GuidePedia

بسم الله الرحمن الرحيم

PDF

WORD

            يقول الشيخ محمد الحسن الدَّدو في لقاء منشور له مع مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام، وتحت عنوان " الديمقراطية بين المقاصد والوسائل ":" احتيج إلى الرجوع إلى تجارب البشريّة في اختيار الحاكم؛ لأن هذا الأمر لم يحسمه الوحي، ولم تتفق عليه العقول، وإنما هو من المصالح الجديدة .. ".

          أقول: رغم سعة اطلاع الشيخ فهو لم يجد في سيرة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في سيرة الخلفاء الراشدين، وطريقة حكمهم، وتنصيبهم، الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، ولا في نظام الشورى العظيم الذي دلت عليه، وأصلت له عشرات النصوص من الكتاب والسنة .. دليلاً يرجع إليه في طريقة اختيار الحاكم .. لذا فهو يحتاج في هذا الشأن العظيم إلى الرجوع إلى الشرق والغرب؟!

          لم يجد الشيخ في نظام وعمل أهل الحل والعقد ــ الذي كان الإسلام السباق في التأسيس له، والإشارة إليه ــ دليلاً يُرجع إليه، في تنصيب الحاكم .. علماً أن نظام وعمل " أهل الحل والعقد "، من أرقى ما توصلت إليه الأنظمة السياسية الحديثة؛ وما مجلس الشيوخ، واللوردات الحاكمة الفعلية لكثير من الأنظمة الغربية المعاصرة، إلا تجسيداً عملياً لفقه ومعنى " أهل الحل والعقد " الذي جاء به الإسلام!

          ثم نسأل الشيخ: هل طريقة تنصيب الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمرنا بالاقتداء والاهتداء بهم وبسنتهم .. قد ارتضتها عقول الصحابة الكرام؛ أرجح العقول بعد الأنبياء والرسل؟

          فإن قال: نعم .. بطل حينئذٍ زعمه أعلاه " ولم تتفق عليه العقول "، وإن قال: لا .. ونعيذه من أن يقول: لا؛ لأن في ذلك طعن وتشكيك باتفاق وإجماع عقول الصحابة الكرام، على طريقة تنصيب الخلفاء الراشدين!

          كذلك نسأل الشيخ: هل تنصيب الحاكم، وبيان ما له، وما عليه .. وبيان دور الأمة في تنصيبه واختياره .. هو من الدين، ومما نصت عليه نصوص الشريعة الإسلامية، أم أنه ليس من الدين، وتُرك الأمر فراغاً؟

          فإن قال: هو من الدين، والشريعة الإسلامية قد نصت عليه .. بطل حينئذ زعمه أعلاه!

          وإن قال: لا؛ ليس من الدين، والشريعة الإسلامية لم تنص عليه، ولم تحسمه، وترك الأمر فراغاً، كما يفيد كلامه أعلاه ...!

          أقول: هذا بهتان عظيم، فالإسلام قد بين للناس دقيق الأمور فضلاً عن جليلها وعظيمها .. قال تعالى:[ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ]المائدة:3. فالدين ليس ناقصاً ليكمل نقصانه من مصادر ومشارب أخرى، وإنما هو كامل تام غير ناقص، بشهادة الرب I [ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ].

          وقال تعالى:[ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ]الأنعام:153. وهذا من معانيه ولوازمه بيان الصراط المستقيم، ومتطلباته، وكذلك بيان سبل أهل الباطل والأهواء بياناً شافياً كافياً وافياً لا لبس فيه ولا غموض .. وعدم إدراك هذا المعنى مرده لقصورنا وجهلنا، وليس لعدم وجود النصوص الشرعية الدالة على ذلك.

          وقال تعالى:[ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ]النحل:89. وقوله تعالى:[ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ]؛ عام لكل شيء؛ أي فيه تبيان لكل ما يضر، وكل ما ينفع من أمور الدين والدنيا؛ ما يضر لكي نجتنبه ونحذره، وما ينفع لكي نأتيه ونلتزمه.

          وفي الحديث، فقد صحَّ عن النبي r أنه قال:" إنه ليس شيءٌ يقربكم إلى الجنَّة إلا قد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم إلى النار إلا قد نهيتكم عنه "[[1]]. وفي رواية:" ما تركتُ شيئاً يقربكم إلى الله تعالى إلا وأمرتكم به ".

          وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال:" تركَنا رسولُ الله r وما في السَّماء طائر يطيرُ بجناحيه إلا عندنا منه عِلْم "[[2]]. وهذا من قبيل التمثيل  والتقريب؛ فإذا كان ما من طائر يطير بجناحيه إلا وقد بين لنا النبيُّ r منه عِلماً، فكيف بما هو أجل وأعلى من ذلك من أمور وشؤون الحكم والدين والدنيا؛ كتنصيب إمام وحاكم على المسلمين، يسوسهم ويقودهم بتعاليم الدين، فهو r أشد لها تبياناً وإيضاحاً .. وجهلنا لا ينفي هذه الحقيقة .. ولا ينبغي أن يحملنا على أن ننفي هذه الحقيقة!

          يا لفرحة العلمانيين والليبراليين بتقرير الشيخ الوارد أعلاه .. فهم سيقولون: إذا كان من مشايخكم من ينفي أن الدين الإسلامي قد نص على طريقة تنصيب الحاكم، وبيان ما له من الحقوق، وما عليه من الواجبات، وترك أهم ما يتعلق بشؤون الحكم والدولة فراغاً من غير بيان .. فعلام تلوموننا عندما نقول: بفصل الدين عن الدولة والحكم .. وأن الدين لا دخل ولا رأي له بالحكم وشؤونه ...؟!

          قال:" لذلك لا غضاضة ولا مانع لدينا من استيراد أي فكرة نافعة وجدنا أن البشريّة قد سبقتنا إلى أسلوب في الحكم؛ ليس أسلوباً أسريَّاً راجعاً إلى الملك والتوارث، وليس أسلوباً قسرياَ قهريّاً بالإكراه والإجبار، وإنما هو أسلوب يتداول الناس فيه على السلطة، بأسلوب سلمي، وهذا الأسلوب يرجع إلى اختيار الناس، وهذا الاختيار سواء قلناه عن طريق صناديق الاقتراع أو غيرها، هو مجرد أسلوب لأخذ رأي الناس، والأسلوب من باب الوسائل لا من باب المقاصد، والوسائل ما لم يرد نهي فيها فهي على أصل الإباحة، والمقصد هو وجود حاكم يرضاه الناس من غير إكراه، يتصرّف في الشرع بالنيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين، وسياسة الدنيا به، وهذا كما ذكرنا وجدنا الأسلوب الديمقراطي الذي سلكه الغرب في اختيار حكامهم أسلوباً لا ينافي شرعاً ولا عقلاً، وهو تداول سلمي للسلطة، يختار الناس من يحكمهم، ويختارون فيه المدة التي يحكمهم فيها، ثم بعد ذلك تنتهي مأموريته، ويختارون غيره على وفق نظام يصطلحون عليه، ويُصوتون عليه، وإذا نجح بأغلبيتهم ولا يمكن أن يتفقوا جميعاً على أمرٍ ما من هذه الآراء العقلية، هذا النظام هو العقد الاجتماعي الذي يسمى دستوراً بين الناس، هذا النظام يحدد صلاحيات الحاكم، وشروطه، وأيضاً يحدد مدة حكمه، وطريقة عزله، وطريقة العمل عند الطوارئ؛ إذا مات أو مرض، أو عُزل بسبب فسقه، أو فجوره، أو فساد عرَض فيه، كيف يكون سد هذه الثغرة، نأخذه من هذه التجارب، وكما أننا استوردنا من حضارة الغرب الكهرباء، والطائرات، والسيارات، والتلفزيونات، والإذاعات وغيرها كلها مستوردة، فلا مانع من استيرادها، فالديمقراطية من هذا القبيل ما هي إلا وسيلة للحكم، فهي معيار ومكيال؛ المكيال يُكالُ به اللبن، ويُكالُ به الخمر، ولذلك فالديمقراطية يمكن أن تأتي بالصَّالح، ويمكن أن تأتي بالفاجِر ".  

          قلت: نوجز الرد على كلام الشيخ الوارد أعلاه في النقاط التالية:

          1- ينبغي للشيخ أن يكون واضحاً وصريحاً أكثر؛ لماذا يتهرب من أن يُسمي الأشياء بمسمياتها، فهو قال: هذه الوسيلة الديمقراطية " يمكن أن تأتي بالفاجِر "؛ أي بحاكم فاجر .. وسؤالنا ما هي حدود وصفة الفجور لهذا الحاكم الذي يمكن أن تأتي به الديمقراطية أو هذه الوسيلة الديمقراطية التي يُكثر الشيخ من الدندنة عنها .. ألا يمكن أن يكون هذا الفاجر حاكماً كافراً مرتداً أكفر من مسيلمة الكذاب؟! كله وارد، وكله ممكن، والديمقراطية تسمح به، وتكفله، وتحميه .. والواقع يصدقه ويشهد عليه.

          وسؤالنا للشيخ: وسيلة يمكن أن تأتي بكافر مرتد، أشرّ من مسيلمة الكذاب .. يحكم المسلمين وبلادهم .. ويعيدها من جديد حرباً على الإسلام والمسلمين .. هل هي وسيلة مباحة .. والأصل فيها الإباحة كما يزعم الشيخ ...؟!!

          ترانا نتورع في الصغائر، والمتشابهات، ونشدّد فيها .. ونتجرأ على اقتحام الكبائر، من دون أن ترجف لنا عين، تحت عنوان وزعم أنها وسائل!

          2- إن كان هذا الذي يقوله الشيخ الددو حقاً؛ فالحق لا يعرف حدوداً للزمان والمكان؛ فهو حق في كل زمان ومكان .. ولكم أن تتخيلوا وتتصوروا معي هذا المشهد: الشيخ الددو يدلي برأي الوارد أعلاه، في زمن وحضرة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومن معهم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم .. ويقول لهم: خلافكم مع مسيلمة الكذاب يجب أن يكون عبر الانتخابات، وصناديق الاقتراع .. والذي يفوز منكما بالأكثرية ــ أبو بكر الصديق أو مسيلمة الكذاب ــ هو الذي يحكم البلاد والعباد، هذه الوسيلة تسمى الديمقراطية، وقد أتيتكم بها من عند الروم .. وكفى الله المؤمنين القتال .. ولا شك أن مسيلمة الكذاب حينئذٍ هو الذي سيفوز؛ لأنه كان يتمتع بالأكثرية .. فأكثر القبائل العربية ارتدت واصطفت إلى جانبه .. باستثناء المدينة، ومكة، والطائف .. وسائر العرب كلهم كانوا مع مسيلمة الكذاب! 

          ولكم أن تتصوروا وتتخيلوا كيف سيكون موقف الصحابة رضي الله عنهم من هذا القول، ومن أصحابه ...؟!!

          بل لو قال الشيخ الددو كلامه أعلاه في حضرة آخر خليفة للمسلمين؛ السلطان العثماني عبد الحميد رحمه الله .. لعد خيانة لله ولرسوله، وللمؤمنين، ولسلطانهم .. واصطفافاً مع الحركات العلمانية الانفصالية المتطرفة، التي كانت تردّد نفس كلمات الددو .. وتتخذ منها ذريعة للخروج على خليفة المسلمين!

          3- وسيلة يمكن أن تأتي بحاكم فاجر كافر مرتد يحكم الإسلام والمسلمين وبلادهم .. هل تستوي مع الوسائل الأخرى التي يذكرها الشيخ بقوله:" وكما أننا استوردنا من حضارة الغرب الكهرباء، والطائرات، والسيارات، والتلفزيونات، والإذاعات وغيرها كلها مستوردة، فلا مانع من استيرادها، فالديمقراطية من هذا القبيل ما هي إلا وسيلة للحكم "، فأين أوجه الشبه والاتفاق، والتلاقي حتى يصح قياس هذا على ذاك .. تقاس وسيلة تأتي بحاكم كافر فاجر مرتد على السيارة، والكهرباء والتلفزيون .. قليلاً من احترام عقول الناس؟!

          4- كيف نوفق بين قول الشيخ بأن هذه الوسيلة الديمقراطية غايتها، والمقصد منها:" وجود حاكم يرضاه الناس من غير إكراه، يتصرّف في الشرع بالنيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين، وسياسة الدنيا به "، وبين قوله بأن هذه الوسيلة الديمقراطية ممكن " أن تأتي بالفاجِر "؛ والذي قد يكون هذا الفاجر كافراً مرتداً .. فهل يعوّل الشيخ على هذا الكافر الفاجر المرتد أن " يتصرّف في الشرع بالنيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين، وسياسة الدنيا به "؟!!

          5- مجتمعاتنا العربية والإسلامية ــ شئنا أم أبينا ــ محكومة بالنزعات والانتماءات القبلية والعشائرية والعائلية، ومليئة بالفرق والطوائف الدينية الباطنية وغير الباطنية المتغايرة، والمتنافرة .. يوجد فيها الأحزاب التي هي من أقصى اليمين، وكما يوجد فيها أحزاب وتجمعات هي من أقصى اليسار .. وما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار من التباعد والتنافر والتباغض أبعد ما بين السماء والأرض، وفوز أحدهما في الانتخابات يعني بالضرورة انتقامه من الطرف الآخر المقابل، وإقصائه، وهدم إنجازاته .. بلا رحمة ولا شفقة .. وبخاصة إن كان الفائز هو الطرف العلماني الحاقد والناقم على الإسلام والمسلمين .. فتحدث الاهتزازات والاضطرابات العنيفة في الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، والثقافية مالا تحدثة الثورات الشعبية عندما تثور على طغاة الحكم .. وبالتالي فالذي يريد أن يتكلم عن الانتخابات، وعن التداول السلمي للحكم والسلطة في كل بضع سنوات .. ويشرعن للأحزاب في كل بضع سنوات كيف يثب بعضها على بعض، في مثل تلك المجتمعات .. لا بد له من أن يراعي هذا البعد الذي أشرنا إليه .. وأن ينظر لمآلات شرعنة مثل هذه الأمور .. وأن يتنبه للمخاطر المحققة التي أُشير إليها أعلاه، وأن يحدِث من الأليات والوسائل، والضمانات القانونية والدستورية التي تجنب البلاد والعباد مخاطر ما أشرنا إليه .. قبل أن يتحدث عن الانتخابات، وعن التداول السلمي للسلطة، وعن ذئاب الأحزاب كيف تثب بعضها على  بعض .. وكيف تنهش بعضها بعضاً!

          لا ينبغي أن نتحمس لشيء، ونروّج له، قبل أن ننظر إلى مآلاته، ونراجح بين مصالحه ومفاسده .. وقبل أن نجد الآليات الصحيحة التي تضمن عدم تشظيه، واستغلاله لمآرب شيطانية، وعدوانية .. نفقد السيطرة عليها!

          6- الشيخ عندما يتكلم عن الانتخابات الديمقراطية في كل بضع سنين .. فهو يشير أكثر من مرة إلى أنها مجرد وسيلة، شأنها شأن السيارات والتلفزيونات .. ويكثر من الدندنة حول ذلك ..  أما المقصد والغاية هي إيجاد الحاكم الرشيد العادل الذي " يتصرّف في الشرع بالنيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين، وسياسة الدنيا به "، كما يقول الشيخ! 

          وبقليل من المتابعة نجد أن هذه الوسيلة التي يشير إليها الشيخ، هي في حقيقتها ــ عند الشيخ ومن يقول بقوله ــ غاية عظمى، والمقصد الأكبر الذي تهون في سبيله جميع المقاصد والغايات والأخرى .. بدليل لو قيل لهم: لو أتت الوسائل والتجارب الأخرى ــ غير الانتخابات الديمقراطية ــ بحاكم عدل عادل رشيد، وهو حقاً يسوس البلاد والعباد بشرع ودين رب العباد، مثلاً كحالة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله، الذي وصل إلى سدة الحكم عن طريق الوراثة، والعائلة المالكة .. وحاكم آخر يأتي عن طريق الانتخابات الديمقراطية الشعبية، وصناديق الاقتراع، لكنه كافر مرتد، لا يحكم بما أنزل الله، ولا يُلقي له بالاً .. فأيهما ترضون وتختارون، وأيهما أقرب للحق والصواب، وله الصفة التمثيلية الشرعيّة أكثر .. لأجابوك، وقالوا لك من فورهم: الحاكم الكافر المرتد، الذي لا يحكم بما أنزل الله، ولا يُلقي له بالاً .. ونحن نحترم ونقدس اختيار الأكثرية، حتى لو وقع اختيارها على الكافر الفاجر المرتد .. ولما سُئل القرضاوي نحو هذا السؤال، وأن نتائج الانتخابات قد تودي بالإسلاميين، وإنجازاتهم، وتستبدلهم بعلمانيين حاقدين ومحادين لله، ولرسوله وللمؤمنين .. فأجاب من فوره:" يستهلوا إيروحوا في داهية "! إيروحوا هم ودولتهم، وحكومتهم الإسلامية، وتروح معهم جميع إنجازاتهم وأعمالهم الإسلامية في داهية، المهم أصل الأصول، وغاية الغايات؛ الانتخابات الديمقراطية، واحترام وتقديس رأي الأكثرية، ولو كانت هذه الأكثرية " زائد واحد "! 

          والشيخ الددو على رأي وقول شيخه القرضاوي، الذي يعتبره الوريث الأول في هذا العصر لإرث الأنبياء ...!!

          7- قال الشيخ:" هذا النظام يحدد صلاحيات الحاكم، وشروطه، وأيضاً يحدد مدة حكمه، وطريقة عزله، وطريقة العمل عند الطوارئ؛ إذا مات أو مرض، أو عُزل بسبب فسقه، أو فجوره، أو فساد عرَض فيه، كيف يكون سد هذه الثغرة، نأخذه من هذه التجارب "؛ كل هذه الأشياء والمسائل يأخذها من الآخرين ومن تجاربهم، من الغرب أو الشرق؛ لأن الإسلام لم يتكلم عن شيئ منها، وليس له رأي فيها .. وهذه دعوة مبطنة للعلمانية، ولفصل الدين عن الدولة، وعن شؤون الحكم والسياسة .. ويا لفرحة العلمانيين بمثل هذه التقريرات الخاطئة، والمتهورة، والمتسرعة!

          8- إلى متى سنظل نستعين لمآربنا، وغاياتنا، ونصرة ديننا وقضايانا بمكيال " يُكالُ به اللبن، ويُكالُ به الخمر "؛ تُكالُ به النجاسة ويُكال به الطهر .. يُكال به الحق والباطل .. وتُكال به المعصية والطاعة .. ألا يستحق الإسلامُ منا .. والمسلمون، وأوطاننا الغالية .. أن نختار لهم كوباً طاهراً مستقلاً لا يُكالُ به إلا الحق، والطهر، والعدل، والطاعة .. أحقاً ليس في رصيدنا الثقافي والحضاري، والفقهي ما يعيننا على ذلك .. أم ضمرت فينا الرغبة في النظر والاجتهاد .. أم هو الضعف، والشعور بالدونية، والتقليد الأعمى لكل ما يفدنا من بلاد الغرب؛ حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ، لوجد منا من يتبعهم ويقلدهم، ويدخل مداخلهم؟!

          قال:" الذي يفسر الديمقراطية بأنها حكم الشعب للشعب بالشعب، أو أنها ما يحكم بها الناس، فيجعل منها ديناً آخر، هذا الفهم فهم إيديولوجي، وليس هو الذي نتحدث عنه، نحن نتحدث عن الديمقراطية كأداة للتداول السلمي على الحكم فقط .. ولذلك لا مانع في الشرع من الديمقراطية يمعنى أسلوب اختيار الحاكم عن طريق صناديق الاقتراع ".

          أقول: هذا تبسيط مخل لحقيقة الديمقراطية، فيه تضليل للناس؛ الديمقراطية لا يمكن أن تجزئها أجزاء، فتأخذ منها الجزء الذي يرضيك، وتدع منها بقية الجوانب والأجزاء الأخرى التي لا ترضيك، ثم تسمي نفسك بعد ذلك ديمقراطياً، أو أنك تحكم بنظام ديمقراطي .. ولو فعلت: لسرعان ما أنكر عليك الديمقراطيون الحقيقيون، وتهكموا بك، وباجتزائك وفهمك الخاطئ لديمقراطيتهم!

          ويُقال كذلك: أن جميع الأقطار والأنظمة التي تمارس العملية الديمقراطية، لم تفرق بين بعدها النظري الإيديولوجي، وبين بعدها العملي التطبيقي، ولا تقبل من أحدٍ يشارك في العملية الديمقراطية أن يفرق أو أن بفصل بينهما!

          ويُقال كذلك: الشيخ الددو ذاته قد أقر ببعدها الإيديولوجي وهو يشعر أو لم يشعر، وسواء اعترف بذلك أم لم يعترف؛ أفلم يقر الشيخ بشرعية اختيار الأكثرية في حال اختارت الحاكم الفاجر الكافر .. وهذا مما يخالف شرع الله قطعاً .. والذي يقر بشرعية هذه المخالفة لكونها قد ارتضتها الأكثرية .. يسلم لهذه الأكثرية لو أقرت وارتضت مخالفة شرعية أخرى .. وغيرها من المخالفات .. احتراما لرغبة ورأي الأكثرية .. وليس احتراماً لذات المخالفة .. وهذا هو التفسير العملي للجانب الإيديولوجي والنظري للديمقراطية، الذي ينص على حكم الشعب نفسه بشرع نفسه .. فالشيخ في كلامه أعلاه لم يبتعد كثيراً عن الجانب الإيديولوجي النظري للديمقراطية!

          ويُقال كذلك: إن أقر الشيخ بجانب من جوانب الديمقراطية، وأثنى عليه خيراً .. ما أكثر أهل الأهواء المفتونين بعجل الديمقراطية ببعدها الإيديولوجي والعملي .. الذين سيحملون كلامه لمآربهم، وأغراضهم، وفهمهم الخاص بهم للديمقراطية .. ويستدلون به وبكلامه على مخالفيهم .. ويتكئون عليه، ويقاتلون بسيفه .. والشيخ ينبغي أن يتنبه لهذا البعد، ولمآلات كلامه .. وينظر كيف سيفهم ويفسر .. وفي أي وادٍ سيذهب .. إذ لا يكفي أن نفتي الناس من دون أن ننظر إلى مآلات الفتوى، وكيف ستفهم، وتُفسّر، وتُطبَّق!

          تنبيه أختم به مقالتي وردي: كلامي أعلاه لا يعني ولا يفيد أنني ألغي مبدأ الانتخاب في اختيار من يحكم البلاد والعباد .. فالانتخاب والتصويت، ومراعاة الأكثرية وفق ضوابط شرعية من آليات الشورى، وقد مارسها الصحابة بصور متفاوتة، وفي اختيار الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، قد مورست بشكل واسع وظاهر، وقد اُخذ رأي الخواص والعوام في اختياره، فكانوا جميعهم لا يعدلون عن عثمان .. كما أن هذه الآلية مطبقة عند الفقهاء، وفي مصطلحاتهم؛ عندما يقولون: هذا رأي الجمهور .. وهذا قول الجمهور؛ أي القول الذي اجتمعت عليه أكثرية الفقهاء، أو قول ثلاثة مذاهب من أصل أربعة مذاهب .. وقول الجمهور مقدم على قول الشاذ عنهم، عند انعدام الدليل المرجح .. وكذلك كلامهم عن الإجماع وحجيته.  

          وإنما الذي أريده وأطالب به بإلحاح؛ ضرورة ضبط هذه الآليات بجملة من الإجراءات، والقوانين، التي تمنع من استغلالها استغلالا خاطئاً، ونضمن معها سلامة المآلات والنتائج .. وسلامة البلاد والعباد .. وسلامة الحراك السياسي من دون أن يترتب عنه شظايا أو ارتدادات خطيرة تهدد الأمن العام للبلاد، وهذا يحتاج منا لمزيد من الاجتهاد، والبذل، والثقة بالنفس .. وقد أشرت لهذا المعنى في أكثر من موضع في كتاباتي ومقالاتي السابقة. 

عبد المنعم مصطفى حليمة

" أبو بصير الطرطوسي "

www.abubaseer.bizland.com

9/12/1441 هـ. 30/7/2020

 

 

           



[1]  السلسلة الصحيحة: 2866.

[2]  صحيح موارد الظمآن: 62. 

 
Top