recent
آخر المشاركات

عقد الأمان



          س192: شيخنا ـ حفظكم الله ـ تعلمون ما تمر به الأمة من أزمة حالية .. وقد طفق المنافقون يسلكون كل سبيل للإرجاف والتخذيل .. وقد دارت شبهة قوية في المجتمعات الخليجية خاصة حول ما يلي: أن الحكومات العربية الطاغوتية دخلت في عقود ومعاهدات مع أمريكا، لكن أمريكا نقضت العهد بمجرد معاونتها لليهود .. فصارت دولة محاربة .. ثم يقولون: لكن الدولة المحاربة من دخلها بعقد أمان لم يجز له أن يُحدث فيها حدثاً، وعقد الأمان في هذا العصر هو التأشيرة؛ تأشيرة الدخول .. فعلى افتراض أن من قام بذلك هم من المسلمين ـ كما زعموا من دون دليل ـ وعلى القول بأن أمريكا محاربة، فإنه لا يجوز لأولئك المسلمين أن يُحدثوا فيها ما حدث لأنهم دخلوا بعقد أمان، نعم لو دخلوا خفية لكان لهم .. نرجو منكم أن تجلوا هذه الشبهة .. كما نريد أن نستفسر، هل من دخل بعقد أمان دولة كافرة ثم انتهت مدة ذلك العقد لكنه ظل قاعداً متخفياً، وأحدث بعد ذلك حدثاً .. هل يدخل ذلك في الغدر .. وجزاكم الله خيراً ؟؟

          الجواب: الحمد لله رب العالمين. أجيب على ما تقدم في السؤال في النقاط التالية: 
          1- لا اعتبار لأمان الكافر المرتد في الشريعة الإسلامية .. فلو أمّن المرتد كافراً آخر في ديار المسلمين فأمانه غير معتبر ولا ينفذ.
          2- أمريكا ومثيلاتها من دول الكفر هي دول محاربة للأمة وللإسلام والمسلمين .. وهذه العقود التي يُجرونها بينهم وبين عملائهم من الخونة المرتدين المتسلطين على رقاب ومقدرات الشعوب الإسلامية بالقوة .. لا تُلزم الأمة، وهي غير معتبرة، لما تقدم في النقطة الأولى من أن أمان الكافر المرتد لا يُلزم الأمة .. ولا يُلزم من تحت حكمهم من الناس!
          ومما يُذهب قيمة هذه العقود والعهود .. أن دول الكفر ـ وبخاصة منها أمريكا ـ تمارس بكل وقاحة وصراحة سياسات الحرب والإبادة والتقتيل، والتآمر على مجموع الإسلام والمسلمين .. وفي كل مكان .. فأي قيمة لتلك العقود والعهود، وهم يكذبونها بواقع حالهم ولسانهم، كما هو حالهم في فلسطين، والشيشان، وأفغانستان، وكشمير، والعراق، والبوسنة والهرسك .. وما أطول القائمة لو أردنا الإحصاء!
          3- المسلم الذي يدخل أمريكا أو غيرها من دول الكفر كطالب، أو لاجئ، أو سائح زائر، أو تاجر ونحو ذلك .. فهو في عقد أمان بينه وبين الدولة المضيفة له .. لا يجوز له أن يُحدث فيها شيئاً يؤذيهم، أو يعتدي على شيء من حرماتهم .. ولو فعل شيئاً من ذلك فقد غدر ووقع في الإثم ولا بد.
          فإن قيل: أين تكمن صيغة العقد بينه وبين تلك الدولة ..؟
          أقول: تكمن من جهات عدة: من جهة دخوله عن طريق تأشيرة الدخول المتعارف عليها على أنها عقد أمان وتأمين بين الطرفين ..
          ومن جهة التصريح والإقرار والقبول بهذا الأمان والجوار .. والرضى بما يملونه عليه من شروط ـ تحدد طريقة ومدة إقامته، وما يحق له وما لا يحق ـ يلتزم لهم بالوفاء بها ..
          ومن جهة الحقوق التي يُعطونه إياها ويقبلها منهم .. كلاجئ أو زائر أو تاجر .. إذ لو دخل إليهم كمحارب لا يحصل على شيء من تلك الحقوق .. وهم ما أعطوه تلك الحقوق إلا لأنه داخل في أمان وعهد معهم يلزم الطرفين ..!
          ومن جهة عبارات الترحيب .. والمعاملات الاجتماعية المتبادلة بين الطرفين .. فهي أيضاً تزيد العهود توثيقاً وتوكيداً .. فالمسلم لو قال للكافر: مرحباً .. أو صباح الخير .. أو لا عليك .. ونحو ذلك من العبارات ـ وهذا لا بد أنه يحصل ـ فقد أمنه لا يجوز له أن يغدر به ..!
          فإن قيلكيف ينتهي هذا العقد بين الطرفين ..؟ 
          أقول: ينتهي بصورتين، أولهما: أن يخرج المسلم من سلطانهم، وينبذ إليهم عهدهم وأمانهم .. فيتحلل حينئذٍ الطرفان من التزاماتهما نحو بعضهما البعض، ويُصبح كل طرف في حل من الآخر.
          ثانياً: أن تقوم الجهة المؤمِّنة بغدر الطرف المسلم المؤمَّن .. والاعتداء عليه وعلى أمنه وحرماته .. ونقض ما تم لأجله العهد والأمان .. فحينئذٍ يحق للمسلم ـ إن قدر على ذلك ـ أن يُقابل الطرف الآخر بالمثل!
          ولا أرى انتهاء مدة الإقامة إنهاءً لصورة العقد والأمان بين الطرفين، لحصول الأمان من جهات ومعاملات أخرى غير الإقامة كما تقدم.
          ولأن انتهاء مدة الإقامة ـ كما هو متفق عليه بين الطرفين ـ الخروج من سلطانهم ودولتهم .. وليس أن يتحول المرء  ـ من جراء حصول ذلك ـ إلى مقاتل محارب .. بعد أن مكنوه من دخول دولتهم، والعيش في مجتمعاتهم!!
          4- كذلك لو دخل الكافر ـ سواء كان أمريكياً أو غير أمريكي ـ بلاد المسلمين ـ على غير وجه المحارب أو المقاتل أو المحتل لبلاد المسلمين أو المتجسس على حرماتهم ومصالحهم ـ كسائح زائر، أو كعامل، أو طالب، أو طبيب، أو تاجر، أو لاجئ مستجير، ونحو ذلك .. فهو في أمان وعهد مع المسلمين، لا يجوز ترويعه، أو الاعتداء عليه، أو على شيء من حرماته .. ولو حصل شيء من ذلك فهو غدر، ثم غدر، ثم غدر ..!
          فإن قيل: من أين له هذا الأمان .. والذي أمنه الحاكم المرتد .. وأمان الحاكم المرتد غير نافذ .. ولا يلزم الأمة .. كما تقدم ؟!!
          أقول: قد حصل له الأمان من جهات عدة .. غير جهة الحاكم المرتد:
          منها: تأشيرة الدخول ذاتها .. فهي وإن كانت صادرة من جهات مرتدة إلا أن تأشيرات الدخول هذه قد أصبحت عرفاً متعارفاً عليه بين جميع شعوب ودول العالم على أنه عقد للأمان  لازم للطرفين: المانح والممنوح له .. والعقد العرفي شرعاً يجب الوفاء به كالعقد اللفظي.
          ومنها: أن حامل هذه التأشيرة يعتقد أن هذه التأشيرة التي بين يديه تكفي لتأمينه في بلاد المسلمين .. وعلى أساس ذلك تجرأ ودخل .. والأمان يُعطى على ما يظنه ويعتقده المؤمَّن أنه أمان وإن كان في حقيقته ليس أماناً .. فلو قلت ـ مثلاً ـ لكافرٍ تقدم لأقتلك .. فوضع سلاحه وجاءك طائعاً راغباً ظاناً ومعتقداً أنك قلت له:" تقدم فأنت آمن .." فهو آمن لا يجوز لك قتله .. فإما أن تقبل أمانه وتجيره .. وإما أن ترده إلى مأمنه وسلطانه .. وليس لك أن تعتدي عليه قبل ذلك،  وهذا لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم.
          ومنها: أن التاجر والسائح ونحوهما عرفاً غير مقاتلين ولا محاربين .. فهم ـ من هذا الوجه ـ في أمانٍ عرفي .. فإن دخلوا بلاد المسلمين من غير تأشيرة أو أمان من قبل آحادٍ من المسلمين .. فهم في أمانٍ عرفي، لذا نص الإمام أحمد وغيره من أهل العلم أن التاجر الكافر الذي يدخل بلاد المسلمين من غير تأمين أو ترخيص من أحد .. وتظهر عليه القرائن على أنه تاجر .. فإنه لا يجوز الاعتداء عليه؛ لأنه عرفاً التاجر غير محارب، ولم يأت بلاد المسلمين لسوء .. والله تعالى أعلم.
          ومنها: أن هذا الكافر لا يدخل بلاد المسلمين إلا بعد أن يكون قد مر بسلسلة طويلة من العهود والأمانات لا يمكن تعدادها .. فهو ما إن يستقل الطائرة .. وينزل أرض المطار .. إلا ويبدأ المسلمون يعطونه عبارات الترحيب والتأمين .. وما إن يخرج ويمر على الشوارع والمؤسسات، والمحال التجارية، والمطاعم وغيرها إلا ويُستقبل بنفس عبارات الترحيب والتأمين .. وهذا كله أمان بعضه فوق بعض .. يُغلظ الأمان ويوثقه .. لا يجوز أن يُغدر به!
          ونحن نعلم أن أمان المسلم ـ مهما كان وضيعاً ـ للكافر جائز وماضٍ يجب الوفاء به .. فذمة المسلمين ـ على اختلاف مستوياتهم ومراتبهم ـ واحدة، يسعى بها أدناهم، كما في الحديث الصحيح: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرف ولا عدل".
          وقد نقل ابن عبد البر وغيره من أهل العلم على أن جمهور أهل العلم يمضون ويُجيزون أمان العبد المملوك والمرأة المسلمة للكافر، وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم هانئ:" قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت ".
فكيف بمن يؤمنه آلاف المسلمين .. وحيثما يحل ويُقيم ..؟! 
لا شك أنه في أمانٍ مغلظ وهو أولى بأن يُراعى أمانه وعهده .. لا يجوز الاستهانة أو الغدر به .. بحجة أن هذا الزائر الكافر دخل بتأشيرة منحها له الحاكم المرتد .. فالمسألة من هذا الوجه هي أوسع بكثير من حصرها في هذا الجانب وحسب .. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: علام فرقتم بين الغازي أو المحارب المحتل وبين الزائر أو التاجر أو الطبيب ونحو ذلك من حيث قبول الأمان، فرفضتم أمان الأول وقبلتم أمان الآخر، علماً أن كلا الصنفين يمران بنفس السلسلة من الأمانات والعهود، من حيث ترحيب الناس بهم وغير ذلك ..؟!
أقول: الذي حملنا على هذا التفريق أمران، أولهما: أن الأمان يُعطى لمن نشد السلم والسلام، وليس لمن نشد الحرب وانتهاك الحرمات، والاستيلاء على البلاد والعباد .. وحافظ على هذا الوصف قبل وخلال وبعد إعطائه الأمان أو عهد الأمان ..!!
فعقد الأمان من شروط صحته انعقاد الأمن والأمان من الطرفين .. فإذا أخل أحد الطرفين بذلك لم يعد لعهود الأمان التي أبرمت أي وجود أو قيمة ..!
ثم كيف يصح أمان ذلك الكافر المحارب المحتل لبلاد المسلمين، وهو متلبس على مدار الساعة بما ينقض هذا الأمن .. فإعطاء الأمن والأمان لمن كان هذا وصفه .. كمثل القول بالشيء وضده في آنٍ واحد .. وكمن يُعطي الأمان لمن يقوم بذبحه وسلبه وانتهاك حرماته .. فيقول له رغم ما تقوم به من إجرامٍ بحقي فأنت آمن من طرفي فقط .. أما أنت ـ أيها العدو الغازي المحارب ـ فلك كامل الحرية في أن تنتهك حرماتي وتسلب خيرات بلادي كيفما تشاء ووقت تشاء ..!!
فهذا لا يصح عقلاً ولا شرعاً .. ولا أحد ـ عنده مثقال ذرة من عقل ودين ـ يقول بصحة مثل هذه العقود والعهود .. وبلزوم احترامها .. والأمة لا تعرف مثيلاً لهذه العهود والعقود .. إلا في زماننا هذا الذي ارتضى فيه كثير من أبناء الأمة التبعية والعبودية لأمريكا أو غيرها من دول الكفر والاستكبار ..!
ثانياً: نهى الإسلام عن إيواء وحماية وإجارة وتأمين من أحدث حدثاً يستوجب عليه العقاب أو الحد، وعدَّ ذلك من كبائر الذنوب والآثام، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أحدث فيها ـ أي المدينة ـ حدَثاً أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرف ولا عدل".
وهذا حديث ـ وإن كان خاصاً فيمن يأو ي إليه محدثاً في المدينة إلا أنه ـ يفيد ذم مطلق من آوى إليه محدثاً فحماه وأجاره، وحال بينه وبين قصاص الحق والعدل أن يأخذ طريقه إليه. 
وإذا كان هذا حكم من يأوي إليه مسلماً محدثاً ويجيره ويؤمنه .. فكيف بمن يُجير ويؤمِّن كافراً محارباً مستمراً في حربه وكيده وقتاله قبل وخلال وبعد التأمين والحماية .. لا شك أنه أولى بالوعيد واللعن، والطرد من رحمة الله، وهو شريك للكافر في إجرامه واعتداءاته المستمرة، كما قال تعالى:)مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً(.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح مسلم ـ أنه قال:"من آوى ضالةً فهو ضال، ما لم يُعرِّفها".
هذا فيمن يأوي إليه دابة ضالة ويتكتم عليها .. فكيف بمن يأوي إليه كافراً محارباً ومستمراً في حربه وقتاله وتآمره .. ويتكتم عليه .. ويُعينه ويُحيل بينه وبين سيوف الحق من أن تأخذ طريقها إليه .. لا شك أنه أولى بالإجرام والضلال ..!!
والشاهد مما تقدم أن من كان هذا وصفه ـ وهو الاحتلال والغزو والقتال المستمر ـ لا يجوز بأي حال أن يؤمَّن أو يُجار، ومن آواه، وأجاره، وحماه فهو آثم مجرم .. وأمانه غير نافذ، ولا جائز، وهو لا يُلزم أحداً من أبناء الأمة.
ومنه نعلم كذلك فساد قول من يقول أن القواعد العسكرية الأمريكية وغيرها الموجودة في الخليج العربي وغيره .. التي تقوم بدور المحتل الغازي للبلاد والعباد .. أنها آمنة لوجود العهد والأمان بينها وبين المسلمين .. أو بينها وبين الطواغيت الحاكمين ؟!!
لأجل ذلك قلنا في جوابنا أن أمان الكافر السائح أو التاجر أو العامل، أو الطبيب ونحوهم نافذ وماضٍ يجب الوفاء به، بينما أمان الكافر المحارب المستمر في حربه وغزوه وكيده .. لا يجوز أن يُعطى له الأمان أصلاً فضلاً عن أن يكون أمانه معتبراً وملزماً.
هذا هو ديننا .. وهذه هي أخلاقنا .. لا مكان فيها للأهواء والنزوات والعواطف .. فالأمر كله لله .. حتى نبينا صلوات الله وسلامه عليه قد قال له ربه عز وجل:)لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(آل عمران:128.
فنحن لسنا كغيرنا ممن لا وازع لهم ولا خلق ولا ضابط إلا وازع الهوى والشهوات .. وبذلك جُعلت أمتنا أمة الإسلام .. أمة الوسط والشهادة .. خير أمة أخرجت للناس ..!
          هذا إيجاز شديد في الجواب على ما تقدم في سؤالكم، فإن أردتم التفصيل والاستدلال ننصحكم بمراجعة كتابنا "حكم استحلال أموال المشركين لمن دخل في أمانهم وعهدهم من المسلمين"، وهو منشور في موقعنا على الإنترنت .. ولله الحمد. 
google-playkhamsatmostaqltradent