GuidePedia


بسم الله الرحمن الرحيم
          الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
          كنت قد ذكرت في الجزء الأول من مقالة "فنّ البر"، جملة من صور التفنّن والإبداع في الإحسان والبر .. عندما يتعامل الأبناء مع آبائهم وأمهاتهم .. وبخاصة عندما يبلغان الكِبَر؛ أحدهما أو كلاهما، ويهن العظم منهما .. ويضعف البدن منهما عن الحركة .. وأضيف إليها هنا ــ في الجزء الثاني من المقال ــ صوراً أخرى من البر والإحسان، قد يغفل عنها كثير من البررة فضلاً عن غيرهم ..!
          من هذه الصور ــ في حال كان التعامل مع الأم مثلاً ــ:
          1- أحياناً تتعدّد للأم حاجياتها، وأغراضها، فتأمرك بأكثر من أمر، وتطلب منك أكثر من طلب في آن معاً؛ أريد هذا، وهذا .. افعل هذا .. ولا تفعل هذا .. وأنت لا تستطيع أن تلبي جميع الطلبات أو الأوامر في آنٍ معاً، فماذا تفعل ..؟
          تنظر أوكد الأوامر والطلبات، وأهمها بالنسبة لها فتنفذه، وتقدمه على ما سواه .. ثم تنظر في الأمر الذي يليه، ثم الذي يليه .. بحسب الأهمية!
          2- وأنت تشاركها الطعام .. قد تغفل أمّك عن اللقمة الأحسن .. والأطيب .. لكن الله لا يغفل عنك وعنها .. فحذار أن تقدم لها الرديء من الطعام .. وتخص نفسك بالأطيب والأجود!
          3- أحياناً عن غير قصد منها .. وهي على مائدة الطعام .. قد يرتمي منها صحن مليء بالطعام .. أو ينكسر، ونحو ذلك .. فخذ الأمور بالبسمة، والتَّبسيط .. وأنه أمر عادي .. لا يستدعي أدنى قلق أو حرج .. وحذار أن يظهر على وجهك علامات التسخّط، أو النكير .. فالأم تجيد قراءة وجه ابنها .. أكثر مما يجيد ولدها قراءة الصحف والكتب!
          4- جيد جداً أن تأكل معها، وتشاركها الطعام .. لكن من اللباقة والبر أن تعطيها فرصة قبل أن تنهي وجبتها .. أن تأكل بمفردها، وعلى طريقتها ــ ولو لدقائق ــ بعيدة عن ناظريك، ونظر غيرك .. فهذا مما يريحها .. وقد يجرئها على أن تتناول أشياء ــ بطريقتها الخاصة والمريحة لها ــ تتحرج من تناولها أمامك، وأنت لا تدري!
          5- قد تجد الأم متعتها في المشاركة في صغائر الأمور .. فهي وإن كانت بالنسبة لك من صغائر الأمور، إلا أنها بالنسبة لوالدتك قد تكون من أعاظم الأمور وأهمها .. فعليك ــ حينئذٍ ــ أن تظهر اهتماماً بهذه الأمور الصغيرة على قدر اهتمام والدتك بها.
          6- ونحو ذلك، قد توجه إليك أسئلة غير مهمة .. لا قيمة لها .. لكن بالنسبة لها قد تكون مهمة وذات قيمة .. فتظهر اهتمامك بأسئلتها ــ وتجيبها عنها، وتتفاعل معها ــ على قدر اهتمامها بها.
          7- أحياناً قد تكرر على مسامعك قصصاً من حياتها .. فاستمع إليها باهتمام وتشوق، وكأنك تسمعها منها لأول مرة .. فهذا من حقها عليك.
          8- سهّل على والدتك الأمور، وما قد تتخيله أنه صعب .. حتى الأمور الصعبة ــ الخاصة بها ــ لا تظهرها لها على أنها صعبة .. فهذا مما قد يفرح قلبها .. افعل ذلك ما استطعت .. وحينئذٍ ستجد أن الله تعالى معك .. ييسر لك الصعب من الأمور .. وما قد تعجز عنه .. كما يسرت على أمك الصعب أو العسر، فيكافئك من جنس عملك.
          9- أحياناً قد تسألك عن أسعار ما تشتريه لها .. لتطمئن أنها لم تكلفك الكثير .. أو مالا تطيق .. فاحذر أن تشعرها بأن شيئاً غالٍ عليها .. أو أنها قد أحرجتك فيما طالبتك به .. وربما من الحكمة حينئذٍ أن تهون عليها الأسعار، وتقللها، حتى لا تقلقها عليك وعلى وضعك المادي .. وأحياناً تعظم من أسعار الأشياء، لتشعرها بأنها عظيمة، لا يوجد كثير ولا غال عليها .. وهذا يستدعي منك نوع فقه ونظر.
          10- من المهم جداً أن تستشيرها في الأمور التي تخصها .. وتشعرها بأن رأيها مهم جداً بالنسبة لك .. لكن أحياناً قد يصعب عليها أن تتخذ القرار المناسب، فيما تستشيرها فيه ــ أو فيما هي تستشيرك فيه ــ  وقد يتعبها، ويقلقها ذلك، لو تركت القرار أو الخيار لها .. فهنا تتدخل .. فتساعدها، فتختار لها المناسب والأحسن.
          عليك أن تحسن التمييز بين ما يرهق الوالدة لو ترك لها القرار فيه .. وما هو خلاف ذلك .. لتفعل المناسب، والواجب.
          11- إدخال السعادة على قلب أمك .. هدف ينبغي أن تسعى إليه .. ومما يساعدك على ذلك المزاح المنضبط الذي يجمع بين الخصال التالية: الأدب، والاحترام .. والسعادة والسرور .. ورفع التكلّف بينكما .. وهو أدعى للاسترخاء، ورفع الحرج .. والتعبير عن المشاعر بطريقة أريحية بعيدة عن التكلف أو الحرج.
          الرسمية الزائدة هنا قد تضر؛ وقد تمنع الأم من الاسترخاء .. ومد رجليها .. والتعبير عن مشاعرها، وحاجياتها .. وممارسة كثير من حقوقها.
          ما تقدم أعلاه، يستدعي منك أن تراعي الوقت المناسب للمزاح .. والقدر المناسب منه .. إذ المزاح في غير وقته المناسب، وأن يكون زائداً عن القدر المناسب .. قد لا يحقق الغرض المنشود منه ، وربما حقق خلافه.
          فالمزاح في موضع الجد، استخفاف لا يليق .. والجد في موضع المزاح قسوة، وجفوة، وغفلة.   
          12- بالغ في الاهتمام بلباسها .. وشكلها .. وحركتها .. ومشيتها .. وحاجياتها الخاصة.
          13- موافقتها فيما تحب، وفيما تكره .. فتحب ما تُحب، وتكره ما تكره .. ما لم يكن في ذلك إثماً أو معصية، فتبتعد عنه، وتجتهد ــ بالرفق ــ أن تبعدها عنه.  
          14- أحياناً قد تطالبك أمك بأمور فيها ضرر لها، ولصحتها .. إن أطعتها وأجبتها لما تريد، تسببت لها بالضرر، وإن عصيتها أغضبتها .. فما العمل، وكيف السبيل؟
          الجواب عن هذا السؤال ينقسم إلى مرحلتين: الأولى أن تعسّر عليها ما تطالب به مما فيه ضرر راجح عليها، وتظهر لها أنك حاولت، فما استطعت .. وما وجدت .. فتجمع حينئذٍ بين الأمرين؛ دفع الضرر عنها، ودفع غضبها وسخطها عليك.
          فإن لم تفلح ــ هنا تأتي المرحلة الثانية ــ فتشرح لها برفق أن ما تطالب به فيه ضرر محقق لها ولصحتها .. وأنك لا تستطيع أن تجلب لها الضرر .. وأن الإسلام جاء بدفع الضرر .. عساها ــ إن شاء الله ــ بعد ذلك أن تتفهم الأمر، وينشرح صدرها .. فإن لم تتفهم، وأصرت على طلبها .. لا يضرك بعد ذلك غضبها، لو غضبت .. لأن دفع الضرر مقدم حينئذٍ .. كما أن في جلب الضرر لها معصية لله عز وجل، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
          15- أحياناً تحب الأم أن تمارس قلق الأمومة على ولدها ــ أو بنتها ــ من تقبيل .. أو دعاء .. أو توجيه ونصيحة، ونحو ذلك .. فمكّنها من ذلك .. وتواضع لها .. وأصغ بكل احترام لنصائحها وتوجيهاتها ــ حتى وإن بدت أنها غير مهمة لك ــ وأظهر اهتماماً بالغاً بما تمليه عليك ... فهذا مما يفرحها، ويدخل السعادة إلى قلبها.
          16-  قد تحصل أمور محزنة ومزعجة .. لا بد من إطلاعها عليها .. وأن تكون على علم بها .. فلا تخبرها عنها دفعة واحدة؛ في خبر واحد، ووقت واحد، ومجلس واحد .. فهذا مما يُضاعف البلاء والضرر عليها .. وإنما مهد للخبر .. وجزّئه ما استطعت .. وعلى مراحل .. وفي دفعات وجرعات عدة .. فهذا مما يهون من أثر الخبر عليها.
          ثم حاول ما استطعت أن تهون عليها الأمر .. حتى لو كان في حقيقته خطيراً وكبيراً.
          17- تخصص ساعة في اليوم إن استطعت .. فإن لم تستطع كل يومين .. أو أسبوع .. ولا ينبغي أن تتأخر هذه الساعة عن الأسبوع .. تُذاكر مع أمك الإيمان .. وأمور الآخرة .. وتنظر في برنامجها التعبدي اليومي؛ هل يتخلله نقص، يمكن جبره أو إكماله، أم لا ..؟
          فمن بر الولد ــ أو البنت ــ بأمه .. أن يحرص على سعادتها في الآخرة .. أكثر من حرصه على سعادتها في الدنيا .. وقد خاب وخسر من حرص على إسعاد أمه في الدنيا على حساب سعادتها ونجاتها في الآخرة. 
          18- قد تخرج من والدتك أشياء اضطرارية ــ وبخاصة إن تأخر بها العمر ــ لا مناص لها منها .. على غير وجه اللباقة؛ كالبصاق، والمخاط .. والهوى .. وغير ذلك .. فلا يجوز لك أن تظهر لها أدنى اشمئزاز أو تقزز .. أو حرج .. بل تتصرف وكأنك لم تر، ولم تسمع شيئاً .. ولو لمست من والدتك نوع تحرّج أو استحياء .. فتقابلها مباشرة بأن هذا أمر ضروري وعادي .. لا حرج فيه .. ولا بد منه .. يجري على جميع بني آدم .. وبخاصة من يتطاول به العمر.
          19-  من بر الولد ــ أو البنت ــ بأمه أن يشعرها بالأمان .. وأنه ــ مهما بدا منها ــ ستر لها، ولعيوبها .. لا يمكن أن يحدّث عنها شيئاً هي لا تريد ولا ترغب في أن يُعرَف عنها.
          20- أحياناً في مواضع ــ تحرّجاً واستحياء ــ قد تقول لك: نعم، وأريد .. وهي على الحقيقة لا تريد .. والعكس كذلك، قد تقول عن أشياء: لا؛ لا أريد .. وهي في الحقيقة تريد، وتحب .. وعليك ــ يا هذا ــ أن تحسن التمييز والتفريق بين الأمرين .. وإلا فإنك تسيء من حيث لا تدري ولا تحتسب .. ولا يليق بالبار الفطن إلا التفطن والتنبّه لمثل هذا الأمر.  
           21- جميل منك يا هذا ــ بين الفينة والأخرى ــ أن تمسح على بطن أمك الشريف .. وتخاطبه على مسمع من أمك، بأنه ــ رغم تطوافك في الأرض ــ أفضل، وأشرف، وأعظم، وأهنأ عشٍّ عشته وآويت إليه في حياتك كلها .. فهذا مما يسعدها ويهون الأمور عليها .. ويشعرها بفضلها عليك .. وهو من قبيل الشكر الواجب، ومن لا يشكر الناس، لا يشكر الله. 
          وفي الختام، نعيد ونكرر ما قلناه في المقالة السابقة: أن ما يُقال ويُجرى على الأم .. يُقال ويُجرى على الأب، وبخاصة إن وهن العظم منه، وعلاه الشيب .. نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا .. وأن يهدينا لأحسن البر وأكمله، وأن يجعلنا وإياكم من أهل البر والتقوى والصلاح .. إنه تعالى سميع قريب مجيب، وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
28/4/2016
www.abubaseer.bizland.com



 
Top