GuidePedia

0

        بسم الله الرحمن الرحيم
وردني من أحد الإخوان السؤال التالي يقول فيه: قرأت في كتابات بعض المعاصرين كلاماً حول حديث ذات أنواط فيه أن الصحابة الذين قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام " اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط " قد قالوا كلاماً كفرياً وأن النبي عليه الصلاة والسلام عذرهم بالجهل لأنهم كانوا حدثاء عهد بالكفر . ورأيت من المعاصرين كذلك من ينكر هذا القول ويرى أنهم لم يقولوا كفراً .. فما الراجح في المسألة علماً بأني اطلعت على بعض روايات هذا الحديث فيها أن هذه الشجرة كانت تعبد من دون الله، وفي روايات أخرى أنهم كانوا يذبحون لها .. وجزاكم الله خيراً ؟

          الجواب: الحمد لله رب العالمين . الراجح عندي أن الذي قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم هو من الشرك الأكبر .. والذي أقال عثرتهم ومنع من ردتهم ومن ثم استتابتهم هو الجهل لكونهم حديثي عهد بالكفر .. ولم يمض على إسلامهم واعتزالهم للكفر والشرك وعبادة الأوثان سوى أيام .. لذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم  قد اكتفى بتعليمهم ونهيهم وزجرهم بعبارات تقشعر منها الأبدان لبيان شدة سوء مقولتهم .. هذا هو المستفاد من منطوق الحديث ومفهومه، ومن أقوال وشروحات أهل العلم للحديث.
          لنقف من جديد على ألفاظ الحديث كما أخرجه الترمذي وغيره من رواية واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثوا عهد بكفر، وكانوا أسلموا يوم فتح مكة، قال: فمررنا بشجرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكان للكفار سدرة يعكفون حولها، ويعلقون بها أسلحتهم يدعونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال:" الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم ". 
          وقوله" كانوا أسلموا يوم فتح مكة " يفيد أن الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:" اجعل لنا ذات أنواط .. " لم يمض على إسلامهم سوى أيام لأن فتح مكة كان في رمضان لثلاث عشرة ليلة بقين منه، وكان غزو النبي صلى الله عليه وسلم لهوازن يوم حنين بعد الفتح في الخامس من شوال .. أي بين فتح مكة وغزوة حنين خمسة عشر يوماً فقط ـ على الراجح من أقوال السلف والمؤرخين ـ وكان إسلام هؤلاء بين وخلال هذه الأيام فقط .. ومن كان كذلك لا يُستبعد عنه أن يصدر منه ما قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم عن ذات
أنواط .. بدافع الجهل لحداثة عهدهم بالكفر .. وهذا تمهيد مهم ـ يا أخي ـ لتعلم صفة وظرف هؤلاء الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجعل لهم ذات أنواط .
          قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:" ونحن حدثاء عهد بكفر "؛ أي قريبو عهد بكفر، ففيه دليل أن غيرهم لا يجهل هذا، وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة ا- هـ.
          والذي أفدنا به في أول جوابنا على السؤال أفاد به عدد من أئمة العلم والتوحيد .. وإليك بعض أقوالهم: 
          قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ بعد أن ذكر حديث ذات أنواط في كتابه القيم " تيسير العزيز الحميد ": قوله: فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" الله أكبر " هكذا في بعض الروايات، وفي رواية الترمذي " سبحان الله " والمقصود باللفظين واحد؛ لأن المراد تعظيم الله، وتنزيهه عن الشرك، والتقرب به إليه.
          قوله:" قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً .. " أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر الذي طلبوه منه، وهو اتخاذ شجرة للعكوف عندها، وتعليق الأسلحة بها تبركاً كالأمر الذي طلبه بنو إسرائيل من موسى عليه الصلاة والسلام حيث قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف عندها، اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها ..
          إلى أن قال: وفي هذه الجملة من الفوائد أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها والعكوف عندها، والذبح لها هو الشرك .. فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسناً وطلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقولة بني إسرائيل اجعل لنا إلهاً، فكيف بغيرهم مع غلبة الجهل ..
          وفيها، أن الاعتبار بالأحكام بالمعاني لا بالأسماء، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط .. 
          وفيها، أن من عُبد فهو إله؛ لأن بني إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يريدوا من الأصنام والشجرة الخلق والرزق، وإنما أرادوا البركة، والعكوف عندها، فكان ذلك اتخاذاً له مع الله تعالى.
          وفيها، أن معنى الإله هو المعبود، وأن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهى عن ذلك فانتهى لا يكفر .. ا- هـ.
          ونحوه قول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في كتابه فتح المجيد: شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل بجامع أن كلاً طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان، فالمعنى واحد فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة ا- هـ.
          وقال في كتابه قرة عيون الموحدين: قوله " ونحن حدثاء عهد بكفر " يشير إلى أهل مكة الذين أسلموا قريباً؛ فلذلك خفي عليهم هذا الشرك المذكور في الحديث بخلاف من تقدم إسلامه.
          فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" الله أكبر " تعظيماً لله تعالى عن أن يجعل له شريك في عبادته التي هي حقه على عباده ..
          قوله:" قلتم والذي نفسي بيده " حلف النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك تأكيداً لهذا الخبر وتعظيماً له كما قالت بنو إسرائيل من قبل ] اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة [ وإن لم يسموها آلهة، أخبر أن التبرك بالأشجار يجعلها آلهة، وإن لم يسموها آلهة، ولذلك شبه قولهم هذا بقول بني إسرائيل لموسى ] اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة [ فظهر بهذا الحديث أن التعلق على الأشجار والأحجار وغيرها لطلب البركة بها شرك في العبادة كشرك عبادة الأصنام .. ا- هـ. 
          هذه بعض أقوال أهل العلم التي تفيد أن الذي طلبوه من النبي هو من الشرك الأكبر كشرك عبادة الأصنام .. وأن الذي أقال عثرتهم هو الجهل لحداثة عهدهم بالكفر .. لم نرد منها استقصاء أقوال أهل العلم في المسألة، وإنما أردنا أن يُعرف أن هذا القول معروف عن أئمة العلم القدماء وليس هو قول بعض المعاصرين من أهل العلم كما يصور البعض !!
          وقد استدل البعض بعبارة مقتضبة وموجزة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ليظهر أن للشيخ قول هو بخلاف ما تقدم تقريره، حيث قال: والشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد قال بعد أن ساق الحديث السابق وذكر محاسن! الباب صار إلى قوله إلى الحسنة التالية: الحادية عشرة:" أن الشرك فيه أكبر وأصغر لأنهم لم يرتدوا بهذا ". فقد جعل طلبهم من الكفر الأصغر كما هو واضح ا- هـ . 
          أقول: وهذا خطأ وذلك من أوجه:
          منها: أن هذا الاستدلال مقتضب جداً ليس بمثله تُعرف مذاهب الشيوخ والعلماء في المسائل الكبار ..!
          ومنها: أن ما ذكره الشيخ من مسائل مستنبطة من الحديث كان بمثابة عناوين أو رؤوس أقلام .. تحتاج لبسط وشرح وإلمام بمجموع أقوال الشيخ فيها ليعرف مذهبه الحق فيها .. وأكثر الناس علماً بمذاهب الشيخ وترجيحاته هم أبناؤه وأحفاده الذين شرحوا كتابه " التوحيد " وقد تقدمت بعض أقوالهم التفصيلية في المسألة التي تبين خلاف ما أراد الناقل للعبارة إثباته عن الشيخ ..!
          ومنها: أن الشيخ ذكر أكثر من عشرين مسألة أو فائدة من حديث ذات أنواط .. فعلام اقتصر النقل على عبارته الآنفة الذكر فقط .. ؟!
          لماذا لم يُنقل كلامه في النقطة الثالثة: كونهم لم يفعلوا .. وفي الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا
فغيرهم أولى بالجهل .. وفي الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى ] اجعل لنا إلهاً [ .. وفي الثانية عشر: قولهم " ونحن حدثاء عهد بكفر " فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك .. وفي الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لقولهم " ونحن حدثاء عهد بكفر " .. لماذا لم تُذكر هذه النقاط والمسائل المستنبطة وغيرها التي تضفي للقارئ معانٍ أخرى وفهماً آخر للمسألة تعينه بحق على فهم مراد الشيخ من عبارته الآنفة الذكر ..؟!!
          علماً أن الذي ذكره الشيخ في هذا الموضع هو عبارة عن عناوين تحتاج لشرح وتفصيل .. ومن أراد أن يتصدى لذلك لا بد له من أن يكون ملماً بجميع أقوال الشيخ في المسائل المستنبطة الآنفة الذكر . 
          ومنها: أن للشيخ تفصيل يوضح مراده في المسألة يحسن ذكره حيث يقول: ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة ـ قصة ذات أنواط ـ وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا ؟
          فالجواب: أن نقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب .
          ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز ..
          وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنُبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى من جزء العقيدة والآداب الإسلامية، صفحة 174.
          هذا كلام الشيخ المفصل الواضح وهو صريح أن الذي أقدم عليه الصحابة هو من الكفر والشرك الأكبر، ولو كان من الشرك الأصغر لما صح قوله:" لو لم يُطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا .." لأن فعل الشرك الأصغر ـ حتى بعد قيام الحجة على فاعله ـ لا يرقى بصاحبه إلى درجة الكفر الأكبر المخرج من الملة .. ولا يجوز أن يُرمى صاحبه بالكفر.
          ومن هذا التفصيل المتقدم تعرف ـ أخي السائل ـ مراد الشيخ كذلك من قوله في المسائل المستنبطة من الحديث:" كونهم لم يفعلوا "؛ أي لم يكفروا بأعيانهم ـ رغم أن فعلهم كفر ـ لكونهم لم يفعلوا الكفر بعد أن بلغهم الخطاب بالنهي عما طلبوه .. ولو فعلوا بعد أن بلغهم الخطاب الشرعي لكفروا .. وهذا هو المطلوب .. وهذا الذي نقول به ونعتقده.
          ومنها: من خلال التفصيل المتقدم ـ وكذلك كلام الشراح من أبناء الشيخ ـ يرجح لدي أن مراد الشيخ من قوله:" لأنهم لم يرتدوا "؛ أي لم يرتدوا لجهلهم وحداثة عهدهم بالكفر .. ولكونهم لم يفعلوا الشرك ـ ولم يستمروا في طلبه ـ بعد أن قامت عليهم الحجة الشرعية .. والله تعالى أعلم .
          ومنها: أن الشيخ محمد حامد الفقي ـ وليس ابن باز!! ـ قد علق على عبارة الشيخ الآنفة الذكر في هامشه على كتاب فتح المجيد، طبع دار الكتب العلمية، صفحة 141، فقال ما نصه بتمامه غير منقوص ولا مبتور: ليس ما طلبوه من الشرك الأصغر، ولو كان من لما جعله النبي صلى الله عليه وسلم نظير قول بني إسرائيل ] اجعل لنا إلهاً [ وأقسم على ذلك، بل هو من الشرك الأكبر كما أن ما طلبه بنو إسرائيل من الأكبر . وإنما لم يكفروا بطلبهم لأنهم حدثاء عهد بالإسلام، ولأنهم لم يفعلوا ما طلبوه ولم يقدموا عليه، بل سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فتأمل ا- هـ.
          أكتفي بهذا القدر كجواب على السؤال المتقدم .. والحمد لله الذي تتم بفضله الطيبات الصالحات.


          14 ذو القعدة/1421 هـ.                      عبد المنعم مصطفى حليمة
                                                                         أبو بصير


إرسال تعليق

 
Top