GuidePedia



     قال سفيه القوم، منظّر السّفهاء: نحن نريد دولة التوحيد .. لا نريد دولة الخدمات، أو حكومة خدمات .. فهذه نتركها لغيرنا .. ثم استدل على شططه وتنظيره هذا بقوله تعالى: [الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ ..] الحج:41. فتوقف عند كلمة الصلاة، ولم يُكمل الآية .. ومن يقع في شباكه من السفهاء، يهللون ويكبرون له!
     أقول: هذا تنظير باطل وفاسد، بالنقل والعقل، والواقع المشاهد، لا ينصر ديناً، ولا يُقيم دنيا، وذلك من وجوه:
     أولها: لا تعارض ولا تنافر بين الدولتين: دولة التوحيد، ودولة الخدمات .. فالتوحيد حق الله تعالى .. والخدمات، حقوق العباد .. وكما أمر الله تعالى بأن يُؤدّى حقه على العباد، أمر بأن تُؤدى حقوق العباد .. وكما توعّد سبحانه من يقصر بحقه، توعّد من يفرط بحقوق العباد .. والدول ما شُرِع قيامها إلا من أجل القيام بمصالح الناس الدينية، والدنيوية.
     ثانيها: مئات النصوص الشرعية، من الكتاب والسنة تحض على بذل المعروف والخير للناس، ودفع الأذى والشر عنهم، والسعي في تفريج كربة المكروب، وإغاثة الملهوف، والمشي في قضاء حوائج الناس .. ويكفي أن نعلم أن نصوص الشريعة جعلت من إماطة الأذى عن الطريق ــ وهو يدخل في معنى الخدمات ــ شعبة من شعب الإيمان .. وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "تُميطُ الأذَى عن الطَّريقِ صَدَقةٌ" متفق عليه.
     وقال رجلٌ: يا رسولَ الله مُرْنِي بعملٍ أعمَلُه، قال: "أمِطْ الأذى عن الطَّريق، فإنَّه لك صدقةٌ" [السلسلة الصحيحة: 1558].
     وقال صلى الله عليه وسلم: "تبَسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ، وأمرُكَ بالمعروفِ ونهيُكَ عن المنكرِ صدقةٌ، وإرشادُكَ الرجلَ في أرضِ الضَّلالِ لك صَدقةٌ، وبَصَرُكَ الرجلَ الرديءَ البصرِ لك صَدقةٌ، وإماطَتُكَ الحجَرَ والشَّوكَةَ والعظمَ عن الطَّريقِ لك صَدقةٌ، وإفراغُكَ من دَلوِكَ في دَلْوِ أخِيكَ لك صدقة" [ السلسلة الصحيحة:572]. هذه التوجيهات النبوية الشريفة معظمها بل كلها تدخل في معنى "الخدمات"، وبذل الخدمات للناس.
     وقال صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتُ رجلاً يَتقلَّبُ في الجنَّةِ في شجرَةٍ قطَعَها من ظَهرِ الطريقِ كانت تُؤذِي المسلمين" مسلم.
     وفي روايةٍ: "بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجدَ غُصنَ شَوكٍ على الطريقِ فأخَّرَهُ، فشكَرَ اللهُ له، فغُفِرَ له" مسلم.
     وقال صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ .." [ السلسلة الصحيحة:906 ]. وقال صلى الله عليه وسلم: "خيرُ الناس أنفعُهُمْ لِلناسِ"صحيح الجامع:3289. هذا هو المقياس في معرفة من الأحب إلى الله، ومعرفة خير الناس، يكون بالنظر إلى أنفعهم للناس؛ والنَّفع الوارد في الحديث أعلاه يشمل بذل النفع الديني المتعلق بحق الله تعالى، والنفع الدنيوي المتعلق بحقوق العباد، وخدماتهم، وحاجياتهم.
     بل الدروس التي استفادها موسى عليه السلام من الخضر عليه السلام، كما وردت في سورة الكهف، والتي لأجلها شد الرحال .. كلها متعلقة بالخدمات؛ خدمة الناس ..!
     ولو أردنا أن نذكر الأدلة الشرعية ذات العلاقة بالخدمات، وخدمة الناس .. لكُتُبت في ذلك مئات الصفحات، وأحسب أن هذا المعنى من الوضوح ما لا يحتاج إلى مزيد بيان واستدلال.
     ثالثها: استدلاله بالآية خاطئ، وفيه تدليس، إذ لو أكمل الآية الكريمة لظهر خلاف مراده، وأن المراد، والواجب عند التمكين القيام بحق الله تعالى على العباد، وبالخدمات ذات العلاقة بحقوق وحاجيات العباد، كما قال تعالى: [الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ] الحج:41. فإيتاء الزكاة ومصاريفها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. يشمل بكل تأكيد جانب الخدمات المتعلق بحاجيات الناس، وخدمتهم.
     فالأمر بالمعروف؛ يشمل مطلق المعروف؛ المعروف المتعلق بحق الله تعالى، والمعروف المتعلق بحقوق العباد، وحاجياتهم، وخدماتهم .. وكذلك يُقال في النهي عن المنكر.
     رابعها: لا يُعرَف في التاريخ كله، ولا في واقعنا المعاصر أن دولة تتجاهل خدمات وحاجيات الناس، ثم كتب لها الوجود والحياة والقبول .. بينما توجد دولة ودول تفرّط بحق الله تعالى ــ والعياذ بالله ــ لكنها لا تفرط بحقوق وخدمات الناس .. وما أكثر الشواهد من التاريخ وواقعنا المعاصر على هذا النموذج من الدول .. وقد نُقِل عن شيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً يُفيد أن الله تعالى ينصر الدولة الكافرة العادلة في رعايتها لحقوق الناس ومصالحهم، التي تفرط بحق الله تعالى، على الدولة المسلمة الظالمة التي تفرط بحقوق العباد، وحاجياتهم، وخدمتهم ..!
     خامسها: أن الناس عادة يقفون مع من يحقق لهم مصالحهم الدنيوية، ويسعى في تحصيلها وتحقيقها لهم، ويحيطهم برعايته ونصحه، وخدمته، ويدفع عنهم الأذى والضرر والشرور بنفسه قدر المستطاع .. وبالتالي لا ترجو منهم أن يقفوا معك ومع دولتك، وأنت تتجاهل وتهمل مصالحهم، وحقوقهم، وخدمتهم، ولا حظ لهم عندك سوى الكلام والشعارات والتنظير .. كما لا يحق لك أن تلومهم لو وقفوا مع غيرك؛ الذي يسعى في خدمتهم، وفي تحقيق وتحصيل مصالحهم الدنيوية والمعيشية .. والملامة حينئذٍ كل الملامة تقع عليك، وعلى تنظيراتك، ومن يتابعك عليها، لا غير!
     خلاصة القول: أن منظّرنا السّفيه .. يريد أن يسير بعكس حركة التاريخ .. والواقع المشاهد .. وما يقتضيه النّقل، والعقل .. ثم هو بعد ذلك يزعم أنه من دعاة التوحيد .. وأنه يدعو إلى التوحيد .. وحريص على التوحيد .. والويل لمن يخالفه في هذا التنظير .. ولا يقول بقوله .. فالتّكفير، والتضليل له بالمرصاد 

!11/11/2016

  



 
Top