح .. نُشْرِعُ
ـ بإذن الله ـ في بيان أهم الآداب والضوابط التي ينبغي أن تُراعى في عملية النقد
والنصح.
ـ آداب وضوابط النقد والنصيحة:
لكي
تحقق النصيحة ثمارها المرجوة لا بد من أن تُحَاط بالآداب والضوابط التالية:
أولاً: تحديد موضع وموطن الخلاف أو المخالفة التي تحتاج إلى نقدٍ أو
نصيحة .. وتحديد نوعها وحجمها .. هل هي موجودة أولاً أم لا .. وإن كانت موجودة ..
هل هي من الأصول أم من الفروع .. وهل لها مساس بالعقيدة والتوحيد .. أم أنها تتعلق
بالمعاملات وبعض التطبيقات العملية الفقهية .. وهل هي من اختلاف التنوع أم من
اختلاف التضاد .. وهل يُستساغ فيها الاجتهاد ومن ثمَّ الاختلاف أم لا .. ثم ما هو
حجم أثر هذه المخالفة على المخالف ذاته، وعلى الناس والمجتمع من حوله ..؟؟
هذا
التحديد ـ قبل النصيحة أو النقد ـ مهم جداً في عملية النقد والنصيحة، لاجتناب
التعميم في النقد والنصيحة، وحتى لا يُنقد ما لا يستحق ولا يستوجب النقد والنصيحة
.. وحتى لا تضيع الطاقات والأوقات من غير طائل .. ولكي يأتي العلاج في موضعه
الصحيح؛ إذ دقة تشخيص الدواء من دقة تشخيص الداء وتحديده .. وحتى لا تصدر الأحكام
بغير موجب شرعي، وعلى من لا يستحقها .. فلا يُضلل ولا يُفسق من كان خلافه يمكن أن
يُدرج في خانة الاجتهاد المستساغ؛ الذي يكون للمصيب فيه أجران، والمخطئ فيه أجر
واحد.
عندما
يُجرَّم المخالِف وجميع أعماله لمخالفة وقع فيها .. لا يستفيد من النقد والنصيحة
.. وقد لا يُحسن التمييز بين ما يعنيه مما لا يعنيه .. لأن النصيحة استهدفته كله
ما عنده من حق وما عنده من باطل .. والنقد شمل جانبي الحق والباطل عنده .. فلا
يعرف المراد على وجه التحديد من وراء هذا النقد .. وبالتالي من حقه أن يعترض على
الناصح أو الناقد .. وأن يقول له: حدد الشيء الذي تريد نقده .. ولا تُعمم .. لكي
أستفيد من نصحك ونقدك!
مثاله
مثال الطبيب الذي يأتيه مريض يشكو ألماً في رأسه .. فيقول له الطبيب: أنت مريض ..
ومن دون أن يحدد له نوع وحجم مرضه .. ثم يُعطيه أدوية للأمراض كلها .. أو كل ما
تقع عليه يده من الأدوية .. لا يُحسن المريض أن يختار المناسب منها لمرضه .. ولو
تناولها كلها لقتلته وزادت مرضه مرضاً .. مثاله من النقَّاد والناصحين ـ وما
أكثرهم ـ: أن يتوجه الناقد أو الناصح بالنصيحة لمخالف جاءت مخالفته مثلاً من جهة التقصير
في أداء بعض حركات الصلاة .. أو في المعاملات .. فتراه يسرد عليه الاعتقاد الصحيح
.. وما كان عليه السلف من منهج وسلوك .. ومسائل الأصول والوعد والوعيد .. وأدلة
الترغيب والترهيب .. وإن كانت النصيحة مكتوبة .. فلا ينسى أن يقتطع له تفسير بعض
سور القرآن الكريم .. وأقوال أهل العلم فيها ـ لسهولة القطع والتلصيق، وما كان
سهلاً فأكثر منه! ـ إلى أن يدوِّخ المنصوح .. ويجعله في حيرة من أمره ..
ويحمله على أن يسأل: ما الذي يعنيني ومخالفتي .. من هذا الكلام كله .. ولو أعرض
حينئذٍ عن الناصح أو الناقد لا أظنه يُلام.
خطأ
يُرد عليه بأسطر وكلمات محدودات تفي بالغرض .. فيرد عليه بكتب ومجلدات .. ومحاضرات
.. تغيب فيها الغاية أو الغرض من ورائها .. وهو إزالة الخطأ وتصحيحه!
هذا
التحديد في المواضيع التي تحتاج إلى نصيحة أو نقد .. مهم جداً ليس فقط عندما تكون
النصيحة بين المسلمين بعضهم مع بعض .. بل عندما تكون النصيحة بين المسلمين وغيرهم
من المشركين والكافرين، فالله تعالى أمرنا نبدأهم بالقضية الأساس والأهم، وأن نقول
لهم:) تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ
دُونِ اللَّهِ
(آل عمران: 64. وبالتالي من الخطأ
الدعوي الحواري .. وأداء النصيحة للطرف الآخر .. أن نتجاوز هذه القضية الأهم .. أو
نشرك معها قضايا عديدة تشتت الذهن والانتباه عن القضية الأهم والأساس .. كقضايا
المرأة وحقوقها .. أو الموقف من الربا والخمور .. والفساد الأخلاقي .. فهذه قضايا
هامة .. لكن لا ينبغي ولا يُستحسن أن تُطرح أولاً أو مع القضية الأهم والأساس؛ ألا
وهي: قضية من المعبود بحق في الوجود .. الله .. أم المخلوق؟!
إذ
لو حُسِمَت هذه القضية الأهم .. واجتمعت الكلمة عليها .. هان حسم المسائل الأخرى
.. وكل مسألة قد تكون مثار جدل أو خلاف .. وسهل قبولها على الآخرين .. أما إن لم
تُحسَم القضية الأهم والأساس .. صعب جداً حسم أي مسألة بعدها .. أو قبولها ..
وبالتالي حرصاً على الأوقات والطاقات من الضياع من غير طائل .. وترشيداً لعملية
الحوار والنصيحة .. والتزاماً بتوجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية .. يُستحسن
أن لا يُبدأ مع القوم بغير قضية التوحيد الأهم، وهي:) أَلَّا
نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ( .. فإن أجابوا
إليها .. دعوناهم إلى ما سواها .. وهان عليهم حينئذٍ فهمها .. والإجابة إليها، ومن
غير تردد ولا نقاش.
ثانياً: العلم والدراية بالداء والدواء معاً .. إذ لا يكفي ـ في
العملية التناصحية ـ تحديد أو تشخيص الداء من دون تشخيص الدواء والعلاج ذات
العلاقة بالداء .. وأن يُقال للمريض أنت مريض .. أنت مريض .. من دون تشخيص الدواء
.. وطرق العلاج له!
لا
يكفي أن يُقال للكافر أنت كافر من دون أن يُبين له الإيمان .. وكيفية الدخول في
الإيمان .. لا يكفي أن يُقال للمخطئ أنت مخطئ .. من دون أن يُبين له الصواب ..
وطرق الخلاص مما قد أخطأ فيه .. فالاقتصار على تخطئة المخطئ من دون أن يُبين له
الصواب فيما قد أخطأ فيه .. ولا السبيل للخلاص مما قد أخطأ فيه .. تجريم للمخطئ ..
وجلد له .. من غير طائل يُذكر .. وهذا ليس من النصح الراشد في شيء .. وهو مخالف
لمنهج الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ في النصح، والدعوة إلى الله.
ولكي
يتحقق العلم بالداء والدواء معاً، يُشترط شرطان: أولهما العلم والدراية بواقع
الداء .. وصفته .. وكل ما يتعلق به من أسباب .. وآثار ونتائج .. وهو هدف من أهداف
الآيات القرآنية التي تتحدث عن سبل المجرمين المخطئين، كما قال تعالى:) وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (الأنعام:55. فاستبانة طرق المجرمين
على وجه التدقيق والتحقيق .. هدف من أهداف البيان القرآني .. لتُعرَف، فتُجتنَب،
ويُحذَّر منها.
ثانياً،
الدراية بالنصوص الشرعية ذات العلاقة بالداء، وواقعه .. التي تشخّص الدواء والعلاج
.. وأيما تقصير في الشرطين الآنفي الذكر أو أحدهما .. يؤدي ـ ولا بد ـ إلى نتائج
سلبية وعكسية لا تُحمد عُقباها .. وبخلاف ما يُرجى من العملية التناصحية الراشدة؛
ومثاله: الذي يستشرف مهنة الطب .. فيصف دواء لمريض من دون أن يعرف مرضه أولاً ..
فأنَّى للدواء حينئذٍ أن يُصيب مكمن الداء .. أو يعرف مرضه لكن لا يعرف الدواء
الذي يُناسب مرضه .. فيعطيه أي دواء .. وفي كلا الحالتين ستكون النتائج كارثية على
المريض لو تناول الدواء .. وأخذ بنصيحة طبيبه الجاهل!
ومن
الثمار التي تُذكَر لشرط العلم والدراية بالداء والدواء معاً .. تحديد حجم ونوع
الخطأ .. ليأتي تشخيص العلاج بما يتناسب مع حجم ونوع الخطأ .. إذ أحياناً قد لا
يكون الخطأ المشار إليه خطأ .. بل قد يكون مباحاً ومندوباً .. فيظنه الجاهلون أنه
خطأ .. فيتعاملون معه على أنه خطأ، ومع فاعله على أنه مرتكب للخطأ يستحق النصح ..
وهو ليس كذلك!
كم
من عمل مباح ومشروع .. ينكره المنكرون .. ويرتبون عليه موالاة ومعاداة .. وحب وكره
.. تحت حماسة النقد .. والرغبة في النصيحة كما يزعمون .. وسبب ذلك كله مرده إلى
الجهل .. وعلاجه ـ ولتفادي المزالق الآنفة الذكر ـ هو العلم؛ ونعني بالعلم ـ ما
تقدم ذكره ـ العلم والدراية بالداء والدواء ذِي العلاقة بالداء.
ثالثاً: التزام العدل، والإنصاف في النقد أو الشهادة، فيُشهَد على
المحسن بأنه محسن، وعلى قدر ما عنده من إحسان، وعلى المسيء بأنه مسيء، وعلى قدر ما
عنده من إساءة .. ومن غير زيادة ولا نقصان.
فلا
يمنعنَّا خطأ وقع به شخص ما أن ننصف الحق منه .. وأن نبين خطأه فيما قد أخطأ فيه
.. وفي نفس الوقت ننصفه، وننصف ما عنده من حق وخير .. حتى لو كان كافراً أو عدواً
.. أو كان ممن لا نُحِب .. فعدالة الإسلام تُلزمنا بأن ننصف ما عنده من حق إن وجد
.. وأن ننصفه من ظالمه إن ظُلِم، كما قال تعالى:) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة:8.
وقال
تعالى:) إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل:90.
وفي
الحديث القدسي، يقول الرب سبحانه وتعالى:" يا
عبادي إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرَّماً، فلا تظالموا " مسلم. والظلم هو كل ما يُضاد
ويُنافي العدل.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" واشهدوا على المحسن
بأنَّه محسن، وعلى المسيء بأنه مسيء "[[17][17]]. أيَّاً كان هذا المحسن، أو هذا
المسيء.
فالعدل
يستفيد منه الجميع .. ويتمتع به الجميع .. كما أن الظلم يتضرر منه الجميع .. وينفر
منه الجميع.
وكون
أن العدل يستفيد منه الجميع .. حتى العدو .. فلا يصدنَّا ذلك عن أن نحكم بالعدل ..
ونشهد بالعدل .. ونأمر وننهى بالعدل .. ونعامل الآخرين بالعدل .. وذلك لأن الله
تعالى يأمرنا بالعدل بكل صوره ومجالاته .. وينهانا عن الظلم، بكل صوره ومجالاته.
رابعاً: التزام الاعتدال والمنهج الوسطي في الحب والكره، والموقف من
الآخرين .. المنافي للإفراط أو التفريط .. والزيادة أو النقصان .. الاعتدال الذي
يربأ بصاحبه عن الغلو والمبالغة في الإطراء أو النقد والذم.
فمن
لم يتسم بالاعتدال .. وجنح بنفسه إلى الإفراط أو التفريط .. إلى الغلو أو الجفاء
.. فقد ظلم نفسه والآخرين ولا بد .. وجاءت أحكامه على الأشياء خاطئة ظالمة منافية
للحق والحقيقة .. فمن كان يجنح إلى انتهاج الغلو تراه يجنح إلى تضخيم صغائر الذنوب
إلى أن يجعلها في مصاف الكبائر .. ويضخم الكبائر .. وينفخ فيها إلى أن يجعلها في
مصاف الكفر الأكبر .. ويحكم على أصحابها بالكفر والخروج من الإسلام .. ويسلبهم
حقوق الإسلام!
وإن
كان يجنح إلى الجفاء والتفريط .. تراه يجنح إلى تصغير الكبائر إلى صغائر .. وربما
يجعلها في مصاف المكروهات .. والكفر البواح إلى كبائر .. ويحكم على أصحابه
بالإسلام .. ويصرف لهم حقوق الإسلام.
فمن
قبل انطلق الخوارج الغلاة إلى آيات قيلت في الكافرين المجرمين .. فحملوها ـ بغلوهم
وإفراطهم وجهلهم ـ على المؤمنين الموحدين .. فحكموا عليهم بالكفر .. وانتهكوا
حرماتهم بغير حق، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم:" يقتلون
أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان " متفق عليه.
وفي
المقابل انطلق المرجئة أهل الجفاء والتفريط إلى آيات قيلت في المؤمنين الموحدين
فحملوها على الطواغيت المجرمين .. وصرفوا لهم من الحقوق ما يجب للمسلمين .. ومنعوا
ـ بسبب ذلك ـ الأمة من قتالهم وجهادهم!
وهذا
كله مرده إلى انتهاج الغلو أو التفريط .. والابتعاد عن منهج الاعتدال والتوسط في
الحب والكره، وفي الموالاة والمعاداة .. وفي الحكم على الآخرين، وتحديد الموقف
منهم ومن أعمالهم.
من
ثمرات الاعتدال في الحب والكره .. والرضى والسخط .. الاعتدال في النقد والنصح ..
وتحديد المواقف من الآخرين بصورة صحيحة .. أما من يُغالي في الحب أو الكره .. لا
يُتوقع منه الإنصاف في نقده ونصحه للآخرين .. ولا في الحكم عليهم وعلى أعمالهم ..
فهو إذا أحبَّ أفرط في الحب إلى درجة أنه يرى سيئة محبوبه حسنة .. ويرى قبحه
جمالاً .. وتراه لا يقبل أن يُقال في محبوبه ما يُسيئه ولا يرضيه وإن كان حقاً ..
وإذا كره أفرط في الكره والبغض؛ بحيث أنه يرى حسنة من يكرهه سيئة .. ويرى الجميل
فيه قبيحاً .. ولا يقبل أن تُقال فيه كلمة مدح يستحقها .. ولو وقف على سيئة من
سيئاته لضخَّمها إلى أن يجعلها كالجبال الرواسي!
وهذا
مخالف للتوجيه النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم:" " أحبب حبيبكَ هوناً ما، عسى أن يكون بغيضَك يوماً ما، وأبغض
بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبَكَ يوماً ما "[[18][18]].
وصحَّ
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:" لا
يكُن حبُّك كَلَفاً، ولا بغضك تلفاً؛ إذا أحببتَ كَلِفتَ كَلَفَ الصبيِّ، وإذا
أبغَضت أحببت لصاحِبك التَّلف "[[19][19]].
خامساً: توخي المصلحة الراجحة من وراء النقد والنصح؛ فينصح الناصح
حيث يتوقع المصلحة الراجحة من نصحه، فإن رجح لديه العكس .. وأن نصيحته قد تأتي
بمفاسد أو بنتائج سلبية .. أمسك وتوقف، وأرجأ نصحه إلى حينٍ آخر.
لا
يجوز للناصح ـ تحت عنوان النصيحة والنقد ـ أن يُثير الفتن أو أن يُطلق إطلاقات
يستفيد منها العدو أكثر مما يستفيد منها المنصوح .. فيكون كمن قال كلمة حق أُرِيد
منها باطل .. ونصرة للباطل .. وهو يدري أو لا يدري .. وهو بخلاف ما يقتضيه العمل
بأدلة السياسة الشرعية التي تُلزم النظر في المآلات .. وفي المصالح والمفاسد ..
وتقديم المصالح على المفاسد .. وما يكثر نفعه على ما يقل نفعه .. ودفع الضرر
الأكبر بالضرر الأصغر.
سادساً: أن يكون الناصحُ مخلصاً وصادقاً في إرادة الإصلاح، وأن يُشعر
المنصوح أنه يحب له الخير، مُشفق عليه، وأنه لم ينصحه إلا لرغبة إيصال الخير له،
وإبعاد الشرِّ عنه .. فهذا الشعور لدى المنصوح هام جداً .. فإن تحقق لديه استفاد
من النصيحة .. وأقبل على الناصح ونصيحته بكل أحاسيسه ومشاعره، وتفكيره .. وإن لم
يتحقق لديه نفر من الناصح ومن نصيحته .. مهما كانت النصيحة غالية .. لارتيابه
وشعوره بأن الناصح لا يريد له الخير ولا الإصلاح.
هذا
المعنى الهام لا بد من أن يتنبه له الناصح قبل أن يُقدم على بذل ما عنده من نصائح
للآخرين .. هذا إن أراد لنصائحه أن لا تُرد، وأن تُقبل ويُسمع لها عند المعنيين من
نصائحه.
وهو
ـ أي هذا المعنى ـ من هدي الأنبياء وسيرتهم مع قومهم، لعلمهم أنه أدعى في قبول
النصيحة والإصغاء إليها، كما قال تعالى عن عبده ونبيه شعيب .. وبعد أن نصح قومه
بجملة من النصائح القيمة:) إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ
الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (هود:88. وقال تعالى عن عبده ونبيه
صالح:) يَا قَوْمِ لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ (؛ أي أردت لكم
الخير، فلم آلو جهداً في تعريفكم على دروب الخير لتسلكوها، وعلى دروب الشرِّ
لتجتنبوها ) وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ
النَّاصِحِينَ
(الأعراف:79.
سابعاً: اجتناب السباب والفحش في القول، وعبارات التحقير والتصغير ..
والتجريح الشخصي .. عند نقد الآخرين، وبذل النصائح لهم .. فهو أدعى لقبول النصائح
والإصغاء إليها .. كما أن تخليل النصائح أو النقد بعبارات الطعن والسب، والتجريح
الشخصي .. يكون أدعى للنفور، وعدم الإصغاء لنصائح أو كلمات الناصح.
كما
قال تعالى:) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ
(النحل: 125.
وقال
تعالى:) وَقُلْ لِعِبَادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً (الإسراء:53.
وقال
تعالى:) لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً
عَلِيماً
(النساء:148.
وفي
الحديث فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ليس المؤمن بالطَّعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء
"[[20][20]].
وقال
صلى الله عليه وسلم :" إن اللعانين لا يكونون
يوم القيامة شهداء ولا شفعاء "[[21][21]]. أي كثيري اللعن؛ الذين يلتجئون إلى
اللعن لأقل الأسباب وبغير موجبٍ شرعي.
وعن
جابر بن سليم رضي الله عنه قال: قلت يا رسولَ الله اعهد إليَّ ـ وفي رواية: أوصني
ـ، قال صلى الله عليه وسلم: لا تَسُبَّنَّ أحداً ". قال: فما سببتُ بعده حُراً
ولا عبداً، ولا بعيراً ولا شاةً. وفي رواية:" لا
تَسُبَّنَّ شيئاً ". قال: فما سببتُ بعدَ ذلكَ دابَّة ولا إنساناً[[24][24]].
المهم
في النقد والعملية التناصحية .. الإصلاح .. لا ذات النقد أو التشهير بالمنصوح،
والانتقاص من قدره .. وبالتالي يتعين على الناقد أو الناصح أن ينتقي ـ ما استطاع ـ
أدق العبارات والكلمات .. وأحسنها .. وأرقاها .. وأقربها للقلوب .. عسى الله تعالى
أن ينفع بها المنصوحين .. ويضع لها القبول بين العباد.
ثم
أن اللجوء إلى السباب والفحش في القول .. ولأدنى سببٍ .. لا يليق بالناصحين الذين
يعلمون وينشدون الإصلاح .. ويملكون الحُجج والبراهين فيما يُحاججون به وينصحون ..
بل هو من سمات الجاهلين المفلسين ثقافياً وفكرياً الذين لا يعلمون .. حيث تراهم
لجهلهم وعجزهم عن المواجهة، ومقارعة الحجة بالحجة يَلِجُونَ باب الشتم والفحش في
القول، ويستعينون به عند أدنى نقاش أو حوار .. وهؤلاء أولى بالنصيحة من غيرهم ..
فمكانهم الصحيح أن يُنصَحُوا لا أن يَنْصَحُوا .. فجاهل الشيء كفاقده .. وفاقد
الشيء لا يُمكن أن يعطيه للآخرين!
ثامناً: النصيحة منها ما يكون سراً بين الناصح والمنصوح، ومنها ما
يكون علناً وعلى الملأ .. والناصحُ الذي يبتغي الإصلاح عليه أن يُحسن التمييز
بينهما، ويُعطي كل حالة منهما حقها .. وما يُناسبها من النصح .. وإلا وقع في الظلم
والعدوان ولا بد .. وهذا يستدعي منا أن نبين ـ بإيجازٍ ـ صفة الذي يُنصَحُ سِراً،
وصفة الذي يُنصَح علَناً.
1- صِفة الذي يُنصَحُ سِرَّاً: مثاله الذي يقع في معصية عن ضعفٍ،
وعلى وجه التخفي والاستحياء، ثم يراه شخص آخر، أو يُكتشف أمره لشخص آخر .. فهذا
ينبغي أن يُستَرَ ويُنصَح سِرَّاً .. وعلى الشخص الآخر الذي علم منه مخالفته .. أن
يستره ولا يفضحه .. وإن كان ناصحاً يأخذ بيده، وينصحه سراً بينه وبينَه.
كما
في الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من سترَ مسلماً ستره الله يومَ القيامة " متفق
عليه.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" يا معشرَ من آمنَ بلسانه
ولم يدخُلِ الإيمانُ قلبَهُ، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من
اتَّبع عوراتهم يتَّبِعُ اللهُ عورَتَه، ومن يتبعِ اللهُ عورَته يفضحه اللهُ في
بيته "[[26][26]].
فالعقوبة من جنس العمل، فكما عمل على فضح المسلم .. وكشف عورته وزلّته للناس ..
يفضحه الله .. ويكشف عوراته وزلاته للناس .. مهما احتاط لنفسه!
ونحوه
السلطان المسلم الذي يقترف بعض المعاصي أو المخالفات الشخصية التي ترتد آثارها على
شخصه .. ولا يُجاهر بها .. ولا يفرضها على الناس .. ولا يجعلها سنة فيهم .. ثم
يعلم عنه ذلك بعض المقربين إليه .. فالواجب في هذه الحالة .. أن يُنصَح سراً، وأن
لا يُشهَّر به على الملأ .. وأن لا يُبده النصيحة علانية أمام الناس .. فهو أدعى
للإخلاص .. والقبول عند الله وعند المنصوح .. وإذا كان هذا هو الواجب مع من هم
ليسوا من ذوي السلطان والحكم كما تقدم .. فيكون مع السلطان المسلم من باب أولى
مراعاة لحقه، وحرمته، وهيبته[[27][27]].
كما
في الحديث:" من أرادَ أن ينصَحَ لِذي سلطانٍ فلا
يُبدِه علانيةً، ولكن يأخذ بيدِه فيخلُو به، فإن قبلَ منه فذاك، وإلا كان قد أدى
الذي عليه "[[28][28]].
وقال
صلى الله عليه وسلم:" من كانت عنده نصيحةٌ لِذِي
سلطانٍ فليأخذْ بيدِه، فليخلُو بِه، فإن قَبِلَها قَبِلَها، وإن ردَّها كان قد
أدَّى الذي عليه "[[29][29]].
وقال
علي رضي الله عنه:" لا تكونوا عُجُلاً مذاييعَ،
بُذْراً "[[30][30]].
وقوله " بذراً "؛ أي المفشون
للأسرار، الذين لا يكتمون سراً يعلمونه!
2- صِفة الذي يُنصَحُ علناً: مثاله العاصي المجاهر بمعصيته ..
الذي لا يستحي منها .. يبيت وقد ستره الله .. فيُصبح يُحدث الناس بمعاصيه وفجوره
.. تراه يُباهي بها .. فهذا لا حرج لو أنكر عليه علانيةً، ونُصِح علانية، فيُعاقب
من جنس عمله وإعلانه .. وليكون أبلغ في استئصال فجوره وفتنته على الآخرين.
وفي
الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" كل أمتي مُعافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعملَ
الرجلُ بالليل عملاً، ثم يصبح وقد سترَهُ الله، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ
كذا وكذا، وقد باتَ يستره ربه، ويصبحُ يكشفُ سِترَ اللهِ عنه "
البخاري.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" ما مِن رجلٍ يكونُ في قومٍ
يعملُ فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يُغيِّروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم اللهُ
بعذابٍ من قبلِ أن يموتوا "[[31][31]].
ونحوه
المبتدع الذي يُجاهر ببدعته .. ويدعو الناس إلى بدعته علانية .. ويؤلف فيها
ويُحاضر .. فهذا لا حرج من نقده، والإنكار عليه علانية، وعلى الملأ .. فيكون
الإنكار عليه من جنس فعله .. ليحذره الناس .. ويجتنبوا بدعته .. وقد أثر عن السلف
الصالح أنهم كانوا يفعلون ذلك مع المبتدعة، وبخاصة الدعاة منهم .. وكانوا في نقدهم
لهم يذكرونهم بأسمائهم .. ليحذرهم الناس، وبدعتهم، وفتنتهم.
وكذلك
طواغيت الحكم والجور والكفر .. الذين يُجاهرون بمعاصيهم وكفرهم .. ويقنِّنون لها
.. ويفرضونها كقوانين على البلاد والعباد .. ويُعاقبون مخالفيها .. ويزجون
بالناصحين في السجون ليُسامون الذل والعذاب .. فهؤلاء لا حرمة لهم .. يُنكر عليهم
بالسر والعلن .. وباليد .. واللسان .. والقلب لمن لا يستطيع إلا ذلك.
فقد
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" خيارُ
أئمتكم الذين تحبونَهُم ويحبونَكم، وتُصلون عليهم، ويُصلون عليكم، وشرارُ أئمتكم
الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعونونهم ويلعنونَكُم "، قالوا: قلنا يا رسولَ
الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال:" لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا
فيكم الصلاة " مسلم. فطواغيت الحكم هؤلاء ليسوا فقط يُنكر عليهم على
الملأ، بل يُلعنون على الملأ.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" سيكونُ أُمراءُ من بعدي؛
يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون، فمن جاهدَهم بيده فهو مؤمن، ومن
جاهدَهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدَهم بقلبه فهو مؤمِن، لا إيمانَ بعدَه
"[[32][32]].
وفي
رواية:" أفضلُ الجهادِ كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ
جائر ".
وقال
صلى الله عليه وسلم:" سيدُ الشهداء حمزةُ بن عبد
المطلب، ورجلٌ قامَ إلى إِمامٍ جائرٍ فأمرَه ونهاهُ فقتلَهُ "[[34][34]].
وعن
عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:" بايعَنا
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نُنازع الأمرَ أهلَه، إلا أن تروا كُفراً
بواحاً عندكم من الله فيه برهان " متفق عليه. فطواغيت الكفر والردة لا
يُنكر عليهم علانية وعلى الملأ وحسب، بل يُخرج عليهم بالقوة وحد السيف .. وتُنزع
منهم الطاعة والولاية .. ومثل هؤلاء لا يجوز أن تُحمل عليهم الأحاديث التي تُلزم
بمناصحة السلطان المسلم سراً .. كما يفعل مشايخ ودعاة الإرجاء في هذا الزمان ..
الذين يُلبِّسون على الناس أمرَ دينهم .. فيحملون النصوص التي قيلت في الولاة
المسلمين وما يجب لهم على الطواغيت المجرمين الكافرين!
تاسعاً: اعتماد الأسلوب غير المباشر في النصح والنقد، ما أمكن لذلك
سبيلاً، وما رُجيت منه المصلحة والمنفعة؛ كأن يُقال ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا
وكذا .. أو يفعلون كذا وكذا .. من دون أن يذكر أسماءهم بأعيانهم .. ففي هذا
الأسلوب تتحقق عدة مصالح ومطالب شرعية: منها أن هذا الأسلوب أرفق بالمنصوح، وهو
أدعى له أن يستجيب أو أن يستفيد من النصيحة، إن كان ممن تُسيئهم سيئتهم. ومنها ستر
المنصوح وعدم التشهير به بين الناس. ومنها: بلوغ النصيحة للمنصوح؛ فهو يعلم أنه
المراد من النصيحة أو النقد. ومنها: تحذير الناس من خطأ المنصوح من دون أن يعلموا
صاحبه على وجه اليقين. ومنها أن هذا الأسلوب في النصح والإنكار قد دلت عليه السنة،
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله أحياناً، كما في الحديث الصحيح، قال صلى
الله عليه وسلم:" ما بالُ أقوامٍ يشترطون شروطاً
ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط
" البخاري.
وعن
عائشة رضي الله عنها قالت: صنَعَ النبيُّ صلى الله
عليه وسلم شيئاً فرَخَّصَ فيه، فتنزَّه عنه قومٌ، فبلغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه
وسلم، فخطَبَ فحَمَدَ اللهَ ثم قال:" ما بالُ أقوامٍ يتنزَّهونَ عن الشيءِ
أصنَعُهُ، فوالله إني لأعلَمُهم بالله، وأشدُّهم له خشيةً " متفق
عليه.
وعن
أنس، أن نفراً من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
سألوا أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن عمَلِه في السِّرِّ، فقال: بعضهم: لا
أتزوجُ النساءَ. وقال بعضهم: لا آكل اللحمَ. وقال بعضهم: لا أنام على فراشٍ، فحمد
الله وأثنى عليه فقال:" ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكنِّي أصلي وأنامُ،
وأصومُ وأُفْطِرُ، وأتزوجُ النساءَ، فمن رغِبَ عن سنتي فليس مني "
مسلم.
وقد
استعملَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً على صَدَقةٍ، فلما قدِمَ قال: هذا لكم
وهذا أُهديَ لي، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمدَ الله وأثنى
عليه، ثمَّ قال:" ما بالُ العاملِ نبعَثُهُ،
فيأتي يقول: هذا لكَ وهذا لي، فهلا جلسَ في بيتِ أبيه وأمه فينظُرُ أيُهدَى له أو
لا ..." البخاري.
وعن
عائشة رضي الله عنها قالت:" كان النبيُّ صلى
الله عليه وسلم إذا بلَغَهُ عن الرجلِ الشيء، لم يقلْ: ما بالُ فلانٍ يقول؟ ولكن
يقول: ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا "[[36][36]].
عاشراً: التزام خُلق الرفق، واجتناب العنف والشدة في النصح والنقد؛
فالرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه .. به تتآلف القلوب
وتتحد وتتحاب .. وبخلافه تتنافر القلوب وتتدابر وتتفرق .. والله تعالى رفيق
يحب الرفق، ويجزي عليه مالا يجزي على العنف والشدة، كما في الحديث، فقد صحَّ عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنَّ اللهَ
رفيقٌ يُحبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كُلِّه " البخاري.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحبُّ
الرِّفقَ، ويُعطِي على الرفقِ ما لا يُعطي على العنفِ، ومَا لا يُعطي على ما سواهُ
" مسلم.
وقال
صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في
شيءٍ إلا زانَهُ، ولا يُنزَعُ من شيءٍ إلا شانَه " مسلم. وقال صلى الله عليه
وسلم:" مَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحْرَمِ الخيرَ " مسلم.
وهذا
لا يمنع ولا يُنافي أن تُسمَّى الأشياء بمسمياتها الشرعية التي تستحقها، فيُقال:
للكافر كافر، وللمنافق الزنديق منافق وزنديق، وللمرتد مرتد .. وللزاني زاني ..
وللسارق سارق .. فهذه أحكام شرعية لا بد من إطلاقها وإنزالها على مستحقيها .. فهذا
لا يتعارض مع الرفق، والعمل بالرفق .. كما يُخيل للبعض.
كما
أن الرفق لا يلغي اللجوء إلى الشدة مطلقاً .. وبخاصة عند حصول المخالفات التي لها
مساس بالتوحيد .. والعقيدة والأصول الكلية المتفق عليها .. فمن كانت مخالفته
ومشاققته من هذا النوع .. لا يُمكن أن يُتعامل معه من حيث درجة الرفق أو الشدة
والغلظة .. كمن تكون مخالفته في الفروع .. أو فيما يدخل في الاجتهاد المستساغ ..
لا يستويان مثلاً .. ولا يستويان في الحكم .. كما لا يستويان في المعاملة التي
يستحقها كل منهما .. إذ لكل منهما نصيبه ـ من الرفق أو الشدة ـ المختلف عن الآخر
الذي يستحقه شرعاً.
وهذا
مورد دقيق يحتاج إلى فقه وتقوى .. ودراية .. وتجرد من حظوظ النفس وأهوائها .. قلَّ
مَن يُوفَّقَ إليه .. فإن تعذر على المرء الإنصاف وأن ينزل المخالف المنزلة
الشرعية التي يستحقها .. وكان لا بد له من الميل أو الجنوح؛ إما أن يجنح إلى
الزيادة في الرفق أو الزيادة في الشدة .. أقول: في هذه الحالة يجنح إلى الزيادة في
الرفق .. فلئن يُخطئ في الرفق مائة مرة .. خير له من أن يجنح إلى الشدة، فيُخطئ
فيه مرة واحدة، فالخطأ في الرفق خطأ واحد، بينما الخطأ في الشدة خطآن: خطأ بحق
الله تعالى؛ بحيث أنه لم يُصب في المخالف حكم الله، وخطأ بحق العبد؛ حيث أنه سلبه
بعض حقوقه التي يستحقها شرعاً، والله تعالى أعلم.
حادي عشر: من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها الناصح كذلك التواضع،
والذِّلَّة للمؤمنين، وأن لا يتصرَّف باستعلاء وكِبر عند ممارسة عملية النقد
والنصح للآخرين .. فهو أدعى لقبول النصيحة، والإصغاء إليها!
وفي
الحديث، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يبغي أحدٌ على
أحد، ولا يفخرُ أحدٌ على أحد "[[38][38]].
ليس
من أخلاق الناصحين .. اصطياد عثرات العباد .. وذوي الهيئات .. وعدم التماس الأعذار
لهم ما أمكن .. ومن ثم مخاطبتهم باستعلاء، وفوقية، وتصغير لهم عند كل عثرة أو
زلَّة .. أو هفوة .. ليُظهِر فضله عليهم .. وأنهم دونه علماً وفضلاً .. وكأنها
فرصته التي ينتظرها منذ زمن .. ليذل المنصوحين .. ويحرجهم .. ويمسح بهم الأرض ـ
على تعبير البعض! ـ وليستعلي بها بين العباد وفي البلاد .. ويثأر بها لنفسه
وحظوظها .. فهذا ليس من الناصحين .. ولا يصلح أن يكون من الناصحين!
وفي
الحديث، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم "[[39][39]].
فمن أخلاق الناصحين أن يقيلوا العثرات ما أمكن لذلك سبيلاً.
ظاهرة: مما يُلفتُ النظر في هذه الأيام، ويشتدّ له العجب .. ظاهرة
انفتاح بعض الجماعات والشخصيات الدعوية الإسلامية المعاصرة على التيارات العلمانية
.. والديمقراطية الليبرالية .. وبكل انشراح .. وتواضع وذِلّة .. وبصدر مفتوح ..
وذهن متحرر .. وإلى درجة الارتماء في أحضان الطرف المقابل .. ليس من أجل دعوتهم
إلى الإسلام .. وإنما من قبيل المجاملة .. والمداهنة .. وإجراء التحالفات ..
والالتقاء في منتصف الطريق، كما يزعمون!
وفي
المقابل تراهم يأنفون ـ وبكبر واستعلاء وتجاهل متعمد ـ عن مجالسة إخوانهم في الدين
.. ممن يختلفون معهم في بعض المسائل والتوجهات .. أو أن يستمعوا إليهم في شيء ..
وهؤلاء فيهم خصلة خارجية من خصال الخوارج، وهم يدرون أو لا يدرون، فالخوارج
الغلاة:" يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان " كما ورد وصفهم في
الحديث، وهؤلاء يذلون أهل الإسلام .. ويتكبرون عليهم .. ويعزون أهل الأوثان ..
ويداهنوهم .. ويتوددون إليهم .. ويتذللون!
من
صفات المؤمنين، كما وصفهم الرب Y:)
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ (المائدة:54. وهؤلاء أذلة على
الكافرين، أعزة على المؤمنين.
وقال
تعالى في صفاتهم كذلك:) أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (الفتح:29. وهؤلاء أشداء على المؤمنين،
رحماء على الكافرين .. فعكسوا الآيات .. وفعلوا كما فعل الخوارج من قبل .. وهم
يدرون أو لا يدرون!
ثاني عشر: إذا نصحت فلا تملَّنَّ الناسَ نصيحتَك .. واحذَر التطويلَ
الممل، والاختصار المُخل .. وإذا حدَّثت استفهم وأفْهِم .. واجتنب المتشابه من
القول ما استطعت .. حتى لا تزيدَنَّ المسائل غموضاً وإشكالاً .. فينفض عنك الناسُ
وهم أكثر تشوشاً وجهلاً مما كانوا عليه قبل مجالستك والاستماع إليك .. فتؤذي من
حيث تظن نفسك محسناً .. وحَدِّث والناس لحديثك راغبون مقبلون .. فإن أدبروا
وتبرَّموا .. وأظهروا سآمة من حديثك فأمسِك .. فالعلم دررٌ .. لا ترميه في أي مكان
.. وعند من لا يقدر له قدراً.
عن
شقيق أبي وائل، قال: كان عبدُ الله بن مسعود يُذكِّرُ الناسَ في كل خميسٍ، فقال له
رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن! لوددتُ أنَّك ذكَّرتنا في
كلِّ يومٍ. قال: أما إنَّه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكُم، وإني
أتخوَّلكُم، بالموعظةِ كما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلَنا بها
مخافةَ السآمةِ علينا " متفق عليه. والتخوُّل: التقلل والرعاية.
وفي
رواية عند مسلم: فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن
إنَّا نُحبُّ حديثَكَ ونشتهيه، ولودِدْنا أنَّكَ حَدَّثتنا كلَّ يومٍ، فقال:"
ما يَمنعُني أن أحَدِّثَكُم إلا كراهِيَةَ أن أُمِلَّكُمْ، إنَّ رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم كانَ يتخوَّلُنا بالموعِظَةِ في الأيَّامِ، كراهيةَ السَّآمَةِ
علينا ". وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم الذي كلامه فيه حياة للقلوب
والأبدان سواء .. وهو أحلى وأشهى من العسل المُصفَّى .. ومع ذلك كان يراعي عنصر
السآمة عند أصحابه .. فما يكون القول فيمن سواه من وعَّاظ هذا الزمان .. لا شكَّ
أنهم أولى بمراعاة عنصر السآمة عند الناس، عندما يُحدثونهم!
وعن
عكرمة، أنَّ ابنَ عباس قال: حدِّثِ الناسَ كُلَّ
جمعةٍ مرَّةً، فإن أبيت فمرَّتين، فإن أكثرتَ فثلاثَ مرَّاتٍ، ولا تُمِلَّ
النَّاسَ هذا القرآنَ، ولا أُلفِيَنَّكَ تأتي القومَ وهم في حديثٍ من حديثهم
فتقصُّ عليهم فتقطعُ عليهم حديثَهم فتُمِلَّهُم، ولكن أنصتْ، فإذا أمروكَ فحدِّثهم
وهم يشتهونَه، وانظر السَّجْعَ من الدعاءِ فاجتنبهُ، فإنِّي عهدتُ رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابَهُ لا يفعلون ذلك[[40][40]].
وعن
عليٍّ رضي الله عنه قال:" حَدِّثوا الناسَ بما
يَعرِفُون؛ أتُحِبُّونَ أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه " البخاري.
ثالث عشر: أن يتعاهد الناصح نفسه بالمراقبة والنصح، فلا يزكي نفسه على
الله، ولا ينسى حظها من المراقبة والنقد والنصح والمساءلة .. ففي ذلك النجاة
والسلامة لنفسه؛ إذ لنفسه عليه حقاً .. كما أن للآخرين عليه حقَّاً .. وهو أدعى
للتواضع .. وأن يتوسع في إقالة عثرات الآخرين .. وأن لا يتفاخر عليهم، وكأن لسان
حاله يقول لنفسه: كما يُخطئون فأنت أيضاً تُخطئين وتذنبين .. وإن لم تقيلي عثرات
الآخرين .. فمن باب أولى أن لا تُقيلي عثرات نفسك .. ولربما سلّط الله عليك من
يُعاملك بالمثل؛ فلا يُقيل لك عثرة ولا زلة أو هفوة إلا وقد فضحك، فاتقي الله في
الناس .. وعامليهم بما تحبين أن يُعاملوكِ!
أما
من يرى نفسه فوق النقد أو التعقيب .. أو أن يُقال له أخطأت .. يرى الصغائر
والهفوات في الآخرين .. وتعمى عيناه عن الكبائر في نفسه .. عندما توجه سهام النقد
إلى الآخرين فبصره حديد، لا أحد يفري فريه .. بينما عندما توجّه سهام النقد تلقاء
نفسه .. فهو أعشى الليل والنهار .. لا يُبصر في نفسه ما يستدعي تصحيحه أو تقويمه
.. فهذا مثله مثل من يأمر الناس بالبر وينسى نفسه .. ويُضيء للناس ويحرق نفسه، ثم
هو أدعى له على الكبر والطغيان، كما قال تعالى:)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (البقرة:44. وقال تعالى:) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (الصف:3.
وفي
الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مَثَلُ الذي يُعلِّمُ الناسَ الخيرَ وينسى نفسَهُ مثَلُ
الفَتيلَةِ؛ تُضيءُ للناسِ وتَحْرِقُ نفسَها "[[41][41]].
وقي
الأثر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" يُبصرُ
أحدُكم القَذَاةَ في عين أخيه، وينسى الجِذْعَ في عينِ نفسِه "[[42][42]].
نسأل
الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنه .. وأن يرينا
الحقَّ حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطلَ باطلاً ويرزقنا اجتنابه .. إنه تعالى سميع
قريب مجيب.
وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى
آله وصحبه وسلَّم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير
الطرطوسي "
16/6/1429 هـ. 20/6/2008 م.
[9][9] قال المنذري في الترغيب: رواه ابن ماجه، ورواته
ثقاة. وقال أحمد شاكر في العمدة 1/701: إسناده صحيح.
[16][16] قال الهيثمي في الزوائد 7/270: رواه أحمد،
والبزار، والطبراني، وأحد أسانيد البزار رجاله رجال الصحيح.
[23][23] رواه ابن حبان في صحيحه، صحيح الترغيب والترهيب:
2781. وقوله " يتهاتران "؛ أي يتقابحان في القول.
[27][27] الحقيقة أننا لا نستطيع أن نحصر النصيحة السرية
بين الناصح والسلطان المسلم فيما يتعلق بالمخالفات الشخصية للسلطان المسلم وحسب ..
ثم ما سوى ذلك نقول: يجب أن يُنصح علانية .. لا نستطيع أن نقول ذلك .. والنصوص الشرعية
لا تُعيننا على هذا الحصر .. وبالتالي يُمكن أن تتوسع مجالات النصيحة السرية
لذوي السلطان والحكم .. لتشمل الرأي والمشورة فيما ينفع الراعي والرعية في شؤون
الحكم والسياسة .. وتصويب الأخطاء التي يقع فيها الحاكم عن اجتهاد، ويكون لصاحبها
أجر واحد .. فإن أمكن أن يُنصح الحاكم في هذه المجالات سراً يكون هو الأولى .. وإن
تعسر ذلك .. وكان تأخير النصيحة أو كتمانها .. يترتب عليه ضرر عام يُصيب
عامة المسلمين .. الراعي والرعية سواء .. وكان لا سبيل لإيصال هذه النصيحة لمن
تعنيهم سوى الإعلان على الملأ .. فحينئذٍ لا حرج من الإعلان للمصلحة العامة ..
ودفع الضرر عن الأمة والعامة .. فالضابط فيما يُسر وما يُعلن من النصيحة لذوي
السلطان والحكم .. مرده إلى مدى سهولة الاختلاء بذوي السلطان والحكم عندما تتعين
النصيحة لهم .. وبالنظر إلى المصلحة العامة .. ومدى تضرر عامة المسلمين .. في حال
اعتمدت النصيحة السرية أو العلنية، فيُقدم منهما الأسلوب الذي تتحقق فيه المصلحة
الراجحة للأمة، ولعامة المسلمين، والله تعالى أعلم.
[33][33] صحيح سنن أبي داود: 3650. قلت: وكلمة العدل أو
الحق هذه قد تُقال للسلطان الجائر سراً أو علانية بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية.
[40][40] رواه البخاري، المشكاة: 252. قلت: قد تضمن هذا
الأثر العظيم عن حبر الأمة آداباً عظيمة، تتعلق بفقه وآداب الخطاب والحديث، ينبغي
لكل داعية يشتغل في الدعوة والتبليغ أن يتفطَّن لها، وبخاصة أولئك الذين يجعلون من
الناس حقل تجارب؛ يتدربون عليهم في الإلقاء والخطب، والدروس! وقوله " ولا
أُلفِيَنَّكَ "؛ أي لا أجِدَنَّك. والسَّجع؛ الحرص على أن تكون نهاية الجُمَل
أو العبارات على نسَقٍ واحد!