بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم .
وبعد: فإن إظهار الكفر من غير مبررٍ شرعي معتبر كفر أكبر مخرج لصاحبه من الملة، سواء أظهره وهو معتقد به ومستحسن له، أم أنه أظهره من غير ذلك، ولأي دافع أو اعتبار آخر؛ لأن الأحكام تُبنى على الظاهر وما يُظهره المرء .. وذلك يكون في أحكام الكفر والإيمان .
فالمسألة هامة جداً وجد خطيرة؛ وبخاصة إذا علمنا أن الكفر جرم عظيم لا يعدله جرم، وله تبعاته الخطيرة على صاحبه في الدنيا حيث تُجرى عليه أحكام الكفر والردة، وفي الآخرة حيث الخلود في نار جهنم أبداً ، كما قال تعالى:] إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين . خالدين فيها لا يُخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون [ البقرة:161-162. وقال تعالى:] إن اللهَ لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء:48.
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" اثنتان موجبتان " قال رجل: يا رسول الله ما الموجبتان ؟ قال:" من مات لا يُشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يُشرك بالله شيئاً دخل النار " مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله أيُّ الذنبِ أكبر عندَ الله؟ قال:" أن تدعو لله نداً وهو خلقك " متفق عليه . أي أن تجعل لله تعالى نداً في أي خاصية من خصائصه I وهو وحده الذي خلقك الذي يستحق منك أن تعبده ..
من هنا يتعين على المسلم أن يتعرف على الحالات التي أجاز فيها الشارع إظهار الكفر ليعلم المساحة التي يستطيع أن يتحرك فيها إن اضطر للحركة أو الوقوع فيها، وحتى لا يتوسع في إظهار الكفر من غير علم ولا برهان فيقع في المحظور وتحت طائلة الوعيد والعذاب.
والمتأمل للواقع المشاهد يجد أن المسألة ـ كغيرها من المسائل ـ قد جنح فيها كثير من الناس إلى فريقين، فريق إلى الإفراط وفريق إلى التفريط؛ فريق شدد على نفسه وعلى الآخريـن
فضيق واسعاً مباحاًً، وفريق تساهل وتهاون فوسع ضيقاً إلى أن وقع في المحظور والحرام ..!
هذا مما حملنا أكثر على الشروع في بحث المسألة، وبيان وجهة الحق فيها من غير جنوح إلى إفراط أو تفريط إن شاء الله .
وفي هذا البحث سنجتهد ـ إن شاء الله ـ في أن نجيب على هذا السؤال الهام، والذي وردنا من أكثر من طرفٍ وأخٍ : ما هي الحالات التي أجاز فيها الشارع إظهار الكفر .. وغيره من المسائل والفروع ذات العلاقة بالموضوع .. راجياً من الله تعالى السداد والتوفيق والقبول، إنه تعالى سميع قريب .
فأقول: أجاز الشارع I إظهار الكفر في ثلاث حالات فقط([1]) وفق ضوابط وقيود معينة ومحددة، نذكرها على وجه التفصيل والتحقيق، وهي كالتالي:
الحالة الأولى: الإكراه.
الإكراه هو: حمل الإنسان بالقوة على فعل شيءٍ أو القول به وهو لا يرضاه لمخالفته للشرع .
فمن يُكره على قول الكفر أو فعله ـ كأن يؤمر بالسجود للطاغوت ـ تحت ظروف الإكراه، ولم يجد سبيلاً لدفع هذا الإكراه إلا بالتلفظ بالكفر أو فعله جاز له شرعاً أن يتلفظ بالكفر، على أن يبقى قلبه معقوداً على الإيمان واليقين .
والدليل على ذلك قوله تعالى:] مَن كفرَ بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان ولكن من شَرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من اللهِ ولهم عذابٌ عظيم [ النحل:106.
ولقوله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان،وما استكرهوا عليه "([2]).
ولقصة عمار المشهورة لما أكرهه المشركون وعذبوه على النيل من جناب النبي صلى الله عليه وسلم، وقول كلمة الكفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فكيف تجد قلبك ؟ " قال أجد قلبي مطمئناً بالإيمان . قال:" فإن عادوا فعُد ".
- تنبيهات هامة:
نذكر هنا بعض التنبيهات الضرورية على وجه الإيجاز لا التفصيل:
1- لا يُعطى الكفر إلا بعد إكراه محقق، أو يرجح فيه الظن على تحققه ونزوله بالشخص المُكرَه، يُخشى منه الهلاك أو التلف كالقتل، أو القطع، أو الضرب المبرح الغير محتمل وغير ذلك.
وقد أُثر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ما من ذي سلطان يريد أن يُكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به ".
وقد حمل بعض أهل العلم على أن السوطين بحق الصحابي ابن مسعود رضي الله عنه هي مبرحة يُخشى عليه منهما التلف لضعف ونحالة جسمه رضي الله عنه .. والله تعالى أعلم .
2- أن يكون اعتقاده سالماً من الكفر، منعقداً على الإيمان واليقين .. بحيث ولو اطمأن قلبه للكفر الذي يظهره وانعقد عليه، يكفر من فوره ويخرج من الملة لأن القلب مقر الاعتقاد لا سلطان لمخلوق على إكراهه على شيء هو لا يريده ولا يرضاه .
3- أن يُظهر من الكفر بقدر ما يدرأ عنه العذاب أو الأذى من دون أدنى زيادة .. فالاسترسال والتوسع في إظهار الكفر من غير ضرورة يوقع صاحبه بالمحظور وربما في الكفر .. فلو طُلب منه مثلاً أن يشتم الدين فقط، فزاد هو على ذلك فشتم الدين والرب I، ومحمد صلى الله عليه وسلم وجميع المسلمين .. فمثل هذا التوسع لا يُعذر صاحبه بالإكراه، لأن هذه الزيادة من الكفر أظهرها من غير إكراه ومن دون أن تُطلب منه ..!
4- إذا كان يستطيع النفاد من الوقوع تحت ظرف الإكراه قبل وقوعه عليه بهروب أو هجرة ونحو ذلك .. ثم لا يفعل إيثاراً للدعة أو الدنيا وملذاتها .. فحينئذٍ لا يُعذر بالإكراه لأنه حصل بإرادته وكان بإمكانه أن يدفعه وأن لا يقع فيه، والله تعالى يقول:] فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن:16 . وقال تعالى:] إن الذين توفَّاهم الملائكة ظالمي أنفسِهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أم تكن أرضُ الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنمُ وساءت مصيراً . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان اللهُ عفواً غفوراً [ النساء:97-99 .
فبين الله تعالى أن الذين كانوا يستطيعون الهجرة قبل أن يتعرضوا للمواقف التي أكرهوا فيها على نصرة أهل الشرك وتكثير سوادهم ـ في بدر ـ على النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين الموحدين .. أنهم لا يُعذرون بالإكراه ودعوى الاستضعاف، بخلاف المستضعفين الحقيقيين الذي كانوا ـ قبل أن يتعرضوا لمواقف الإكراه ـ لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً للخروج؛ فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم ويغفر لهم لو أكرهوا على إظهار الكفر .
وكذلك لو استشرف بنفسه مواطن الظالمين من الطواغيت ـ بعد أن سلمه الله منهم ـ مع علمه المسبق أنه سيتعرض لمواقف يُكره فيها على إظهار الكفر .. فإنه كذلك لو أظهر الكفر لا يُعذر بالإكراه لأنه هو الذي أراده وسعى إليه بنفسه من دون أي مبررٍ أو مسوغٍ شرعي !!
وفي ذلك تذكرة لأولئك الذين تعبوا من الهجرة ـ وما منَّ الله به عليهم في بلاد المهجر من الخير الكثير والسعة في الرزق ـ شحاً بالأوطان والديار، فانهاروا ورموا بأنفسهم على عتبات الطواغيت الظالمين يستعطفونهم ويستجدون منهم السماح والعفو وغير ذلك من مواقف الخزي والذل .. فهؤلاء كلهم لا يعذرون بالإكراه لو اضطروا إلى إظهار الكفر، بعد النزول أو الارتماء في أحضان الطاغوت وأعوانه الظالمين ..!
وكذلك الذين يستشرفون المجالس النيابية التشريعية الطاغوتية بإرادتهم .. فإنهم لا يعذرون بالإكراه لو اضطرتهم الظروف إلى إظهار شيءٍ من الكفر؛ كالقسم على احترام الدستور الجاهلي، والدخول في طاعة الطاغوت الحاكم وغير ذلك .. والعياذ بالله .
5- لا يجوز للمُكرَه أن يُزيل الضرر عنه بضررٍ يوازيه أو أكثر منه؛ كأن يُزيل ضرر القتل عنه بقتل أخيه المسلم، لأن نفسه لا تفضل نفس أخيه المسلم .
وعليه لو خير بين أن يُقتل أو يَقتل أخاه المسلم لما جاز له أن يقتل أخاه وإن قُدم عنقه للذبح والإعدام، وكذلك الذي يقع أسيراً في أقبية سجون الطواغيت لا يجوز له ـ مهما كان التعذيب عليه شديداً ومؤلماً ـ أن يشي ويدل على مكان أخيه المسلم إن علم أن اعتقاله فيه هلاكه وموته ..!
قال الشيباني في السيَر 4/245: ولو قالوا لأسير مسلم: اقتل لنا هذا الأسير المسلم أو لنقتلنك، لم يسعه أن يقتله لما جاء في الأثر ليس في القتل تقية، وكذلك لو أمروه بربط يديه أو رجليه، ولو كانت يد الذي يضرب بالسيف ضعيفة، فقيل له: أمسك بيدك على يديه، حتى نضربه وإلا قتلناك، لم يسعه أن يفعل هذا ..
ولو هرب منهم أسير فقالوا لأسير آخر يعرف مكانه: دلنا عليه لنقتله وإلا قتلناك، لم يسعه أن يدلهم عليه . انتهى .
ننبه على ذلك لأننا نلحظ في كثير من الأحيان أن الأخ الأسير ـ الذي يبتلى بالسجن في أقبية الطواغيت ـ ما إن تنهار عليه سياط الجلادين إلا ويخبر عن أسماء إخوانه وعن أماكن وجودهم، مع علمه المسبق أن ذلك سيؤدي إلى قتلهم وتعليقهم على أعواد المشانق .. وإن سُئل تراه يُعلل ويبرر لنفسه أنه فعل ما فعل تحت ظروف الإكراه، ولكي ينجو من التعذيب ..!!
والجواب ما تقدم: أن نفسه ليست أعز ولا أغلى من نفوس إخوانه، وبالتالي لا يجوز له أن يفدي نفسه بأرواح إخوانه، ولو فعل فهو آثم .. والواجب في حقه في مثل هذه الحالة أن يصبر ويحتسب .. والله تعالى أعلم .
6- لا يجوز للمكره أن يقاتل المسلمين إن أُكره على الخروج مع عسكر المشركين لقتال
المسلمين، وإن أدى ذلك إلى قتله أو سجنه .
فإذا كان في قتال الفتنة بين المسلمين بعضهم مع بعض لا يجوز للمسلم أن يشارك القتال مع أحد الفريقين ضد الفريق الآخر، وإن أدى ذلك إلى قتله وسفك دمه، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بعض أصحابه بأن يتخذوا سيفاً من خشب في قتال الفتنة .. فإذا كان الأمر كذلك بين المسلمين، فمن باب أولى للمسلم أن يعتزل القتال مع فريق أهل الشرك والإلحاد ضد أهل الإيمان والتوحيد، وإن أدى ذلك إلى قتله وسجنه، وأدرج اسمه تحت مسمى العصيان العسكري، أو الخيانة العظمى للأنظمة العسكرية السائدة في زماننا..!!
وهذا يستدعي تنبيه الجنود الذين يُكرهون على الجندية عند الطاغوت في بعض الجيوش الكافرة المعاصرة التي ناصبت الإسلام والمسلمين الحرب والعداء .. أنه لا يجوز لهم تحت أي ذريعة أو سبب كان طاعة رؤسائهم في تنفيذ أوامرهم التي مفادها اقتحام منازل المسلمين الموحدين لاعتقالهم ورعب أطفالهم ونسائهم، أو قتلهم وقتالهم أو غير ذلك من صنوف الأذى والاعتداء، وإن أدى ذلك إلى سجنهم أو قتلهم ..
7- أن الذي يُكره على إظهار الكفر .. الأولى والأفضل بحقه أن يصبر ويأخذ بالعزيمة ولا يظهر الكفر، وإن أدى ذلك إلى هلاكه، وبخاصة إن كان من ذوي العلم وفي موضع الأسوة والقدوة للآخرين .
كما في الحديث، عن أبي الدرداء قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم:" أن لا تُشرك بالله شيئاً وإن قُطعت أو حُرِّقت .."([3]).
وقال صلى الله عليه وسلم:" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان " منها " أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار " متفق عليه .
وكذلك ما حصل للصحابي عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه مع الطاغية ملك الروم ومما جاء في قصته أنَّ الطاغية قال له: هل لك أن تنصَّر وأُشركَك في ملكي وسلطاني ؟! فقال له عبد الله: لو أعطيتني ما تملك وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت . قال: إذاً أقتلك . قال: أنت وذاك ! فأمر فصُلب، وقال للرماة: ارموه قريباً من يديه، قريباً من رجليه، وهو يُعرض عليه وهو يأبى . ثم أمر به فأُنزل، ثمَّ دعا بقدرٍ فصُبَّ فيها ماء حتى احترقت، ثم دعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم أمر به أن يُلقى فيها . فلما ذُهِبَ به بكى، فقيل له: إنه قد بكى، فظنَّ أنه جزع، فقال: ردوه، فعرض عليه النصرانية، فأبى . فقال: ما أبكاك إذاً ؟ قال: أبكاني أني قلت في نفسي تُلقى الساعة في هذه القدر فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد كل شعرةٍ في جسدي نفْس تُلقى في الله !! قال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك ؟ قال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين ؟! قال: وعن جميع أسارى المسلمين . قال عبد الله: فقلت في نفسي عدوٌّ من أعداء الله، أُقبل رأسه يُخلي عني وعن أسارى المسلمين ، لا أبالي . فدنا منه فقبل رأسه، فدفع إليه الأسارى . فقدم بهم على عمر رضي الله عنه فأُخبر عمر بخبره، فقال عمر: حقٌّ على كل مسلم أن يُقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ، فقام عمر وقبل رأسه .
هذا الاستحسان من عمر رضي الله عنه ومن معه من الصحابة يعتبر بمثابة الإجماع ـ الذي لا يُعرف له مخالف ـ على تحسين موقف عبد الله بن حذافة، وأن الأخذ بالعزيمة الذي تمثل في موقف هذا الصحابي الجليل هو الأولى والأفضل .. والله تعالى أعلم .
الحالة الثانية: التُقية.
التُقية: هي إظهار الموالاة والمداراة للمشركين باللسان ـ خوفاً منهم على النفس والأهل ـ مع إضمار العداوة والبغضاء لهم في القلب([4]).
وإظهار الموالاة باللسان للمشركين لا شك أن منه ما يكون من الكفر، وأن صاحبه يكفر لو أظهر ذلك من غير تقية أو خوف معتبر ..
والدليل على ذلك قوله تعالى:] لا يتخذِ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيءٍ إلا أن تتقوا منهم تُقاةً ويُحذركم الله نفسَه وإلى الله المصير [ آل عمران:28 .
قال ابن جرير الطبري في التفسير 3/227: ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفارَ ظهراً وأنصاراً توالونهم على دينهم، وتُظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك ] فليس من الله في شيء [يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ] إلا أن تتقوا منهم تقاة [ إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مسلم بفعل .
وعن السدي قال: إلا أن يتقي تقاةً؛ فهو يُظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءة من المؤمنين.
وعن ابن عباس قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان .
وعنه قال: فالتقية باللسان؛ من حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقية باللسان .
وعن عكرمة في قوله:] إلا أن تتقوا منهم تقاة [ قال:ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحل ماله . انتهى .
وقال ابن كثير في التفسير:] إلا أن تتقوا منهم تقاة [ أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم .
وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء، والضحاك، والربيع ابن أنس.
وقال البخاري: قال الحسن التقية إلى يوم القيامة . انتهى . أي إذا توفرت دواعيها وأسبابها ..
قلت: وأهل التقية هم المستضعفون في الأرض الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً للخروج من دار التقية؛ دار الكفر والقهر والظلم، فيلجأون مضطرين للتقية كمتنفسٍ لهم وللحفاظ على أنفسهم ووجودهم من دون أن يتعرضوا للاستئصال أو القتل .. وهم نفسهم المعنيين من قوله تعالى:] إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان اللهُ عفواً غفوراً [ النساء:98-99. فالتقية لهؤلاء وليس للأقوياء الذي يستطيعون حيلةً ويهتدون سبيلاً ..
فإن قيل: التقية هي صورة من صور الإكراه، فعلام أدرجتها كحالة ثانية من الحالات التي يجوز فيها إظهار الكفر ..؟
أقول: نعم، التقية صورة من صور الإكراه، لكنها تختلف عن الإكراه من وجهين:
أولهما: أن الإكراه يكون باللسان والعمل، بينما التقية تكون باللسان فقط كما تقدم عن أهل العلم، فإن حُمل المرء على فعل شيء لا يرضاه بالقوة وبشكل مباشر فينتقل في هذه الحالة
من صورة التقية إلى صورة الإكراه ..
ثانياً: أن المساحة الزمنية والمكانية للإكراه أضيق من المساحة التي يُعمل فيها بالتقية؛ فالإكراه تكون صورته: حمل المرء بالقوة في موقف معين، وساعة معينة على فعل أو قول شيء معين هو لا يرضاه .. فإذا انتهت هذه الساعة ورُفع الموقف انتهى ظرف الإكراه الذي يبرر للمرء إظهار الكفر أو ما فيه مخالفة شرعية .
بينما التقية: فساحتها الزمانية والمكانية أوسع فهي تشمل جميع المساحة الزمانية التي يقيمها المسلم مضطراً في دار التقية والظلم، وهو يلجأ إليها كلما اضطرته الظروف إلى ذلك حتى
يدفع شر القوم عنه .
وقد تختلف التقية عن الإكراه كذلك أن الإكراه يكون مباشراً والعقوبة عليه فورية .. بينما التقية قد يكون عنصر الإكراه فيها غير مباشر، والعقوبة فيها ربما قد تأتي متأخرة عن الحدث إلى حين أن تجتمع لدى الظالمين جميع التقارير والأخبار الخاصة فيمن يراقبونه ويتجسسون عليه . هذه هي أوجه الاختلاف بين التقية والإكراه ..
- تنبيهات وضوابط:
1- من خلال ما تقدم نستنتج أن التقية رخصة للعاجز عن إظهار الحق في دار التقية، والعاجز عن الخروج من سلطان أهل ذلك الدار .. أما القادر على إظهار الحق أو الخروج من دار التقية والخوف لا رخصة له في التقية .
2- التقية تكون بمداراة المشركين وموالاتهم باللسان، على أن يُضمر لهم العداوة والبغضاء في القلب، وأن لا يُعينهم على مسلم في شيء ..
3- التقية تكون بقدر الحاجة التي بها يندفع أذى القوم، بحيث إذا كان أذى القوم يندفع مثلاً بخمس كلمات لا يجوز له أن يتوسع فيعطيهم عشرة كلمات ..
4- لا يجوز للمرء في مجالسه الخاصة بعيداً عن أعين الظالمين وجواسيسهم أن يظهر لهم الموالاة، ثم يزعم أن ذلك من التقية ..!!
5- دار التقية دار ظلم ولا يستلزم بالضرورة أن يكون دار كفر وحرب، كما حصل في زمن بعض حكام العباسيين أيام فتنة مسألة خلق القرآن التي نصرها الولاة والحكام .. حيث أن كثيراً من أهل العلم المعتبرين سكتوا وقالوا تقيةً القرآن مخلوق ليدرؤوا عن أنفسهم السيف والقتل باستثناء الإمام أحمد رحمه الله حيث أخذ بالعزيمة وأظهر الله الحق به وعلى يديه ..!
ومما يُروى في ذلك أن أصحاب بِشر بن الحارث قالوا له حين ضُرب الإمام أحمد في المحنة:
يا أبا نصر، لو أنك خرجت فقلت إني على قول أحمد بن حنبل ! قال بشر: أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء .. حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه .
أي أن الإمام أحمد قام مقام الأنبياء عندما أخذ بالعزيمة وصدع بالحق، وأنا لا أقدر على هذا الموقف .. فتأمل!!
كذلك ليس كل دار كفر هو دار تقية وخوف يبرر للمسلم إظهار الكفر فيه أو ممارسة التقية، وبخاصة دار الكفر الذي يوجد بينها وبين المسلم عهد أمان يستطيع بموجبه أن يظهر دينه، ويدعو إليه بحرية، كما هو مشاهد في بعض البلدان الغربية ..!
وكما حصل للصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة؛ رغم أنها كانت دار كفر إلا أنها كانت بالنسبة لهم دار أمان استطاعوا أن يظهروا فيها دينهم ودعوتهم ..!
وعليه فإن مجرد وجود المسلم في دار الكفر لا يستلزم بالضرورة أن يأخذ بالتقية من دون النظر إلى عنصر الخوف المحيط به، واحتمال نزول الظلم بساحته .. والنظر إلى حجم هذا الظلم ونوعه .
6- مما تقدم يُعلم الفارق الكبير بين التقية المشروعة التي يقول بها أهل السنة، وبين التقية المبتدعة التي يقول بها الشيعة الروافض، والتي بها يستحلون الكذب على آحاد وعوام المسلمين، وبخوف وبلا خوف ..!!
الحالة الثالثة: من أجل استئصال ودفع كفر أغلظ وأشد.
وذلك عندما يقع خيار بين كفرين لا بد من تقديم أحدهما على الآخر، فحينها يقضي الشرع بتقديم أقلهما كفراً وضرراً لدفع أشدهما وأغلظهما كفراً وضرراً([5]) .
وصورة ذلك تتحقق عندما تُبتلى الأمة بطاغوت كفره مغلظ بعضه فوق بعض، تشتد فتنته وبلوته على البلاد والعباد، ولا مجال لاستئصاله وإراحة العباد من شره إلا بعد الانغماس في صفه وعسكره، والتظاهر بما يوهمه أنك من جنده وبطانته إلى أن تتمكن من عنقه وقتله ..
وهذه مسألة كنا نحسب أنها منتهية وواضحة لا تستحق البحث أو الجدال لوضوحها وبخاصة عند الجماعات الجهادية التي تحتاج إلى كل جزئية من جزئيات الفقه الإسلامي، لكي تستفيد منه وتستخدمه في عملية المواجهة الضخمة التي تخوضها ضد طواغيت الكفر والإلحاد في الأرض، الذين يحرسون الجاهلية المعاصرة بكل ما يملكون من قوة ووسائل ..!!
ولكن بشيء من التأمل والمتابعة وجدنا أن المسألة مثار جدلٍ واختلاف عند كثير من الأخوان، يأبى بعضهم التسليم بالمسألة بزعمٍ مفاده أن الكفر لا يجوز إظهاره إلا في حالة الإكراه المباشر المعروفة صورته والمبينة في الحالة الأولى من هذا البحث ..!!
لذا وجدنا أنفسنا مضطرين للبيان وبحث المسألة بشيء من التفصيل والتدقيق .. والله تعالى المستعان، نستلهم منه وحده السداد والتوفيق .
فأقول: لا حرج على المسلم إن دعت الضرورة إلى استئصال طاغوت وإمام كبير من أئمة الكفر والظلم أن ينغمس في عسكره وصفوف جنده، ويتظاهر على أنه منهم، على نية استئصال الطاغوت وإراحة الأمة من شره وكفره المغلظ، وذلك للأسباب والأدلة التالية:
أولاً: لدلالة النصوص الشرعية على جواز ذلك، منها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَن لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله " فقام محمد ابن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحبُّ أن أقتله ؟ قال:" نعم "، قال: فأذنْ لي أن أقول شيئاً، قال:" قلْ "، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقةً، وإنه قد عنَّانا، وإني قد أتيتُك أستسلفُك، قال: وأيضاً والله لتملُّنه ، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحبُّ أن ندعَهُ، ننظر إلى أي شيءٍ يصير أمره، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين .. إلى آخر الحديث وفيه: فلما استمكن منه قال: دونَكم، فقتلوه . ثم أتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبروه .
قال ابن حجر في الفتح 7/392: وفي رواية الواقدي:" سألنا الصدقة، ونحن لا نجد ما نأكل .. قال كعب لأبي نائلة: أخبرني ما في نفسك، ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتخلي عنه، قال: سررتني " .
قلت: لا شك أن هذا الكلام الذي دار بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين عدو الله اليهودي كعب بن الأشرف فيه من الكفر الظاهر، مالا يمكن إظهاره أو التلفظ به في الظروف العادية، والذي أباح للصحابة إظهار ما أظهروه هو استئصال طاغوت اشتد أذاه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
ومظاهر الكفر بادية في هذا الحديث من جهات عدة:
منها: قول محمد بن مسلمة:" سألنا الصدقة ونحن لا نجد ما نأكل .." وهذا مفاده رمي النبي صلى الله عليه وسلم بالظلم والجور، وأنه يسأل الناس دفع الصدقات وهم لا يجدون ما يأكلون .. وهذا لا شك أنه كفر .
ومنها: قوله:" وإنه قد عنَّانا "؛ أي أتعبنا بسؤاله لنا الصدقة ونحن لا نجد ما نصدقه .. هذا المفهوم من سياق الكلام، وهذا لا شك انه كفر لتضمنه التذمر وعدم الرضى بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربه ..
ومنها: أن هذا المفهوم من قوله " قد عنَّانا " المتقدم الذكر هو الذي حمل كعباً على أن يقول:" وأيضاً والله لتملنَّه " أي سيأتي اليوم الذي تملون فيه النبي ودعوته بسب هذا الظلم وهو سؤاله لكم الصدقة وأنتم لا تجدون ما تصدقونه ..
ومنها: قوله:" فلا نُحبُّ أن ندعه ننظر إلى أي شيءٍ يصير أمره "، أي أن وقوفنا معه قائم على اعتبار العاقبة، فإن كانت العاقبة له كنا معه وأصابنا الخير بسبب ذلك، وإن كانت العاقبة لغيره تركناه وتخلينا عنه .. فنحن ننظر إلى أي شيءٍ يصير أمره .. وهذا لا شك أنه كفر .
ومنها: قول أبي نائلة ـ وكان مع محمد بن مسلمة في المهمة ـ :" نريد خذلانه والتخلي عنه "، لا شك أنه من الكفر البواح الذي لا يحتمل تأويلاً ولا صرفاً .. ولو قيل هذا الكلام في الظروف الطبيعية لكفر صاحبه .
ومنها: قول عدو الله ورسوله كعب:" لتملنَّه ..وسررتني " هو من الطعن والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم الظاهر .. ومع ذلك لم ينكر عليه الصحابة، وبقوا معه وفي مجلسه إلى أن تمكنوا من تنفيذ مهمتهم فيه ..
والشاهد أن الجلوس في مجالس الكفر والاستهزاء بالدين من غير إنكار ولا إكراه ولا قيام
هو كفر أكبر، ومع ذلك الصحابة فعلوه ليتمكنوا من استئصال الكفر الأكبر المتمثل في الطاغية كعب بن الأشرف لعنه الله .
ومنها: أن استئذان الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ النبيَّ في أن يقولوا فيه كلاماً؛ أي الكلام الذي يفيد الذم والتجريح الذي لا يجوز أن يُقال في الحالات الطبيعية إلا إذا آثر صاحبه الكفر على الإيمان .. وإلا فإن الكلام المباح لا يحتاج إلى استئذان !
وهذا المعنى يوضحه ابن حجر في الفتح حيث يقول: قوله" فأذن لي أن أقول شيئاً، قال قل .." كأن استأذنه أن يفتعل شيئاً يحتال به، ومن ثم بوب عليه المصنف " الكذب في الحرب " وقد ظهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوا أن يشكوا منه ويُعيبوا رأيه ..!
وفي مرسل عكرمة:" وأذَنْ لنا أن نصيب منك فيطمئن لنا، قال: قولوا ما شئتم!" انتهى.
وفي رواية موسى وأبي إسحاق، التي يذكرها ابن كثير في البداية والنهاية بتمامها 4/8، ومما جاء فيها: قال فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق نفسه، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: لمَ تركت الطعام والشراب ؟ فقال يا رسول الله قلت لك قولاً لا أدري هل أفي لك به أم لا . قال: إنما عليك الجهد . قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا أن نقول، قال: فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حلٍّ من ذلك ..! انتهى .
قال الشيباني في السير 1/189:" فأئذن لنا فلنقل، فإنه لا بد لنا منه "؛ أي نخدعه باستعمال المعاريض، وإظهار النيل منك . انتهى .
قلت: فالحديث ـ بمجموع طرقه، وكما فهمه العلماء ـ حجة قوية في المسألة، إن تُمكن من رد وجه من أوجه الاستدلال به، فإنه لا يمكن رد مجموع أوجه الاستدلال به الآنفة الذكر ..والله تعالى أعلم .
دليل آخر: وهي قصة مقتل الطاغية خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي، وكان قد جمع الجموع لغزو النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وتمام الحديث كما أخرجه أحمد وغيره، عن عبد الله بن أُنَيْس قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني فائته فاقتله ـ وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن لسفيان الهذلي يهجوني ويشتمني ويؤذيني ـ قال: قلت يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه قال إذا رأيته وجدت له قشعريرة قال: فخرجت متوشحاً سيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، وحين كان وقت العصر فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة فصليت وأنا أومئ برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال من الرجل ؟ قلت: رجل سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك في ذلك . قال: أجل، أنا في ذلك قال فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني، قال: أفلح الوجه . قلت: قتلته يا رسول الله . قال: صدقت، ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بي بيته فأعطاني عصاً فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس .. آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرون يومئذٍ . قال: فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضُمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعاً "([6]) .
فتأمل قوله:" رجل سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك في ذلك "؛ أي جئتك لأنصرك وأكثر سوادك في قتالك للنبي صلى الله عليه وسلم .. وهذا لا شك أنه لفظ كفري، ولو أنه قيل في الحالات الطبيعية ـ لغير ضرورة استئصال هذا الطاغوت ـ لكان كفراً أكبر ..
ثم تأمل لو تُرك هذا الطاغوت وهدفه، كم كان سيكلف الدعوة الإسلامية وهي في مهدها، وأوائل نشوئها ..؟!
ومن الأدلة كذلك: أمر النبي صلى الله عليه وسلم لنعيم بن مسعود أن يخذل عن المسلمين يوم وقعة الأحزاب .. وكان مما قاله نعيم بن مسعود لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم، وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموه عني ..([7]).
فإن قيل هذه المقولة:" قد عرفتم ودي لكم، وفراقي محمداً .." لا تفيد الكفر، أقول: إن
مجرد الجلوس والإقامة في مجالس الكفر والاستهزاء والطعن، والحرب على الله ورسوله .. من غير إنكار ولا قيام هو كفر، لقوله تعالى:] وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيرِه إنكم إذاً مثلهم [ النساء:140. أي إن أبيتم إلا الجلوس معهم من غير إنكار فأنتم مثلهم في الكفر ..
فكيف والصحابي رضي الله عنه قد ضم إلى جلوسه في مجالس الكفر والحرب على الله ورسوله، مقولته الآنفة الذكر .. لاشك أن هذا من الكفر البواح لا شك فيه .
ولكن الذي برر كل ذلك هو أن نية الصحابي نعيم بن مسعود رضي الله عنه كانت أن يخذل عن المسلمين، ويفرق بين الأحزاب التي تحالفت على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة الإسلامية .. وهذه مهمة جليلة فوائدها عامة، تهون أمامها مثل العبارة الآنفة الذكر عنه رضي الله عنه .
قال الشيباني في السير 1/185: وإذا دخل المسلم دار الحرب بغير أمان، فأخذه المشركون فقال لهم: أنا رجل منكم، أو جئت أريد أن أقاتل معكم المسلمين، فلا بأس بأن يقتل من أحب منهم، ويأخذ من أموالهم ما شاء .. انتهى . ثم استدل بقصتي مقتل الطاغوتين: خالد بن سفيان الهذلي، وكعب بن الأشرف ..
قلت: قوله أنا رجل منكم، أو جئت أريد أن أقاتل معكم المسلمين .. هو كفر، وهو مستساغ ـ عند الشيباني ـ من أجل أن يقتل منهم من أحب، وإذا كان الأمر كذلك فمن باب
أولى أن يكون ذلك مستساغاً وجائزاً من أجل استئصال طاغوت اشتد كفره وطغيانه وأذاه على المسلمين ..!
ثانياً: أن قواعد الشريعة الكلية جاءت بمبدأ دفع الضرر، وبارتكاب أخف الضررين ودفع أعلاهما ضرراً، وهذا يشمل جميع مسائل الدين؛ الأصول والفروع منها، ومن هذه المسائل التي يشملها مسألتنا هذه .
وصورة ذلك عندما يُخير المرء بين كفرين لا بد له من أحدهما، ولا بد له من دفع أحدهما بالآخر، فحينئذٍ الفقه والنقل والعقل كل ذلك يقول لك: أنظر أكثرهما وأغلظهما كفراً فادفعه واستأصل شأفته بالأقل كفراً كما هو في مسألتنا؛ فالطاغوت جاثم على صدر ومقدرات الأمة يمارس جميع صور الكفر والإجرام، والقتل .. وهو بذلك لا شك أنه يمثل الكفر الأكبر المغلظ والمركب، ثم تبين أنه لا يمكنك استئصاله إلا غيلة بارتكاب بعض صور الكفر المجردة الضيقة كما ورد ذلك في قصة اغتيال الطاغوتين كعب بن الأشرف، وسفيان الهذلي .. فتفعل إن شاء الله ولا حرج، هذا إن لم يتحول هذا الفعل في حقك إلى درجة الوجوب .
فإن أخذت الحمية بعض المتسرعين وقالوا: هذا مفاده إباحة بعض صور الكفر .. !
قلت: فإن عدمه يلزمك السكوت والإبقاء والمحافظة على ما هو أغلظ منه كفراً وخطراً على العباد والبلاد ..!!
فانظر أيهما أسلم وأرضى لدينك وآخرتك ..؟!!
فإن قالوا ـ كما ذُكر عن البعض ـ : أن الكفر لا يُباح إلا لضرورة ملزمة، لأن المحظورات لا تُباح إلا بالضرورات، وإزالة الطاغوت حاجة وليست ضرورة ..!!
أقول: الطاغوت الذي عطل العمل بشرع الله عز وجل، وحارب التوحيد وأهله، والذي لم يدع نوعاً من أنواع الكفر والفجور والطعن بالدين إلا أتى بأعلاه وأوفره حظاً، فأهلك بذلك العباد والبلاد، وسامهم سوء العذاب والذل، والفقر .. أقول الطاغوت الذي هذه بعض صفاته تكون إزالته وإراحة الأمة من كفره وشره من قبيل الحاجيات، مثله مثل تحصيل الغسـالات
والثلاجات ..؟!
إذا كانت إزالة هذا الطاغوت وأمثاله هو من الحاجيات، وليس من الضرورات، فما هو الذي يكون ـ عندكم أيها الفقهاء! ـ من الضرورات ..؟!!
إذا كانت إزالة الطواغيت الذين يستشرفون خصائص الإلهية ويُعبدون من دون الله لا ترقى عندكم إلى درجة الضرورة، فإنه لا يوجد عندكم شيء اسمه ضرورة ..!!
علماً أن الدين ـ من لدن نوح عليه الصلاة والسلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ـ يقوم على ركنين عظيمين: أولهما الكفر بالطاغوت وإزالته واستئصاله وبغضه، والركن الثاني تحقيق العبودية المطلقة لله عز وجل ، وهذا معنى لا إله إلا الله الذي لأجلها خلق الله الخلق كله .. وهي غاية عظمى لا تعلوها غاية، ترخص في سبيلها كل الغايات والمقاصد، فضلاً عن الوسائل والسبل .
أيكون أحد ركني الدين والتوحيد ـ عندكم يا فقهاء الإثارة! ـ من الحاجيات لا يرقى إلى درجة الضرورات ..؟!!
ثالثاً: إذا كان ـ كما يقول الصحابي ابن مسعود رضي الله عنه ـ يجوز للمرء أن يقول الكـلام الذي يدرأ عنه سوطاً أو سوطين .. فكيف لا يجوز له أن يقول الكلام الذي يدرأ عنه وعن أمته الذبح والقتل، والذل، والقهر، والكفر المغلظ بكل ضروبه وأنواعه ..؟!!
وإذا كان دفع سوط أو سوطين يُعتبر من الضرورات التي تبيح المحظورات .. فكيف لا يكون دفع القتل والمجازر الجماعية بحق المسلمين وبحق أطفالهم ونسائهم التي يقوم بها الطاغوت من الضرورات التي تُبيح المحظورات ..؟!!
رابعاً: هذا الطريق سلكه الأعلام من مجاهدي الأمة ابتداء من الصحابي محمد بن مسلمة، ونعيم بن مسعود ، وأبي نائلة، وعبد الله بن أُنيس .. مروراً بالبطل صلاح الدين الأيوبي الذي كان وزيراً في الدولة الفاطمية العبيدية الكافرة، إلى أن تمكن من استئصال الكفر المتمثل في شعوذة العبيديين، وتغيير الدولة كلها إلى دولة إسلامية سنية مجاهدة .. انتهاء بالبطل خالد اسلامبولي ورفاقه الذين أراحوا الأمة من خائن الأمة السادات ..!
والقول بخلاف ما قدمنا من لوازمه رمي هؤلاء الأبطال وغيرهم بالكفر والعياذ بالله ..!!
- تنبيهات وضوابط تتعلق في هذه الحالة:
من خلال ما تقدم نستخلص النقاط التالية:
1- لا يجوز إظهار الكفر إلا لضرورة استئصال كفر أكبر وأغلظ .. والمتمثل في الطغاة
المجرمين وكفرهم .. ولا نرى إظهار الكفر ـ بقول أو عمل ـ من أجل إزالة كفرٍ مماثل لـه أو
ما هو دونه ..!!
2- لا يُلجأ إلى هذه الوسيلة إلا إذا انتفت جميع الوسائل التي تمكن من استئصال الطاغوت صاحب الكفر المركب والمغلظ .. أما إن توفرت وسائل وسبل أخرى لا يجوز اللجوء إلى هذه الوسيلة ..!
3- في حال عُمل بهذه الرخصة يجب التحري ما أمكن في عدم التلفظ أو الوقـوع في الكفر .. إلا ما دعت إليه الضرورة من غير زيادة أو توسع ..
4- في حال قُدر على استخدام المعاريض، وكانت تكفي لتنفيذ المهمة .. لا يجوز اللجوء إلى الترخص في إظهار الكفر أو التلفظ به، لقوله تعالى:] فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن :16.
5- ما يجوز في الجهاد لا يجوز في غيره من المواطن، وما يجوز للمجاهد المقاتل لا يجوز لغيره القاعد .. وهذه مسألة بينة واضحة تضافرت عليها أدلة الكتاب والسنة، بحثها مستقلاً يحتاج إلى بحث وربما إلى مصنف جديد ..!
وبعد، إلى هنا يكون ـ بفضل الله ومنِّه وعونه ـ قد انتهى هذا المبحث الهام الوجيز، راجياً من الله تعالى القبول، وأن ينفع به العباد، وبخاصة منهم طلائع الأمة من المجاهدين العاملين الذين يحتاجون إلى كل جزئية من جزئيات الفقه الإسلامي، ليستفيدوا منه وهم في جهادهم ومسعاهم الجاد من أجل استئناف حياة إسلامية راشدة .. إنه تعالى سميع قريب مجيب .
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
14/6/1421 هـ . عبد المنعم مصطفى حليمة
13/9/2000 م . " أبو بصير الطرطوسي "
[1] لا نقصد هنا الحالات التي يُعذر فيها المرء بالجهل، فهذه لها موضع آخر ومباحث أخرى، وإنما أردنا هنا الحالات التي يُعذر بها المرء لو أظهر الكفر مع علمه أن الذي يُظهره هو من الكفر .
[2] أخرجه أحمد، وابن ماجة، والطبراني، صحيح الجامع:1731 .
[3] أخرجه أبن ماجة، والبيهقي، صحيح الترغيب:566 .
[4] بخلاف المنافق: فإنه يضمر الكفر والعداوة لأهل الإيمان في القلب، مع إظهار الإيمان والموالاة لهم باللسان .. وبالتالي لا يجوز حمل حكم ومصطلح النفاق أو المنافق على المؤمن الذي يأخذ بالتقية لمجرد مخالفة ظاهره لباطنه .. فليس كل مخالفة ظاهر للباطن هو من النفاق أو أن صاحبه منافق، فتنبه لذلك.
[5] الكفر منه ما يكون أصغر لا يُخرج من الملة، ومن ما يكون أكبر يُخرج صاحبه من الملة، والكفر الأكبر المخرج من الملة كذلك نوعان: كفر مجرد وهو الذي لا يُضيف إلى كفره الحرب والكيد، والشتم والطعن وغير ذلك، فيكون كفره محصوراً في نفسه من دون أن يمتد أذاه وشره إلى الآخرين . وكفر مغلظ ومركب يمتد أذاه للآخرين؛ وهو الذي يضم إلى كفره كفراً آخر يجعل بعضه فوق بعض كمحاربة الله ورسوله والمؤمنين، وإضافة الطعن والسب، والهجاء، والقتل وغير ذلك من صور الكيد والمكر الذي يزيد كفره كفراً وإثمه إثماً .. فكما أن الإيمان يزداد بالطاعات، كذلك الكفر فإنه يزداد بالطغيان والظلم والكفر ..
وكذلك الردة: توجد ردة مجردة، وردة مغلظة على النحو المتقدم، ولكل واحدٍ منهما المعاملة الخاصة به التي تختلف عن الآخر في الدنيا والآخرة، وإن كان كلاهما يشتركان في صفة الخروج من الملة، والخلود في نار جهنم يوم القيامة .
= هذا هو التقسيم الصحيح، أما تقسيم الردة إلى ردة صغرى وردة كبرى، موهماً أن من لردة ما يكون أصغر لا يُخرج صاحبه من الملة كالكفر .. فهو تقسيم باطل وغير صحيح ولم يقل به أحد من السلف، فتنبه لذلك.
قال ابن تيمية رحمه الله: ويُفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب، وبين الردة المغلظة فيُقتل بلا استتابة .. وقد رأينا سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فرَّقت بين النوعين، فقبل توبة جماعة من المرتدين، ثم أنه أمر بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ولم يتب قبل القدرة عليه، وأمر بقتل العرنيين لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك، وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السبَّ وقتل المسلم، وأمر بقتل ابن سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء .. انتهى.
[6] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6/203 ، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه، وفيه راوٍ لم يُسم وهو ابن عبد الله بن أُنيس، وبقية رجاله ثقاة . وانظر السلسلة الصحيحة:2981 .
[7] انظر البداية والنهاية:4/113 .