س155: كيف نوفق بين القول بأن الإنسان يكفر إذا أقيمت عليه الحجة ولم يوجد بحقه أي مانع من موانع التكفير، وبين موقف شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عندما أقام الحجة على الجهمية ومع ذلك لم يكفرهم بأعيانهم .. كذلك موقف الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ مع المعتزلة .. رغم أنهم أقيمت عليهم الحجة .. بل هم علماء باللغة والدين ..؟!
والقول بعذرهم .. يحمل كثيراً من الناس على القول بعذر طواغيت الحكم بالإكـراه والجهل .. فإن قلت: جهلهم مردود، نقول: وجهل المأمون من باب أولى أن يكون مردوداً لأنه عن علم .. وجزاكم الله خيراً ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. قد ثبت عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه كفر بعض أعيان الجهمية الذين قالوا بأن القرآن مخلوق، وأمسك عن تكفير البعض الآخر.
والذي حمل الإمام على تكفير البعض بأعيانهم، وإمساكه عن تكفير البعض الآخر رغم اشتراكهما بنفس الذنب والجرم أن الذي كفره بعينه يكون قد ظهر له ما يستوجب تكفيره بعينه من حيث انعدام الأعذار بحقه المانعة من تكفيره.
أما من أمسك عن تكفيره بعينه فهو لظهور الموانع التي تمنع من تكفيره بعينه رغم اقترافه للكفر ..!
فإن قلت: قد عرفنا بالدليل إمساك الإمام أحمد عن تكفير بعض أعيان الجهمية الذين قالوا بأن القرآن مخلوق .. فأين الدليل الذي يفيد أن الإمام قد كفر بعضهم بأعيانهم ؟
أقول: روى صالح بن أحمد عن أبيه لما حُوّل إلى دار إسحق بن إبراهيم: فكان يوجه إلي كل يوم رجلين، أحدهما يُقال له أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجام، فلا يزالان يناظراني، حتى إذا أرادا الانصراف دُعي بقيد فزيد في قيودي. قال: فصار في رجله أربعة أقياد. قال أبي: فلما كان في اليوم الثالث دخل عليّ أحد الرجلين فناظرني، فقلت له: ما تقول في علم الله ؟ قال: علم ُ الله مخلوق، فقلت له: كَفَرْتَ، فقال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحق بن إبراهيم: إن هذا رسول أمير المؤمنين، فقلت له ـ أي الإمام أحمد ـ: إن هذا قد كَفَرَ .[ مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر:1/91 ].
فتأمل كيف أن الإمام أحمد قد كفره بعينه .. لما قال مقولته الباطلة تلك !
أما قياسكلطواغيت الحكم المعاصرين على من عذرهم الإمام أحمد ممن قالوا بأن القرآن مخلوق .. فهو قياس باطل لا يصح من وجوه:
منها: أن كفر الذين عذرهم الإمام أحمد كان كفرهم من جهة تأويلهم للصفات وقولهم بأن القرآن مخلوق .. بينما كفر طواغيت الحكم المعاصرين يأتي من جهة ارتكابهم لجميع نواقض الإسلام الظاهرة منها والباطنة ..!
ومنها: أن جهمية الصفات وقعوا فيما وقعوا فيه عن تأويل لا يمنع من تأثيمهم وتضليلهم .. ولكن يمنع بعضهم من تكفيرهم بأعيانهم!
بينما الحكام لا يمكن أن يُقال فيما وقعوا فيه من كفر أنهم وقعوا في ذلك عن تأويل .. لا يمكن أن يُقال أنهم بدلوا الشريعة وأحلوا محلها شرائع الكفر والطغيان عن تأويل .. فضلاً أن يُقال عن
تأويل يمنع من تكفيرهم !
لا يمكن أن يُقال أنهم جعلوا من أنفسهم أرباباً من دون الله .. يشرعون التشريع الذي يضاهي ويضاد شرع الله .. عن تأويل!
لا يمكن أن يُقال أنهم دخلوا في موالاة ونصرة المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم على ملة أهل التوحيد .. عن تأويل!
لا يمكن أن يُقال أنهم يحاربون دين الله تعالى بكل ما أتوا من قوة ووسائل .. عن تأويل!
ومنها: أن الذين تأولوا الصفات وقالوا أن القرآن مخلوق كالمأمون ونحوه .. أرادوا التنزيه والتعظيم .. ولم يريدوا التكذيب والجحود .. أو رد ما صح عندهم أنه من دين الله تعالى .. وهذا كان سبباً رئيسياً في إمساك الإمام أحمد وغيره من أهل العلم عن تكفيرهم بأعيانهم.
بينما طواغيت الحكم لا يمكن أن يُقال بحقهم وبما يظهرونه من كفر بواح .. ومن أبواب شتى .. أنهم أرادوا من ذلك التنزيه والتعظيم!!
لأجل هذه الأوجه ـ وغيرها من الأوجه مما لا يتسع المجال لذكرها هنا ـ نقول: أن قياس طواغيت الحكم المعاصرين .. على جهمية الصفات .. هو قياس فاسد وباطل.