GuidePedia

0

بسم الله الرحمن الرحيم

          الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.

          من يتتبع سيرة ومواقف هيئة كبار العلماء في الدولة السعودية يجد أنهم ـ ومنذ زمنٍ ـ قد ارتضوا ـ رهبة أو رغبة ـ لأنفسهم أن لا يقتربوا من ساحة السياسة .. وشؤون الدولة والحكم .. وإدارة البلاد؛ فالسياسة وشؤونها .. ومتعلقاتها .. لآل سعود الحاكمين والمالكين لمقدرات البلاد والعباد .. أما الشيوخ وكبار العلماء لا يجوز أن تتعدى نشاطاتهم واهتماماتهم الساحة الدينية التعبدية الفقهية ..  المجردة والبعيدة كل البعد عن واقع الأمة وشؤون الحكم والسياسة .. وإدارة البلاد .. إلا ما تسمح به الأسرة الحاكمة المتسلطة ـ وقت الحاجة والضيق ـ وبالقدر الذي يخدم أهواءهم، وسياساتهم .. ومصالحهم الذاتية .. فإن تحقق الغرض حُرّم عليهم ما أبيح لهم بالأمس!

 وأيما عالم أو شيخ يخرج عن هذه القاعدة .. ويتطلع لأن يُمارس دوره الحقيقي والطبيعي نحو دينه .. وأمته .. وبلاده .. والعباد .. فهو سرعان ما يُعاقب بالطرد من عمله .. وبسلب امتيازاته وحقوقه .. ويتعرض للاستتابة والسجن والاعتقال .. كمجرم .. أصابته لوثة خوارجية .. لا بد من أن يُعلن البراء منها .. ويدخل في الطاعة والولاء من جديد .. وما أكثر الشيوخ والعلماء في الجزيرة العربية الذين تعرضوا لهذه المعاملة الظالمة .. لو أردنا أن نذكر الأسماء!!  

          فإن قيل: قد رميت هيئة كبار العلماء في الدولة السعودية بتهمة كبيرة .. فما البرهان عليها؟!
          أقول: راجعوا فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .. وهي تُعد بالمجلدات .. فلن تجدوا عنهم غير هذا الوصف الذي ذكرناه!
          راقبوا مجالسهم ودروسهم التي تُبث عبر القنوات الفضائية وغيرها .. فستجدونها لا تخرج عن هذا الوصف الذي ذكرناه عنهم!
          بلغت العائلة السعودية الحاكمة والمتسلطة .. قمة الطغيان، والفساد، والنهب، والإسراف، والتبذير .. ومع ذلك لم نجد لهؤلاء العلماء الكبار قولاً ولا رأياً في ذلك؟!
          ألم يوقف رجل من آحاد المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمام الناس ليقول له: لا سمع ولا طاعة لك يا عمر .. لماذا ثوبك أطول من ثوبي؟!!
          فهل يتجرأ كبار العلماء أن يتوجهوا بالسؤال للمفسدين من العائلة المالكة الحاكمة
ليقولوا لهم: من أين لكم هذه المليارات ..؟!!
          من أين لكم هذه الأموال الطائلة التي تبنون بها قصوركم في أوربا وغيرها .. وهي تكلف بمليارات الدولارات؟!!
          أين تذهب خيرات الأمة .. وفي جيوب من توضع عائدات البترول وغيرها من أموال وخيرات البلاد .. والناس يشكون الفقر والجوع والحرمان؟!!
          يستبيح النظام السعودي حرمات الشباب المسلم الموحد .. وكثير من علمائهم ومشايخهم .. إرضاء لأمريكا بزعم ملاحقة الإرهاب .. ومع ذلك لن تجدوا لهؤلاء العلماء رأياً ولا قولاً حول ذلك، وكأن الذي يجري في البلاد لا يعنيهم .. وهؤلاء الشباب لا حرمة لهم!
          أمريكا تستبيح بلاد الحرمين بقواعدها العسكرية .. ولسنوات عدة .. فهل تجدون لهؤلاء العلماء الكبار رأياً أو كلمة أو همساً حول ذلك؟! 
          يضخ النظام السعودي بتروله  ـ عصب الاقتصاد ـ لأعداء الأمة .. وحلفاء دولة بني صهيون .. ومنذ زمن .. ولا يزال .. ومع ذلك لا رأي لهؤلاء العلماء في ذلك؟
          ما من نظام طاغٍ وكافر يُحارب الإسلام والمسلمين .. إلا وللنظام السعودي كامل العلاقات الودية، والدبلوماسية، والاقتصادية معه .. وفي المقابل نراه يقطع جميع العلاقات الدبلوماسية ـ وحتى مجرد الاعتراف ـ بالدولة الإسلامية الأفغانية زمن الطالبان .. إرضاء لأسيادهم الأمريكان .. ومع ذلك لم نجد لهؤلاء العلماء رأياً أو قولاً في ذلك؟!
          أميرهم " عبد الله " يعلن عن خطة مفادها التطبيع الكامل والشامل مع دولة الصهاينة اليهود .. وتتناولها وسائل الإعلام .. والكل يتكلم عنها .. ومع ذلك لم نسمع لهؤلاء العلماء رأياً ولا صوتاً حول ذلك .. إلا المباركة لكل ما يقوم به آل سعود؟!
          هل ترون لهم رأياً في الأمم المتحدة وقوانينها .. وبرامجها .. التي تقسم العالم إلى قسمين: قسم العبيد المطيع المنفذ لكل ما يؤمر به .. وقسم الأسياد الذي يُملي ويأمر ويُطاع ..؟!!
          هل ترون لهم رأياً في الأحلاف والمعاهدات التي تقيمها الدولة السعودية مع الآخرين ..؟!
          هل ترون لهم رأياً أو حكماً ولو في نظام واحدٍ من هذه الأنظمة العربية الطاغية الظالمة الجاثمة على صدور الشعوب بالحديد والنار .. والتي تحكمهم بقوانين الكفر والعهر؟!!
          هل تعرفون لهم رأياً تجاه كثير من المفاهيم والمصطلحات العصرية التي تشكل عند كثير من الناس ثقافة مغايرة لثقافة الإسلام .. كالعلمانية، والديمقراطية، والإنسانية، والوطنية، والعولمة، والرأسمالية، والاشتراكية .. وغيرها من المفاهيم والمصطلحات الشائعة الرائجة؟!
          تُحاك المؤامرات تلو المؤامرات ضد أمة الإسلام .. ثم تجدهم لا يعلمون عنها شيئاً .. وإن
كانوا يعلمون .. فإنهم لا يتكلمون عنها شيئاً .. وهذا أنكى وأشد!
          الأمة تُذبح من الوريد إلى الوريد .. وفي مجازر جماعية .. وفي أقطار عديدة من بلاد المسلمين .. ومع ذلك لا صوت لكبار العلماء ولا حس ولا حراك!
          النظام السعودي بكل جرأة ووقاحة يعلنها صريحة: بأن مشكلة المسلمين في الشيشان .. مشكلة روسية داخلية لا علاقة لآل سعود ودولتهم بها .. وكبار العلماء يقفون كالخرسان .. لا حس لهم ولا حراك .. وكأن المسلمين في الشيشان لا تجمعنا بهم أخوة العقيدة والدين والإيمان!!
          هل يجرؤون أن يُناقشوا ـ عبر الأثير ـ حقوق الحاكم وواجباته .. ما له وما عليه .. وفق ما تقتضيه تعاليم ديننا الحنيف .. ثم يُطالبون أمراءهم وحكامهم الالتزام بهذه الحقوق والواجبات؟!
أيما فساد يأتي من جهة الأسرة المالكة الحاكمة ـ مهما كان نوعه وكمه ـ فهو فوق المساءلة والمحاسبة والنقاش .. والسؤال عنه بدعة وفتنة .. وخلق من أخلاق الخوارج؟!
فأي برهان تريدونه بعد كل هذه البراهين .. وأي دليل أصدق من هذه الأدلة التي تُثبت أن هيئة كبار العلماء ـ وغيرهم ممن دخل في سلكهم وطريقتهم من الشيوخ ـ في وادٍ .. والسياسة وعالمها .. والحكم وشؤونه .. في وادٍ آخر؟!
قد أضحكني شيخ شاب متحمس ـ في مقابلة معه في إحدى القنوات الفضائية ـ عندما أراد أن يُثبت أن في السعودية العلماء العالمين بشؤون السياسة ودهاليزها .. وغير ذلك من المؤامرات التي تُحاك ضد الأمة ـ وكأنه أراد أن يدفع هذه التهمة عن نظامه الفاسد المهترئ ـ فذكر الشيخ سفر والشيخ سلمان .. وفات هذا الشاب المتحمس أن هذين الشيخين قد دفعا ضريبة باهظة ـ ولا يزالا ـ جراء تجرئهما على ممارسة حقهما المشروع في الحديث عن السياسة .. وشؤون العامة والحكم .. ودروب الإصلاح .. وقد سجن كل منهما لأكثر من خمس سنوات كعقاب على جرأتهما هذه .. ولا يزال إلى الساعة الشيخ سفر يُحرم من حقه المشروع في العمل .. وفي التدريس .. ومخاطبة الناس!!
فإن قيل: فما هي العواقب المترتبة جراء هذا الانفصام والبعد لكبار العلماء عن شؤون الحكم والسياسة ..؟
أقول: لا شك أنه يترتب عليه مزالق عدة:
منها: أن هذا الفصل بين علماء الشريعة والسياسة هو تكريس للعلمانية التي تفصل بين الدين والسياسة .. بين الدين والدولة وشؤون الحكم والحياة .. وهو تكريس كذلك لتلك المقولة الكافرة التي تقول:" دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر "! 
ومنها: أن هذا الفصل بين العلماء والسياسة .. وواقع الحياة .. يعني انسحاب العلماء من ساحة القيادة .. وساحة التأثير .. وساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وتركها لغيرهم ممن قد يُفسد ولا يُصلح!
ومنها: أن هذا الفصل .. يُجرئ طواغيت الحكم على التمادي في الظلم والفساد والطغيان .. والتآمر على الأمة ومصالحها .. لأنهم قد أمنوا صمت العلماء تجاههم وتجاه كل ما يصدر عنهم من ظلم وفساد .. وأمنوا عدم تدخلهم في كل ما يمت إليهم بصلة!
ومنها: أن هذا الفصل .. فيه إضلال للناس نحو دين الله؛ حيث قد يرسخ في أذهانهم أن علماء الشريعة لا يجوز أن يقتربوا من ساحة السياسة والحكم .. فهذا ليس لهم .. فدين الله لم يأذن لهم بذلك .. فالدين له رجاله .. والسياسة لها رجالها .. كما وفيه إضلالهم نحو حقيقة الحكام؛ إذ يقول عامة الناس: لو لم يكن هذا الحاكم عادلاً .. ويحكم بالسوية .. لما سكت عنه العلماء، ولما آكلوه وشاربوه .. وأقروه على أعماله وسياساته!
ومنها: أن هذا الفصل بين العلماء والسياسة .. يفقد شباب الإسلام الثقة بعلمائهم؛ إذ كيف يستفتونهم، ويرجعون إليهم عند الملمات، وهم طرف .. دائماً يمثلون وجهة نظر الحاكم .. وفي الحق والباطل سواء!
كيف يرجعون إليهم .. وهم يجهلون واقعهم .. ويجهلون السياسة ودهاليزها .. ويجهلون ما يدور حولهم .. وما يُحاك ضدهم وضد أمتهم .. فجاهل الشيء فاقد له، وفاقد الشيء لا يُعطيه!
والشباب إن فقدوا الثقة بعلمائهم .. قد يقودهم ويوجههم من لا علم له ولا خبرة .. وحينئذٍ لو حصل مالا يرضاه الله ولا رسوله .. لا يُلام إلا هؤلاء العلماء الذين قصروا ولم يؤدوا الأمانة .. وأبو قيادة السفينة .. ورضوا لأنفسهم أن يكونوا طرفاً وبوقاً وتبعاً للظالمين!

ومنها: أن هذا الفصل .. تنعكس آثاره السلبية على العالم ذاته؛ إذ بحكم جهله بسبيل المجرمين .. وبالسياسة وواقع الأمة، وواقع حكامها .. قد يُبارك الباطل ويُقره .. ويُنافح عنه على أنه حق وهو لا يعلم .. وفي ذلك هلاك للعالم ذاته .. وهلاك لمن يقلده ويُتابعه من عامة الناس!

كثير من عامة الناس تراهم يباركون باطل الطواغيت .. ويدخلون في موالاتهم ونصرتهم .. فإن أنكرت عليهم .. وسألتهم عن سبب صنيعهم هذا .. قالوا لك: نحن نتبع العلماء .. العلماء فعلوا الذي نفعل .. وباركوا الذي باركناه، ونحن على آثارهم مقتدون .. فنحن لسنا أعلم من العلماء!  

          لذلك نجد أن القرآن الكريم قد أبان سبيل المجرمين على وجه التفصيل لكي نحذره ونُحذر
منه العباد، كما قال تعالى:) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (. فمن لا يعرف سبيل المجرمين يُخشى عليه أن يواقعه .. ويقع في شباكه!   
ومنها: أن هذا الفصل بين العلماء والسياسة .. يعني تفريغ الساحة السياسية وميادينها للعلمانيين والمنافقين، وغيرهم من الجهلة ليخوضوا ويرتعوا فيها كيفما شاءوا؛ لأن الفراغ موجود ولا بد من أن يُسد ويُملأ، فإن لم يملأه الصالحون سيملؤه الطالحون ولا بد .. والناس لا بد لهم من سائس؛ فإن لم يسوسهم أهل الحق ساسهم أهل الباطل ولا بد!
ومنها: أن هذا الفصل بين العلماء والسياسة .. مؤداه إلى أن يكون للحاكم بطانة سوء يُعينونه على الإثم والظلم والعدوان؛ إذ كيف يكون له بطانة حسنة صالحة تعينه على المعروف، والعلماء المصلحون قد آلوا على أنفسهم أن لا يتدخلوا بالسياسة .. ولا بشؤون الدولة والحكم .. ويعتبرون السياسة من المحرمات والمحظورات عليهم؟!
هذه بعض  المخاطر والمزالق التي تترتب من جراء فصل العلماء عن السياسة .. وعن ممارسة دورهم المشروع في قيادة الشعوب .. وسياستهم بدين الله .. فهل وعى العلماء ذلك؟!
هذه المخاطر والمزالق ستظل جاثمة بظلها الثقيل على الأمة إلى أن تعود الريادة والقيادة من جديد إلى العلماء العاملين المجاهدين .. ليقودوا الشعوب بعدل الكتاب وقوة السيف .. وتكون السياسة وشؤون الحكم .. ورعاية البلاد والعباد .. جزء من اهتماماتهم ودعوتهم!
أعجب لبعض الدول التي تنشد الإصلاح .. وتُظهر نوع رغبة في الإصلاح .. ثم هم بنفس الوقت يحظرون على العلماء أن يمارسوا دورهم الريادي الذي ينبغي لهم أن يمارسوه .. ويفصلونهم عن السياسة .. والقيادة .. وشؤون الحكم .. ويجرمونهم لو حاولوا أن يفعلوا؟! 
فهؤلاء كذبوا .. لا يريدون الإصلاح .. مهما زعموا بألسنتهم خلاف ذلك .. وإنما يريدون الإفساد في الأرض .. وأن تستمر حالات التردي والتخلف .. والنهب والظلم .. لتخلو لهم الساحة من غير رقيب ولا حسيب!
هذا قولي، وما أردت منه إلا النصح والإصلاح ) إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

11/10/1424 هـ.                            عبد المنعم مصطفى حليمة

5/12/2003 م.                                    أبو بصير الطرطوسي

إرسال تعليق

 
Top