بسم
الله الرحمن الرحيم
سؤال:
توجد من الجماعات المعاصرة من تأخذ البيعة لنفسها ولأميرها من الأفراد على النحو
التالي: أبايع على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، ما لم أر
كفراً بواحاً ... فما مدى صحة وشرعية هذه الصيغة من بيعة الأفراد لأمراء
مجموعاتهم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين. هذه الصيغة من بيعة الأفراد لأمراء مجموعاتهم باطلة لا
تجوز؛ وذلك من أوجه:
منها:
أن هذا القيد " ما لم أرَ كفراً
بواحاً "؛ مفاده أنه مهما رأى منهم فجوراً بواحاً، وظلماً وفسقاً، وإجراماً
بواحاً ـ لكن لا يرقى إلى درجة الكفر البواح ـ لا يجوز له أن يفارقهم، بل يجب عليه
أن يبقى معهم، يناصرهم، ويعطيهم السمع والطاعة في المنشط والمكره، وفي العسر
واليسر .. وهذا باطل بالنقل والعقل .. قال تعالى:[ وَإِمَّا
يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ ]الأنعام:68.
وقال
تعالى:[ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ
إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ
تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً
مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعاً ]النساء:140. هذه الآية وإن نزلت في النهي عن القعود والجلوس مع
الكافرين المستهزئين .. إلا أنه يجوز الاستدلال بها على النهي عن الجلوس والقعود
مع الفاسقين والظالمين، كما استدل بها عمر بن عبد العزيز على الصائم الذي جالس
شاربي الخمر وهم يشربون الخمر .. فجلده كما جلدهم سواء.
وكذلك
قوله تعالى:[ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى
وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ]المائدة:2. وفي بقاء
المرء المسلم مع الفاسقين الظالمين، على ما يمارسونه من ظلم وعدوان وبغي .. ينصرهم
ويكثر سوادهم .. فيه من التعاون على الإثم والعدوان ما فيه، وفي الحديث:" من كثر سواد قومٍ فهو منهم ".
ومنها:
قد ظهرت جماعات وفرق عدة في التاريخ الإسلامي كان لها أفرادها وأمراؤها .. وكان
منها من يقاتل .. كالمرجئة، والمعتزلة، والخوارج .. وغيرهم .. ومع ذلك كان السلف
ينكرون عليهم، ويرون وجوب اعتزالهم، وعدم تكثير سوادهم لا بقول ولا فعل .. فضلاً
عن أن يقول أحد من السلف بوجوب طاعتهم وطاعة أمرائهم ما لم يُر منهم كفراً بواحاً
.. وكلمات السلف في وجوب اعتزال مجالس أهل البدع والأهواء أكثر من أن تُحصر في هذا
الموضع.
ومنها:
أن المبايعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر هكذا على الاطلاق
وفي جميع مناحي ومرافق الحياة .. لا تُعطى إلا للخليفة أو الحاكم العام الذي
ترتضيه الأمة حاكماً عليها .. أما أمراء الجماعات أو المجموعات كالتي تتشكل في
زماننا فهذه إمارة استثنائية خاصة .. طاعتها خاصة ومقيدة فيما تم التعاقد عليه
تنتهي بانتهاء ما تم التعاقد عليه .. كالسفر .. أو الجهاد .. أو طلب العلم في
مدارس ومعاهد يكون على هذه المعاهد قيم أو أمير مطاع، ونحو ذلك .. فإذا انتهى
السفر انتهت الإمارة .. وإذا انتهى الجهاد في مرحلة من المراحل انتهت الإمارة ..
وإذا انتهى طلب العلم انتهت الإمارة .. أما الإمارة العامة التي تعطى السمع
والطاعة في المعروف، وفيم ليس فيه معصية .. في جميع مناحي ومرافق الحياة .. هي
للخليفة أو الحاكم العام للمسلمين، وليس لأحدٍ غيره!
ومنها:
أن الخليفة العام لا يحق له أن يُطالب أمته والناس ابتداءً أن يُبايعوه على السمع
والطاعة ما لم يروا منه كفراً بواحاً، فضلاً عمن سواه .. ولم يحصل شيء من ذلك مع
الخلفاء الراشدين الأربعة، ومن جاء بعدهم من الخلفاء .. بل في اليوم الأول من
خلافة الصّديق رضي الله عنه تراه يخاطب الأمة بقوله العظيم: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي
عليكم"!
فإن قيل: كيف نفهم
ونفسر قوله صلى الله عليه وسلم:" أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً
بواحاً عندكم من الله فيه برهان "؟
أقول:
أن لا ننازع الأمر أهله بعد التمكين، وبعد أن يستتب لهم الحكم، وتتم لهم البيعة
شيء .. وأن يبايع أولو الأمر ابتداء ـ وقبل التمكين ـ على السمع والطاعة ما لم يُر
منهم كفر بواح شيء آخر .. لا يجوز الخلط بينهما.
ويُقال
كذلك: عدم منازعة الولاة إلا في مورد الكفر البواح .. ليس محل اتفاق عند السلف ..
بل هناك كثير من السلف وأولي العلم يرون الخروج على حكام الفجور والظلم .. في حال
كان الخروج عليهم أقل فتنة وضرراً من إقرارهم وبقائهم على سدة الحكم .. كما بينا
ذلك في مقالتنا المنشورة في موقعنا "فصل الكلام في مسألة الخروج على الحكام"،
فليراجعها من شاء.وبالتالي عبارة " ما لم ترو كفراً بواحاً "، لا يجوز
أن تكون في مورد المبايعة، أو شرطاً للمبايعة!
ويُقال
أيضاً: أن المسلم المجروح العدالة .. ابتداءً لا يجوز أن يُبايَع على الحكم
والولاية .. ومن ثم يُعطى السمع والطاعة .. فضلاً عن أن يبتدئ حكمه بشرطه على
المبايِع بأن يسمع ويطيع له ما لم ير منه كفراً بواحاً ..!
قال
تعالى:[ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ
وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ]البقرة:124.
أي لا ينال عهدي بالإمامة الظالمين.
قال
القرطبي في التفسير: استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل
العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله
عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله، على ما تقدم من القول فيه. فأما أهل الفسوق
والجور والظلم فليسوا له بأهل، لقوله تعالى:[ لاَ يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ ].
قال
ابن خويز منداد: وكل من كان ظالماً لم يكن نبياً ولا خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً،
ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام،
غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد ا- هـ.
ومنها: أن مثل هذه الصيغة في بيعة الأفراد
لأمرائهم .. تحمل الأمراء على الطغيان، والاستبداد، والظلم والاستعلاء بغير حق ..
وهذه نتيجة تتنافى مع مقاصد الشريعة من الإمارة والتأمير، فالإمارة في الإسلام
تكليف، وخدمة ورعاية، ومسؤولية، وليس تشريفاً .. وهي مغرم وليس مغنماً، إلا من
أخذها بحقها .. قال صلى الله عليه وسلم:"ما مِن عبدٍ يَسترعيهُ اللهُ رعيَّةً،
فلَم يُحِطْها بِنُصحِه لم يجدْ رائحةَ الجنَّةِ"متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم:"ما
من أميرٍ يلي أمرَ المسلمين، ثم لا يجهدُ لهم ويَنصح، إلا لم يدخلْ معهم الجنَّة"
مسلم.
وقال
صلى الله عليه وسلم:"ليتمنينَّ أقوامٌ ولُّوا هذا الأمر،
أنهم خَرُّوا من الثريَّا، وأنَّهم لم يَلُوا شيئاً"[[1]].
وقال صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للأمراء! ليتمنينَّ أقوامٌ أنَّهم كانوا مُعلَّقين
بذوائبِهم بالثريَّا، وأنهم لم يكونوا وَلُوا شيئاً قط"[[2]].
وقال صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للأمراء، ويلٌ للعُرَفاء، ويلٌ للأُمناء؛ ليتمنَّيَنَّ
أقوامٌ يومَ القيامة أنَّ ذوائبَهم معلقةٌ
بالثُّريَّا يُدَلْدَلُون بين السماء والأرض، وأنهم لم يَلوا عملاً"[[3]].
وقال صلى الله عليه وسلم:"ما مِن أميِر عشرةٍ، إلا وهو يُؤتَى به يوم القيامةِ
مَغلولاً، حتَّى يَفُكَّه العدلُ، أو يوبقَهُ الجورُ"[[4]].
خلاصة
القول: هذه الصيغة في بيعة الأفراد لأمراء مجموعاتهم، والواردة أعلاه في السؤال ..
باطلة، باطلة .. لا يجوز العمل بها .. وصاحبها في حِلٍّ منها، لقوله صلى الله عليه
وسلم:" أيما شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ". بهذا أجيب عن
السؤال الوارد أعلاه .. والحمد لله رب العالمين.
فإن قِيل: ما هي صيغة
البيعة الأسلم والأصح التي تُعطَى للإمارة الاستثنائية الخاصة ..؟
أقول:
لا توجد صيغة معينة يُلتزم بها .. كما لم يعرف عن السلف عندما كانوا يخرجون في سفر
.. أو غزو .. أنهم كانوا يعطون بيعة خاصة لأمراء السفر أو الجند .. ولكن كانوا
يعلمون ضمناً .. أن من يُؤمّر على سفر أو حج أو جهادٍ، ونحو ذلك من الأعمال .. يجب
أن يُطاع في المعروف فيم قد أُمّر عليه .. فيطيعونه بالمعروف، وفيم ليس فيه معصية
.. من دون أن يخصوه ببيعة خاصة به، غير بيعتهم للإمام العام .. وهذا يكفي.
فإن قيل: كيف نفهم
ونفسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"من مات وليس في عنقه
بيعة، مات ميتة جاهلية"؟
أقول:
المراد هنا بيعة الإمام العام .. وليس البيعات الاستثنائية الخاصة .. فهذه لا تغني
ولا تجزئ عن البيعة العامة للإمام العام للمسلمين، يوضح ذلك قوله صلى الله عليه
وسلم، في حديث آخر:"من مات وليس عليه إمامٌ مات
ميتةً جاهلية". فالمراد بالإمام هو الخليفة أو الإمام أو الحاكم العام
للمسلمين .. وقوله:"مات ميتةً جاهلية"؛
لا يفيد أنه مات كافراً، وإنما يفيد أنه مات ميتة شابهت ميتة الجاهلي في جاهليته
.. حيث كانوا في الجاهلية متفرقين في قبائل شتى، تتنازعهم الولاءات والزعامات
القبلية .. من غير إمام عام يجمعهم!
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
23/2/1434
هـ. 6/1/2013 م
[1] رواه أحمد، صحيح الجامع: 5360.
[2] صحيح موارد الظمآن: 1295. والذوائب: جمع ذُؤابَةٍ وهي الشعر
المضفور من شعر الرأس " النهاية ". والثريَّا؛ السماء، أو النجم في
السماء.
[3] أخرجه ابن حبان، والحاكم، صحيح الترغيب: 2179. العرفاء أو العريف؛
هو المختار الذي يمثل قومه أو بلدته أو منطقته عند السلطان الحاكم، ليعرِّفه على
أحوالهم وحاجياتهم .. فيكون الوسيط بين من يمثلهم من الناس وبين الحاكم. والأمناء؛
من يستأمنهم السلطان الحاكم على ولاية ورعاية وإدارة بعض المدن أو الأقطار ..
ويُحمل كذلك على الجباة؛ الذين يجبون الزكاة والحقوق .. فهؤلاء كذلك أمناء.
[4] رواه البيهقي في السنن، صحيح الجامع: 5695.