بسم الله الرحمن الرحيم
قد طالعتنا وكالات الأنباء عن خبرٍ مفاده أن حركة الطالبان في أفغانستان قد أطلقت سراح المبشرين المعتقلين الثمانية، الذين كانوا قد اعتقلوا بسبب نشاطهم وسعيهم في تنصير المسلمين الأفغان .. وهؤلاء الثمانية: أمريكيان، وأستراليان، وأربعة ألمان ..!
كان بإمكانهم ـ تحت ظروف الغضب بسبب ما حل بهم وبأهاليهم من ظلم وقتل ودمار ـ أن يقتلوهم ويُعلنوا عن ذلك .. أو يُعلنوا أنهم قُتلوا تحت الهدم بسبب القصف الأمريكي والبريطاني الذي يستهدف المدنيين قبل المقاتلين .. وينتهي الأمر!
أو على الأقل كانوا بإمكانهم أن يُطالبوا مقابل إطلاق سراحهم فدية من المال ـ لأنهم في حرب مع دولهم وحكوماتهم ـ يفكون بها شيئاً من الضائقة والحاجة، والفقر، والحصار المفروض عليهم .. ولا يُلامون لو فعلوا ذلك ..!
لماذا لم يفعلوا شيئاً من ذلك ..؟!
فإن قيل: الخوف من ضياع المُلك والزعامة .. فها قد ضاع الملك ولم يُبالوا به إيثاراً لموقف العقيدة، والأخوة، والدين ..!
وإن قيل: خوفاً من القصف الصليبي الأمريكي .. ومن صواريخهم العابرة للقارات .. فإن أمريكا وحلفاءها لم يُوفّروا جهداً، ولم يتركوا سلاحاً ـ بما في ذلك القنابل التي تزن " 15 " ألف رطل ـ إلا وقد جربوه على أرض وشعب أفغانستان ..!
وإن قيل: حتى لا تتم ملاحقتهم ومطاردتهم دولياً .. وحتى لا يُرمون بألقاب الإرهاب والإجرام .. فإنهم ملاحقون ومطاردون قبل وبعد إطلاق سراح الأسرى المذكورين أعلاه .. وهم مصنفون ـ من قِبل أمريكا وحلفائها وعملائها ـ على أنهم إرهابيون مجرمون .. من قبل ومن بعد ..!
وإن قيل: الخوف على المال والولد .. وعلى البنية التحتية للبلاد ..!
فقد ذهب المال، وفُقد الولد .. ودُمِّرت ما تحت البنية التحتية ..!
لم يبق شيئاً ـ من حطام الدنيا ـ يبكونه أو يخافونه على أنفسهم .. حتى نقول أنهم فعلوا
ذلك خوفاً من فوات أو حصول هذا الشيء ..!
إذاً ما الذي حملهم على إطلاق سراح هؤلاء الأسرى .. ومن دون أدنى مقابل أو أي شروط .. أو أن يُقال لها كلمة شكر ؟!
الجواب: هو ما قاله قاضي محكمة الطالبان .. أن هذه الظروف الراهنة لا تُتيح للمتهمين أن يُدافعوا عن أنفسهم بصورة مقبولة .. كما أن هذه الأجواء المشحونة بالغضب، والقتل والقتال .. قد لا تُتيح الفرصة لإجراء محاكمة عادلة .. عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يقضي القاضي وهو غضبان ".
إضافة إلى ذلك خوفهم على الأسرى من أن تصيبهم قنابل بني جلدتهم ودينهم من الأمريكان وغيرهم فيُقتلون .. قبل أن يأخذ القضاء العادل طريقه إلى محاكمتهم وبيان ما لهم وما عليهم ..!
لأجل ذلك جاء قرار الطالبان بإخلاء سبيلهم، وإطلاق سراحهم ..!!
حقاً إن الطالبان أكابر .. يستحقون كل تقدير واحترام وإكبار ..!
ولكن أبى الكبر الأمريكي إلا الكذب على نفسه وعلى الناس .. فقال ناطقهم:" أن إطلاق سراح الرهائن جاء نتيجة العمل العسكري والمتواصل في البلاد .. " كذبوا ..!!
وقال كبيرهم بوش:" يسعدني أن أعرف أنهم في أمان، وأنا مسرور من الطريقة التي نفذ بها عسكريونا هذه العملية "!
ولكي يُعرف كذب أمريكا نقول:لو قتل الطالبان الرهائن ماذا كنتِ يا أمريكا ستفعلينه أكثر مما فعلتيه .. هل بقيت لديكِ حيلة للتدمير والقتل .. وهدم المنازل على الأطفال والنساء .. لم تسلكيها ولم تفعليها ..؟!!
أم أن الطغيان والتجبر الأمريكيين يمنعان الرئيس الأمريكي بوش من إنصاف الآخرين .. والاعتراف بالحقيقة الساطعة ؟!!
آتوني بدولة معاصرة تزعم التحضر والحرية، واحترام القانون .. تفعل ما فعلته طالبان في مثل هذه الأجواء والظروف التي تعيشها الطالبان .. والشعب الأفغاني المسلم برمته ..؟!
لا نريد أن نستطرد بضرب الأمثلة .. ولكن أكتفي بذكر دولتين هما على هرم الدول المتحضرة الراقية كما يزعمون .. أمريكا وبريطانيا ..!
أما أمريكا فقد أعلنت مؤخراً عن قيام محكمة عسكرية خاصة بالمسلمين المتهمين بالإرهاب .. لا يُحاكم فيها غير المسلمين .. وأعلنت على لسان رئيسها بوش بأنه سوف يُلاحق خمسة آلاف شرق أوسطي ممن يعيشون في أمريكا تحت شبهة ملاحقة الإرهاب .. زعموا !!
وحتى لا يُرمى بالعنصرية .. وبالنزعة الصليبية .. فيقع فيما لا يستطيع الفكاك منه .. كما حصل له لما أعلن عن حملته الصليبية .. فبدل القول، وقال: خمسة آلاف شرق أوسطي .. بدلاً من أن يقول خمسة آلاف مسلم ممن ينتمون إلى بلاد الشرق الأوسط .. ظاناً أن ذلك يُخفي عنصريته وصليبيته عن الناس!
هذه هي العدالة الأمريكية المزيفة .. تلاحق .. وتُسائل .. وتعتقل .. وتُحقق مع خمسة آلاف مسلم .. تحت زعم الاشتباه .. لمعرفة من وراء أحداث 11 سبتمبر .. من دون أدنى شبهة أو تهمة؟!!
ولنا أن نسأل: كيف لو حصل لأمريكا ما حصل ولا يزال يحصل في أفغانستان من الدمار الشامل على أيدي أعدائها من الصليبيين .. أتراها تُبقي على أراضيها مسلماً يقول ربي الله .. من دون أن تلاحقه، وتعتقله، وتقتله ..؟!!
وهذه ـ كذلك ـ بريطانيا .. رغم أنها لم يصبها من الشر شيء .. تُعلن بكل وضوح على لسان أعضاء نوابها ورئيس وزرائها .. عن إصدار قانون طوارئ ـ خاص بالأجانب المسلمين ـ يمكنهم من اعتقال من يشتبهون به من المسلمين .. ـ مجرد الاشتباه ـ من دون أية محاكمة .. أو تدخل للقضاء ..!!
وقالوا بكل صراحة: هذا القانون لا يُجرى على المواطنين المحليين من الإنكليز .. وإنما هو
فقط خاص بالمقيمين من الأجانب المسلمين الذين يُشتبهون بعلاقتهم بالإرهاب .. ليسهل اعتقالهم المدة التي يريدونها ويحددونها من دون محاكمة أو أن يكون للقضاء سلطة في التدخل ..؟!!
يُصدرون هذا القانون في الوقت الذي يَدعون فيه إلى محاربة العنصرية القائمة على أساس النزعة الدينية .. والتفرقة الدينية؟!!
ينهون عن خُلق ويأتون أسوأ ما فيه ..؟!!
في بريطانيا ودول الغرب بشكل عام بعض الحسنات عُرفوا بها .. يُذهبونها بهذه القوانين الظالمة المتسرعة الطائشة .. التي تساوي بينهم وبين كثير من الدول الديكتاتورية المتخلفة التي لا تراعي للإنسان أية قيمة أو حرمة ..!
أقول مرة ثانية ـ حتى نعرف قيمة الطالبان، وقيمة تصرفهم الراقي والمتحضر الفريد مع الأسرى النصارى ـ نسأل: كيف لو نزل في بريطانيا قليل مما نزل وحل بأفغانستان من الدمار .. ماذا تُراها ستفعل وقتئذٍ بالمسلمين المقيمين على أراضيها .. وما هي القوانين العادلة والإجراءات الصارمة التي ستفاجئ بها العالم ..؟!
أيهما أرقى وأكثر تحضراً وعدالة .. الطالبان الفقراء أصحاب الثياب الرثّة .. أم الأمريكان والإنكليز الأغنياء أصحاب القنابل النووية .. والثياب الفخمة ..؟!!
قد تكون الكلمة اليوم ـ بحكم ما تملك من نفوذ وقوة ووسائل تضليل ـ لأمريكا .. لكن لمن سيحكم التاريخ غداً .. عندما تتحرر الشعوب من ضغط وإرهاب وهيمنة أمريكا .. لطغيان وجبروت الأمريكان ومن حالفهم .. أم للمسلمين الطالبان ..؟!!
لمن سيحكم التاريخ غداً .. للفساد والدمار والإرهاب الذي أحدثته أمريكا .. أم للعدل، والرحمة، والتسامح التي تحلت به الطالبان .. مع قدرتهم على فعل ضده؟!!
قارن أيها المنصف بين موقف أمريكا من الشيخ الضرير المريض عمر عبد الرحمن الذي قارب عمره السبعين سنة .. والذي حُكم عليه بالمؤبد ـ ظلماً وعدواناً ـ في سجون أمريكا .. وبين موقف الطالبان من الأسرى المبشرين .. وغيرهم من الأوربيين الذين دخلوا أرض أفغانستان ـ في أجواء الحروب والقتال ـ كجواسيس وعملاء .. وروح التسامح التي تعاملت بها معهم؟!
قارن بينهما .. فسوف تدرك من المتحضر .. ومن الأرقى .. والأكثر عدلاً .. والأحسن خلقاً ..!!
قد تنتصر أمريكا اليوم على المدى المنظور عسكرياً ومادياً .. لكن المنتصر على المستوى الأخلاقي .. والمدى البعيد .. هم المسلمون .. هم الطالبان ..!
إن الذين يقتلون ويُقاتلون الطالبان اليوم من أبناء الأفغان المغفلين الذين باعوا أنفسهم لأعداء الأمة والملة ـ وما أكثرهم ـ بثمنٍ بخس .. وكل من خذلهم من أبناء الأمة .. سيبكون غداً على الطالبان .. ويعضون ـ على إساءاتهم وخذلانهم لهم ـ أصابع الندم ولات حين مندم .. وإن غداً لناظره لقريب.
29/8/1422 هـ. عبد المنعم مصطفى حليمة
15/11/2001 م. أبو بصير