بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد كثرت علي الأسئلة من طرف الإخوان والشباب المسلم في تونس ومصر ـ بخاصة من إخواننا ذوي الاتجاه السلفي السني الذين لم يسبق لهم نوع مشاركة في عمل سياسي عام ـ عن المنهجية والطريقة في العمل ما بعد الثورة .. حيث قد أتيحت للشعوب مساحة مقبولة من الحريات لم يكن يعيشونها ولا يعرفونها من قبل في ظل الأنظمة المستبدة البائدة .. يمكنهم من خلالها التعبير عن دعوتهم وعقيدتهم، ومشاعرهم، واختياراتهم من غير إكراه ولا ترهيب أو تزوير .. فما هو العمل .. وما هي الأولويات .. وما هو الممكن والمسموح به وما هو غير الممكن وغير مسموح به .. وكيف السبيل لذلك .. وأين خيار استخدام القوة ـ في مواجهة مشاكل الواقع ـ في ظل هذا الواقع الجديد .. وغيرها من التساؤلات .. نجتهد ـ بإذن الله تعالى ـ أن نجيب عنها من خلال النقاط التالية:
1- هذه الكلمات وإن كان المعني منها بالدرجة الأولى هم أهلنا وإخواننا في كل من مصر وتونس للجديد الذي طرأ على البلدين .. إلا أنها أيضاً هي موجهة لكل بلد تعيش نفس التجربة المصرية أو التونسية .. أو هي في طريقها للتحرر من هيمنة الأنظمة الطاغية المستبدة .. نسأل الله تعالى أن يحرر جميع بلاد المسلمين من هيمنة الأنظمة الطاغية الفاسدة المستبدة التي تستعبد وتستحمر الشعوب .. وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!
2- على الشباب المسلم ـ في حال انتفاء الجماعة التي تحسن تمثيلهم فكرياً ومنهجياً، وترقى إلى مستوى تطلعاتهم وأهدافهم ـ أن يُفرزوا قياداتهم من أنفسهم على وجه السرعة .. وأن يشكلوا جماعتهم المستقلة القائمة على منهج الكتاب والسنة، على فهم السلف الصالح .. التي تجمع بين الدراية والاهتمام بالنقل، والأثر، وبين الدراية بالواقع المعايش، ومتطلباته وحاجياته.
وإن استدعى الأمر تشكيل حزب يُعلَن عنه فلا حرج في ذلك .. بشرط الحذر والانتباه من مزالق التقوقع والوقوع في التعصب الحزبي المقيت الذي يمنع المتحزبين من إنصاف الحق، ويحملهم على العمل للحزب ومصالح الحزب بعيداً عن مصالح وهموم المجتمع والأمة .. فهذا لا يجوز.
3- الأجواء والظروف ما بعد الثورة هي أجواء سلمية .. تتسم بمساحة واسعة من الحرية والسماحة .. تستدعي تفعيل الوسائل السلمية في عملية البناء والتغيير ما أمكن لذلك سبيلاً .. فكما أن المسلمين في ساحات القتال ـ إن توفرت دواعي الجهاد وأسبابه وظروفه ـ هم السادة، وهم الأعلون بإذن الله .. كذلك إن تأمنت ساحات الحرية في التعبير، والحركة، والدعوة .. فهم السادة، وهم الأعلون، بإذن الله.
4- ما دامت المعركة مع الآخرين يمكن حصرها في ميادين الكلمة والبيان والحوار .. فحينئذٍ لا ينبغي أن نعدل عن ميادين الكلمة والبيان .. إلى ميادين العنف والشدة .. وذلك لثلاثة أسباب: أولها؛ لعدم الحاجة إليها، أو وجود ضرورة تستدعي اللجوء إليها، ولأن العنف لو استخدم في غير ميدانه وظروفه الاضطرارية يُفسد ويضر، ويُسيء.
ثانيها: أن المسلمين هم الأقوى في ميدان الكلمة .. لأنهم يملكون الحجة الأقوى .. والمنطق الصحيح والسليم .. يملكون: قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الصحابة والسلف الصالح .. وأنَّى للآخرين أن يقووا على الوقوف أمام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (الحشر:21. أما بضاعة الكفار من قبل واليوم وغداً في مواجهة نور وحجية وقوة القرآن .. هو اللغو، والدعايات الساقطة، والصخب ورفع الأصوات لا غير .. حتى لا تُسمَع كلمات الله تعالى جيداً .. لأنه لو سُمِع إليها جيداً لا يقوى أحد على ردها، كما قال تعالى:) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت:26. فكل هذا الصخب، والصراخ، والدعايات الهابطة التي يمارسها الكفار اختصرها القرآن الكريم بكلمتين ) وَالْغَوْا فِيهِ (، وأنَّى للغو أن يقوى على مواجهة الحق والنور والضياء .. وبالتالي فإن النصر، ومآلات الأمور محسومة لصالح المسلمين بإذن الله .. فلا ينبغي أن نعلن عن هزيمتنا وانسحابنا من ميادين الكلمة والبيان .. ونحن لم نستخدم ولم نستثمر تلك الميادين بعد حق الاستخدام والاستثمار!
ثالثها: أن العمل كلما كان أقرب للرفق كلما كان أجدى نفعاً، وأكثر عطاءً وقبولاً لدى الناس، فالله تعالى رفيق، يُحب الرفق في الأمر كله، ويُجازي عليه ما لا يُجازي على العنف والشدة، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزِع من شيء إلا شانه .. فالبركة كلها في الرفق ومع الرفق .. وما دام الأمر يمكن معالجته عن طريق الرفق .. من الخطأ حينئذٍ العدول عنه ومعالجته عن طريق العنف والشدة.
5- جميع المراقبين المنصفين يشهدون أن الأوضاع ما بعد الثورة ـ وبخاصة في مصر ـ هي أفضل بكثير مما كان عليه الحال في عهد الطاغوت والاستبداد ولله الحمد .. وأقل ما يُوصف به الواقع أن البلاد عادت لأهلها وأصبحت ملكاً لهم بعد أن كانت ملكاً للطاغية وعائلته .. لكن هذا الواقع الجديد على أهميته .. وأهمية ما تم إنجازه .. لا يعني أن الأمور قد اكتملت وبلغت درجة الكمال الذي يعقبه النوم والاسترخاء .. أو أن كل ما يجري ويحصل يرضينا وهو جيد .. فهناك مساحة واسعة طيبة من الإصلاحات قد حصلت وتم إنجازها ولله الحمد .. وهناك جانب أيضاً هو كبير لا يزال يحتاج إلى إصلاح وجهد واجتهاد.
ويمكن أن يُقال أيضاً: أن هناك جانب هام وواسع لا بأس به ميسور ومقدور عليه .. وفي المقابل أيضاً جانب متعسر، وشاق، لم يُقدر عليه بعد .. فما العمل وما هو المطلوب؟
أقول: المعسور لا يُسقِط الميسور .. ولا يبرر الاعتذار على ترك الميسور والمقدور عليه .. فما كان متيسراً ومقدوراً عليه ينبغي القيام به على أحسن وجه .. واستغلاله بطريقة حكيمة وجيدة للزحف نحو المعسور للتقليل من كمه ونوعه بحسب المستطاع .. وهذا يستدعي قراءة جيدة وناضجة لما هو متيسر وممكن، ولما هو غير متيسر ولا ممكن .. كما يستدعي عدم الاستعجال في الخطوات واتخاذ القرارات العامة قبل أوانها .. فمن تعجل شيئاً قبل أوانه عُوقب بحرمانه.
قال تعالى:) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن:16. وقال تعالى:) لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا (البقرة:286.
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:" إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ".
6- الشيء الواحد قد يكون فيه جانب حق وجانب باطل .. فحينئذٍ لا ينبغي ولا يجوز أن نحكم عليه كله بأنه باطل أو أنه حق .. بل نحكم على الجانب الحق منه بأنه حق، فنباركه، ونشجعه، ونعمل على تنميته، وتكثيره .. ونحكم على الجانب الباطل منه بأنه باطل، ونجتهد في تقليله والعمل على إزالته بالقدر المستطاع، كما في الحديث:" فاشهدوا على المحسن بأنه محسن، وعلى المسيء بأنه مسيء "، أياً كان هذا المحسن، أو كان هذا المسيء .. والمؤمن الواحد قد تجتمع فيه طاعة ومعصية .. سيئة وحسنة .. وهذا لا يسلبه صفة المؤمن والمسلم .. وإنما يُقال فيه كذا، وفيه كذا .. بحسب ما فيه.
7- ليس كل ما هو جائز يعني يجب القيام به، من دون النظر للمآلات، والمصالح والمفاسد المترتبة جراء القيام به .. ومن دون النظر لما هو ممكن وما هو غير ممكن .. وفوق الاستطاعة .. واعلموا أن ما يجب على القوي لا يجب على الضعيف .. وأن لمرحلة القوة والتمكين أحكامها، ومرحلة الاستضعاف أحكامها .. لا ينبغي حمل أحكام كل مرحلة منهما على الأخرى .. ومن يفعل فهو مخطئ، ولن يقطف إلا الندامة، ولات حين مندم!
8- إذا دعيتم لأي مشاركة من أي طرف من أطراف المجتمع؛ سواء كانت المشاركة لها الطابع السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي .. فاجعلوا الميزان الذي على أساسه تشاركون أو ترفضون هو شرع الله تعالى، فتنظروا ما كان فيه معصية لله أو يؤدي إلى معصية، وبخاصة إن كانت هذه المعصية ترقى إلى درجة الشرك .. فاعتزلوه مهما بدت المصلحة من جراء فعله .. وإن كان جائزاً؛ لا معصية فيه .. وفيه خدمة للناس والمجتمع .. فشاركوا فيه .. وادعموه .. واعملوا على إنجاحه، عملاً بقوله تعالى:) وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (المائدة:2.
فإن قيل: لو حددت لنا أكثر الميادين والأعمال التنفيذية والإدارية التي يمكن أن نقتحمها، ونشارك فيها ..؟!
أقول: كل الأعمال الميدانية التي لها الطابع الإداري والتنفيذي والخدماتي للناس والمجتمع .. بإمكانكم أن تقتحموها وتشاركوا فيها ـ ولو كان ذلك عن طريق الانتخابات والتصويت ـ إن كانت المصلحة تكمن في ذلك .. بل أحياناً في مواضع يتعين عليكم المشاركة في هذه الأعمال إن ترتبت مفاسد راجحة من جراء اعتزالكم لها .. من قبيل دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر .. وتقديم أكبر المصلحتين .. من هذه الأعمال التنفيذية الإدارية التي يمكن المشاركة فيها، على سبيل المثال لا الحصر: رئاسة البلديات، وإدارة المحافظات، والجامعات، والنوادي وغيرها من الأمور التنفيذية العملية التي تلامس حياة ومعاش الناس .. بل والمشاركة في منصب وزاري إن منحت حرية واستقلالية تامة للوزير تمكنه بحق من تمرير برامجه وإصلاحات عملية وضرورية للمجتمع والناس .. لا يمكن تمريرها عن طريق غيره .. وذلك أن الإسلام جاء بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها ما أمكن لذلك سبيلاً.
فإن قيل: هل يجوز المشاركة ـ ترشحاً وترشيحاً ـ في العمل النيابي التشريعي، الذي يوكل مهام التشريع، والتحليل والتحريم، والتحسين والتقبيح للإنسان من دون الله تعالى؟
أقول: لا؛ لا يجوز .. لأنه شرك، يُشرِك المخلوق مع الخالق في خاصية الحكم والتشريع، والله تعالى يقول:) وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (الكهف:26. وقال تعالى:) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف:40. وقال تعالى:) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة:50. وقال تعالى:) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (غافر:20.
ولأن الإقرار للمخلوق بخاصية التشريع والتحليل والتحريم من دون الله تعالى هو إقرار له بربوبيته على العباد، وإعلان سافر في دخول الناس ـ وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ـ في عبوديته من دون الله، كما قال تعالى عن الأمم التي قبلنا من اليهود والنصارى:) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ (التوبة:31. وذلك لما جعلوا لهم خاصية التشريع والتحليل والتحريم من دون الله، فاتبعوهم وأطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله .. فذلك كان اتخاذهم أرباباً من دون الله.
وفرعون لما نادى في قومه:) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (النازعات:24. لم يكن يعني قدرته على الخلق أو التصرف في الخلق كيفما يشاء، فهو أعجز من أن يخلق بعوضة أو أن يرد عن نفسه ـ من دون الله ـ اذى وضرر بعوضة .. وإنما أراد هذا المعنى الآنف الذكر؛ أي أنا ربكم الأعلى الذي أربيكم وأنشئكم على قانوني وشريعتي التي أسنها فيكم .. ) مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي (القصص: 38. أي ما علمت لكم من مشرع ترجعون إليه في جميع شؤون حياتكم غيري؛ فأنا المألوه المطاع فيم أشرع لكم دون غيري!
وبالتالي فالشعوب الحرة الثائرة على الظلم والطغاة .. والتي تنشد الحرية والعزة والكرامة .. لا يُقبل منها أن تثور على العبودية للطغاة الذين تفرزهم الأنظمة الديكتاتورية .. بينما يدخلون طواعية في العبودية للطغاة والأرباب الذين تفرزهم الأنظمة الديمقراطية .. فالعبودية للعبيد بجميع صورها، وعلى اختلاف مصادرها ..كلها مرفوضة وممقوتة .. لا تليق بالإنسان الحر العزيز الكريم؟!
لذا كان من أعظم غايات الأنبياء والرسل عبر التاريخ كله .. ومن ثم ورثتهم من الدعاة والعلماء العاملين .. هو تحرير وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، كما قال تعالى:) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (النحل:36. وقال تعالى:) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64. فكيف يمكننا أن نقول للآخرين:) وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ (، ثم نحن في واقع حياتنا وتعاملنا اليومي نتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله .. فهذا لا ينبغي ولا يليق، وسيكون له أثر منفر على الآخرين .. لأننا ـ بالقول والفعل ـ نقول بالشيء وضده في آنٍ معاً .. ونقول مالا نفعل، والله تعالى يقول:) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف:3.
فإن قيل: أين الحديث الآنف الذكر عن تقدير المصالح والمفاسد ..؟
أقول: لا توجد مصلحة توازي أو تعلو مصلحة التوحيد، كما لا توجد مفسدة ولا ظلم تعلو مفسدة وظلم الشرك، فالشرك ظلم عظيم لا يوازيه ولا يعلوه ظلم، كما قال تعالى:) إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان:13. وقال تعالى:) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (النساء:48. وبالتالي عند مورد الشرك الأكبر لا يوجد حديث عن المصالح والمفاسد؛ لأن الشرك قولاً واحداً مفسدة عظمى لا توازيها ولا تعلوها مفسدة، كما أن التوحيد وتحقيق التوحيد مصلحة عظمى وعليا لا توازيه ولا تعلوه مصلحة.
فإن قيل متى يمكن المشاركة في المجالس النيابية التشريعية ..؟
أقول: يمكن المشاركة في هذه المجالس في حالة واحدة فقط؛ عندما تُقيَّد هذه المجالس بقانون محكم ملزم، صريح .. بأن هذه المجالس لا يحق لها أن تشرع قانوناً يُخالف الإسلام، وأن عمل أعضائه مقصور على استنباط القوانين والتشريعات من الشريعة الإسلامية، والاجتهاد فيم لا نص فيه مما له حكم وصفة النوازل أو له علاقة بالشؤون الإدارية التنظيمية ونحوها .. فعندما تتقيد هذه المجالس بهذا القيد وبهذا الوضوح .. فحينئذٍ يجوز ـ بل يجب ـ المشاركة فيها لمن يجد نفسه كفأ من أهل الحل والعقد من أهل العلم والدراية .. وحينئذٍ يُختار أي اسم لهذا المجلس .. فليُسمى مجلساً تشريعياً أو مجلس نواب .. أو مجلس الشعب .. أو مجلس الشورى .. أو مجلس أهل الحل والعقد .. أو غيرها من الأسماء فإنها لا تضره .. ولا تخرجه عن صفته ومهمته ومشروعيته.
وتحقيق ذلك ليس صعباً ـ بإذن الله ـ إن تشكلت القاعدة الشعبية القوية الواسعة التي تُطالِب به، وتحرص عليه .. وهذه القاعدة يمكن تأمينها وتحقيقها من خلال انخراط الإسلاميين في المجالات الدعوية، والتنفيذية الإدارية الخدماتية ـ بصورة واسعة ـ ذات العلاقة بواقع وحياة ومعاش الناس .. فشعوبنا شعوب مسلمة ـ وهي على الفطرة ـ بقليل من التذكير والنصح الصادق المخلص .. سرعان ما تعود ـ بإذن الله ـ إلى دين ربها عوداً حميداً.
9- ما تقدم ذكره يحتاج إلى عمل جماعي منظم، قائم على التخطيط والدراسات الدقيقة التي تجمع بين الدراية بالنص والدراية بالواقع .. والتقييم الجريئ المستمر لمراحل العمل .. وبيان العوائق وجوانب القصور والخلل لتفاديها في أقرب وقت وفرصة .. كما يستدعي من العاملين ترتيب الأولويات على ضوء الشريعة، وما تقتضيه الحاجة أن يُقدم أو يُؤخر؛ فتقدم ـ عند انتفاء القدرة على التوفيق أو الجمع بين المصالح والمقاصد ـ المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والكلية على الجزئية .. والفرائض والواجبات على النوافل .. ودفع الضرر الأكبر على دفع الضرر الأصغر .. وذلك ـ كما تقدم ـ عند استحالة التوفيق فيم بينها أو استحالة القيام بمجموعها معاً.
10- اعلموا أن الإنسان .. وبخاصة الإنسان الفقير في مجتمعاتنا ـ طبقة الفقراء والمستضعفين وهم الطبقة الأوسع والأكبر في مجتمعاتنا ـ حظه من جميع هذه الأحزاب على اختلاف مشاربها وانتماءاتها وراياتها .. هو تحقيق العدل .. ومحاربة الظلم .. وأن يعيش العدل واقعاً في حياته .. وأيما حزب ـ مهما كانت شعاراته شريفة وصادقة ـ لا يحقق له العدل، ولا يدفع عنه الظلم، فسوف يستهجنه ولا يُصغي إليه .. بل ولن يجد عنده سوى الصد والرد والاستخفاف!
وهذا يستدعي من العاملين في حقل الدعوة إلى الله .. أن ينشطوا بصدق وإخلاص لتحقيق هذا المعنى في مجتمعاتنا " محاربة الظلم بكل صوره وأبعاده، وتحقيق العدل بكل صوره وأبعاده "، ليس من أجل صرف الناس إليهم أو تكثير سوادهم، وسواد حزبهم .. لا .. وإنما لأن الله تعالى أمر بالعدل .. ويحب العدل .. ويبغض الظلم .. وينهى عنه، كما قال تعالى:) إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ (النحل:90. وقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة:8. وفي الحديث القدسي:" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ".
لا بد للدعاة العاملين من أجل الإسلام .. أن ينزلوا إلى الشارع .. وأن يرتقوا إلى مستوى هموم ومشاكل الناس الحياتية واليومية .. ليعايشوا ويتلمسوا واقع الناس .. ومظالمهم .. وحياتهم .. فينشطوا في الذود عن مظالمهم وحقوقهم .. ابتغاء وجه الله، لا يريدون من الناس جزاء ولا شكوراً.
أما إن كانوا يعيشون في وادٍ .. وقد تضخمت عندهم شعور " الأنا " وعظمة الذات .. بينما الناس يعيشون في واد آخر .. وواقع آخر .. وحالٍ آخر .. فحينئذٍ لا يتوقعون استجابة ولا إقبالاً من الناس نحوهم .. ونحو مشروعهم الإسلامي السياسي، والملام حينئذٍ هم لا الناس .. حيث أن من الدعاة تجد ثقف مطالبه يبلغ العنان من السماء .. يريد كذا وكذا .. وكأنه يعيش في زمن خلافة عمر بن عبد العزيز t .. لا ينقصه سوى أن يُخاطب الغيمة في السماء أن امطري حيثما شئت فإن خراجك سيأتيني .. بينما هو في واقعه ما عنده استعداد أن ينزل للشارع أو يكلف نفسه أن يعيش ساعة واقع ومشاكل وهموم وآلام الناس .. وهذا لا ينتظر من الناس أن يلبوا له ثقف مطالبه أو شيئاً منها ، قال تعالى:) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ (آل عمران:159. فإذا كان النبي صلوات ربي وسلامه عليه وهو رسول الله فيه هذه الخصلة حاشاه ) فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ (، لكان ذلك سبباً كافياً لنفور الصحابة وانفضادهم من حوله .. لكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان سيد الخلق وأحسنهم خُلُقاً، كما قال تعالى:) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:4. وهذا مدعاة للدعاة أن يراقبوا أنفسهم .. وأخلاقهم .. وسلوكياتهم .. وعلاقاتهم مع الناس .. ولا يغرهم أنهم على الحق أو أنهم على السنة .. أو أنهم ينطقون بكلام خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم .. فهذا لا يكفي بمفرده في ميادين الصراع والتدافع، والبناء، والتفاعل والاحتكاك مع الناس والتعامل معهم[[1]].
11- اعلموا أن الإسلام جاء لحماية الإنسان والحفاظ عليه، فغايته هو الإنسان؛ يُحافظ عليه ويصونه في دينه وعقيدته، ويُحافظ عليه في نفسه، وعقله، وعِرضه، وماله .. فانظروا أين أنتم من ذلك ومن هذا المعنى .. فإن كان الإنسان ـ بهذا المفهوم والبعد ـ هو الهدف من دعوتكم، وحزبكم، ووجودكم .. فأنتم على خير .. بارك الله فيكم .. ثبتكم الله .. وسدد خطاكم .. وكثر سوادكم .. وإن كان الأمر على غير هذا النحو والوصف ـ ونعيذكم من ذلك ـ فوجودكم حينئذٍ وعدمه سواء، بل ربما عدمه يكون أكثر نفعاً!
أرجو أن أكون في هذه الكلمات قد أجبت عن بعض تساؤلات الإخوان حفظهم الله .. فإن أصبت فمن الله تعالى وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي الأمارة بالسوء .. وأستغفر الله وأتوب إليه .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
4/6/1432 هـ. 7/5/2011 م.
[1] لنا مذكرة في فقه الدعوة إلى الله .. وهي منشورة في موقعنا .. فيها جملة من التوجيهات والنصائح النافعة للدعاة .. راجعها إن شئت.