GuidePedia

0

بسم الله الرحمن الرحيم

          الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
          مما ابتليت به الأمة في هذا العصر انحراف كثير من دعاتها عن منهج النبي محمد r في الدعوة إلى الله تعالى.
          فريق من هؤلاء الدعاة المنحرفين تراهم يبدؤون مع الآخرين ممن لا سابقة عهد لهم بالإسلام بالدعوة إلى فروع الدين .. بعيداً عن أصل أصوله .. منشغلين معهم في الجدال حول مسألة تعدد الزوجات .. أو مسائل اللباس والحجاب .. أو ما يتعلق بحقوق المرأة في الإسلام .. وغيرها من المسائل .. التي لا يمكن الاستجابة لها إلا بعد الاستجابة إلى أصل الأصول؛ إلى توحيد الخالق والدخول في عبادته I.

          المرء قبل أن يعرف الله تعالى ويعرف حقه عليه .. قد يسهل عليه الجدال والتعقيب حول أي مسألة فقهية من مسائل الدين .. ويستغرق في ذلك الزمن الطويل .. لماذا فرض الله خمس صلوات في اليوم والليلة وليس أكثر أو أقل .. لماذا الصلاة .. وكذلك الحج .. والصيام .. تؤدى بهذه الكيفية دون سواها .. ولماذا .. ولماذا .. فتكثر أسئلته واعتراضاته .. وفي كثير من الأحيان يصعب إقناعه .. لأنه لا يعرف الله .. ولا يعرف له حقاً .. ولا يرجو له وقاراً!
          بينما لو بُدئ معه بالأصل .. وعرَف الله بأسمائه وصفاته وخصائصه .. وعرف حقه عليه .. سهل اقتناعه والتزامه بأي فرعية أو مسألة من مسائل الدين؛ لأنه يكون قد أدرك ابتداء مقام الألوهية والربوبية لله U التي من مقتضاها الأمر والنهي .. وأن لا يُعقب عليه .. وأن لا يُسأل عما يفعل .. وأدرك في المقابل كذلك قصوره ومقامه كعبد، والذي من مقتضاه الخضوع والقبول والطاعة والاستسلام لكل ما يصدر عن الخالق I .. لأنه يكون قد أدرك أن من مقتضيات أسماء الله الحسنى وصفاته العليا أن لا يصدر عنه إلا الحق المطلق .. والعدل المطلق .. والحكمة المطلقة.
          وفريق آخر من هؤلاء الدعاة .. لا يتورع أن يُطالب المسلمين ـ وبخاصة منهم المقيمين في بلاد الغرب ـ بأن ينخرطوا في أحزاب القوم العلمانية .. ويُشاركوهم نشاطاتهم الحزبية .. ويُقارفوا باطلهم وجاهليتهم .. من قبيل استثمار نفوذ تلك الأحزاب في مجتمعاتها بما يرتد بالنفع على الجالية الإسلامية .. زعموا! 
          فبدلاً من أن يكونوا دعاة إلى الله .. وإلى توحيده .. يتحولون إلى دعاة إلى برامج وأفكار وعقائد وقادة الأحزاب التي انتموا إليها وانخرطوا فيها .. وهؤلاء في كثير من الأحيان يكونون شاهد زور على الإسلام .. ومثلاً سيئاً ومنفراً .. ولو حاولوا أن يدعوا الآخرين إلى شيء من معاني الإسلام وعقيدته .. وقِيمه .. سهل على الآخرين أن يُخرجوا من مواقفهم وسلوكياتهم .. وأقوالهم .. ما يناقض ما يدعون إليه؛ فيكون مثلهم مثل من يأمر بالشيء ويأتي بضده، والله تعالى يقول:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (الصف:2-3.
          وفريق ثالث آخر من هؤلاء الدعاة المنحرفين تراهم منشغلين ومهمومين بقضية حوار الأديان، والذي يعني في ذهن المتحاورين المداهنة .. وتقارب وجهات نظر الحق والباطل في نقاط مشتركة .. ليتم التعايش بينهما .. واعتراف كل منهما بالآخر .. وبشرعية الآخر .. وكأن الحق بحاجة إلى استجداء ذلك الاعتراف من الباطل! 
          فالأرض رغم أنها تعجُّ بالأوثان والآلهة والأرباب المزيفة التي تُعبد من دون الله U .. إلا أن هذه الأرباب والآلهة لا تدخل ضمن جدولة المواضيع التي تستحق النقاش والحوار والبحث .. في نظر أولئك المتحاورين .. فهذا مما لا يعني القوم .. ولا يجوز بحثه .. ولا التحاور حوله!
          وهؤلاء كلهم قد خالفوا منهج النبي r في الدعوة إلى الله U .. والذي كان يتمثل أولاً في دعوة الآخرين إلى عبادة الله تعالى وتوحيده .. والانخلاع من الشرك والأوثان والأنداد .. والبراء من ذلك كله .. فإن دخلوا في ذلك .. وأجابوه إلى ما دعاهم إليه .. شرَعَ ـ بعد ذلك ـ في بيان ما يجب عليهم الالتزام به من فرائض وواجبات وطاعات.
          هذا المنهج النبوي في الدعوة إلى الله U يظهر بوضوح في جملة من النصوص الشرعية، من هذه النصوص قوله تعالى:) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64.
          هذه الآية العظيمة على قلة كلماتها إلا أنها تناولت بشمولية ووضوح تام للمنهج النبوي في الدعوة إلى الله تعالى .. لذا فهي تحتاج منا إلى أن نقف على بعض معانيها ودلالاتها بشيء من التفصيل .. وأن نعيد قراءة كلمات الآية كلمة كلمة .. وعبارة عبارة.
          ) قُلْ (؛ فالأمر الإلهي هنا موجه للنبي r .. ولكل من اتبعه من المؤمنين .. وهو يعني المؤمنين جميعاً .. وبالتالي ما تلى هذا الأمر الإلهي من بيان وتفصيل للمنهج في الدعوة إلى الله .. لهو
دليل على أنه المنهج الأسلم الذي ارتضاه الله U لعباده المؤمنين الموحدين.
          ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ (؛ والخطاب هنا وإن كان موجهاً لأهل الكتاب من اليهود والنصارى .. إلا أنه يدخل فيه كل من لم يؤمن بالله .. وكل ملة غير ملة الإسلام .. وما تلى هذا الخطاب من دعوة يشمل كل من لم يدخل الإسلام من ملل الكفر والشرك في الأرض؛ وهذا يعني أننا كما نتوجه بهذا الخطاب لأهل الكتاب نتوجه به كذلك لغير أهل الكتاب من الأمم الكافرة المشركة التي ارتضت لنفسها أن تتدين بالكفر والشرك .. وأن تعبد غير الله! 
          وقوله تعالى:) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ (؛ فيه تذكير لأهل الكتاب بأصولهم التي انحرفوا عنها والتي تنتهي بهم إلى التوحيد والبراء من الشرك والأنداد الذي أنزله الله تعالى في الكتب السماوية التي خصهم بها .. والتي أوحى الله بها إلى أنبيائهم .. ومن كان كذلك لا يليق به .. أن يُشرك بالله .. وأن يعبد غير الله .. وأن يؤمن بالأوثان والأنداد!
          كما قال تعالى:) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (النحل:36.
          وفيه كذلك نوع ترغيب، ورفق، وتشويق .. لتأليف قلوبهم وسمعهم على الاستماع لنداء الدعوة إلى الله .. وما كان كذلك فهو أمر محمود ومشروع .. لا حرج للدعاة في أن يُمارسوه إن شاء الله .. فهو من الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن التي أمر اللهُ تعالى بها الدعاةَ إليه، كما في قوله تعالى:) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل:125.
          ) تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (؛ لا فضل لأحدنا على الآخر ولا تمايز أمام هذه الكلمة .. البشرية كلها، أبيضها وأسودها، وعربها وعجمها، وشريفها ووضيعها .. يستوون أمام هذه الكلمة .. فهم سواء لا فضل لأحدٍ على الآخر.
          نحن لا ندعوكم إلى أمر لا نلتزمه ولا نتخلق به .. كما أننا لا ندعوكم إلى أمرٍ يكون مطية لنا لأن نستعلي أو نسوَّد عليكم .. أو لنستعمركم به .. كما تفعلون أنتم عندما تريدون أن تصدِّروا شيئاً من مفاهيمكم وثقافاتكم وعاداتكم للآخرين .. كلا .. ليس شيئاً من ذلك .. فنحن ما أردنا من دعوتكم إلى هذه الكلمة سوى أن تحظوا بخيري الدنيا والآخرة ... فهذا تمهيد ضروري ومهم .. لا بد للداعية من أن يمهد به بين يدي دعوته للآخرين .. وهو يدعوهم إلى تلك الكلمة السواء. 
          ما هذه الكلمة التي ندعوكم إليها ..؟
          ) أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ (؛ أي ألا نعبد أحداً أيَّاً كان هذا الأحد .. وأيَّاً كانت صفته وماهيته .. في أي نوع من أنواع العبادة؛ سواء كانت عبادة الركوع والسجود، والنسك، والدعاء .. أم عبادة الطاعة، والمحبة، والانقياد والخضوع .. أم عبادة التحاكم .. إلا .. أداة استثناء تفيد الحصر والقصر .. الله .. المعبود بحق .. والمستحق من العباد أن يصرفوا له I جميع معاني العبادة الظاهرة منها والباطنة.
          هذا الطلب المحصور في هذه الكلمة الطيبة .. هي دعوة الأنبياء والرسل لأقوامهم من قبل؛ قد تكررت على ألسنتهم جميعاً، حيث ما من نبي إلا وقال لقومه:) اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (، كما قال تعالى عن نوح:) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (الأعراف:59. وقال تعالى عن هود:) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (الأعراف:65. وقال تعالى عن صالح:) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (الأعراف:73. وقال تعالى عن شُعيب:) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (الأعراف:85. وقال تعالى:) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (النحل:36. وبالتالي لا بد من أن تتكرر هذه الدعوة مراراً على ألسنة ورثة الأنبياء والرسل من العلماء .. عبر ممر العصور والزمان .. وإلى أن تقوم الساعة .. وهم يدعون الآخرين إلى الله.
          ) وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً (؛ أي ننهاكم وأنفسنا عن الشرك ظاهره وباطنه، كبيره ودقيقه، فلا نتخذ ـ من دون أو مع الله ـ الأنداد والشركاء .. فنصرف لهم مالا يجوز صرفه إلا لله U .. ونصفهم بما لا يجوز أن يوصف به إلا الله U .. لأن الشرك ظلم عظيم .. لا يغفره الله لمن مات عليه، كما قال تعالى:) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (النساء:48.
          وقوله) شَيْئاً (؛ جاء بصيغة النكرة التي تفيد العموم؛ أي مطلق الشرك أياً كان نوعه، وكان حجمه.
          ) وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (؛ تأكيد النهي على معنى من معاني الشرك التي نُهينا عنها؛ لاستفاضة هذا المعنى بين العباد وفي الأمصار .. ولخفائه على كثير من الناس .. فخُص بالذكر للتنبُّه له، والتحذير منه، واجتنابه. 
          والمراد بقوله تعالى: ) وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (؛ أي لا يتخذ بعضنا بعضاً مشرعين، نُحل ونُحرم، نُحسن ونُقبح بغير سلطان من الله تعالى.
          لا يُعبِّد بعضنا البعضَ الآخر لنفسه من خلال التشريع، والتحليل والتحريم لهذا البعض بغير سلطان من الله تعالى.
          فمن زعم خاصية التشريع، والتحليل والتحريم لنفسه ـ من دون أو مع الله ـ فقد زعم الربوبية، وجعل من نفسه نداً لله U، ومن رضي له هذه الخاصية أو أقره عليها، واتبعه فيما يُحلل ويُحرم، ويُشرِّع ـ من دون أو مع الله ـ فقد أقر له بالربوبية .. وجعل منه نداً لله U في أخص خصوصياته I.  
          هذا التفسير لمعنى الربوبية قد أشار إليه النبي r في تفسير قوله تعالى:) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (التوبة:31.
          قال r:" كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه؛ فتلك عبادتهم "[[1]]. 
          وفي رواية عن عدي بن حاتم أنه جاء إلى النبي r ـ وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام ـ فلما سمع النبي يقرأ هذه الآية )  اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (، قال: يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم؟ فقال r:" بلى؛ إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم "[[2]].
          وفي رواية، قال: فقلت له : إنا لسنا نعبدهم؟ قال r:" أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه، قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم ".
          وفي رواية:" حرَّموا عليهم الحلال، وأحلوا الحرام، فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم ".
          وفي الأثر، عن أبي البختري قال: سُئل حذيفة t عن هذه الآية:) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (؛ أكانوا يصلون لهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا يحلون لهم ما حرم الله عليهم فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله لهم فيحرمونه، فصاروا بذلك أرباباً.
          فإن عُلِم ذلك .. نقول: تأملوا واقع الناس في هذا الزمان .. تأملوا جميع الأنظمة الوضعية الأرضية الديكتاتورية والديمقراطية منها سواء .. تأملوا واقع الأحزاب والجماعات العلمانية المنتشرة والمتنفذة في الأمصار .. ثم تأملوا من الذي يحكم .. ومن الذي يُشرِّع .. ومن الذي يحلل ويُحرم .. ويُحسِّن ويُقبح .. ستجدون أن الذي يفعل ذلك كله هو الإنسان .. زاعماً ـ وبكل وقاحة وجرأة ـ أن هذا من حقه وحده لا أحداً سواه! 
          ستجدون كيف أن سياسة تعبيد العبيد للعبيد .. واتخاذ من العبيد أرباباً من دون الله .. تمارس بوقاحة .. وبصورة فاضحة وواسعة النطاق .. لم يعرفها التاريخ من قبل!
          ستجدون عشرات الآلاف .. بل ومئات الآلاف من الأرباب المزيفة .. الذين تعج بهم الأرض .. والذين يستشرفون ويزعمون ـ وبكل وقاحة! ـ خصائص الربوبية والألوهية لأنفسهم من دون الله U!
          لذا فإن هذه الدعوة الخالدة ) وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ( لا بد من أن تتجدد على ألسنة الدعاة إلى الله .. وبخاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه الآلهة والأرباب!
          لا بد للدعاة إلى الله من أن يصدعوا ـ وبكل وضوح وصراحة ورباطة جأش ـ بهذه الدعوة أمام وجوه الطغاة الآثمين .. ويقولوا لأولئك الأرباب الكثيرة: أنتم عبيد .. والعبد لا يجوز له أن يكون رباً .. يُعبِّد العبيدَ لذاته ولشرعه، وهواه!
          ليس من الأمانة الملقاة على عاتق الدعاة أن يغضوا الطرف ـ رهبة أو رغبة ـ عن هؤلاء الأرباب الكثيرة .. منشغلين عنهم وعن فتنتهم للعباد بالمندوبات والمباحات .. ثم بعد ذلك يصنفون أنفسهم ـ زوراً! ـ أنهم من الدعاة إلى الله!
          الجاهليون .. كل الجاهليين .. وما أكثرهم .. قد لا ينازعونك بأن يكون الله I هو الرب والإله في السماء يسيِّر الكون بمشيئته .. ولكنهم ينازعونك ويُخاصمونك أشد الخصام في أن يكون الله .. هو الإله في الأرض .. يُشرِّع لأهل الأرض، ومن ثم يُطاع فيما يُشرِّع!
          لكن لا بد للدعاة إلى الله .. من أن يقولوا لهؤلاء الجاهليين .. وبكل وضوح: أن الله تعالى كما في السماء إله .. هو كذلك في الأرض إله .. وكما أن الله تعالى يُعبَد ويُطاع فيما يأمر في السماء .. كذلك يجب أن يُعبد ويُطاع فيما يأمر في الأرض .. كما قال تعالى:) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (الزخرف:84.
          لا بد من أن نقول .. وبأعلى أصواتنا ..لهؤلاء الجاهليين .. ما قاله نبي الله يوسف u لصاحبيه في السجن:) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (يوسف:39.
          ) فَإِنْ تَوَلَّوْا (؛ أي إن أخذتهم العزة بالإثم .. فأعرضوا ونأوا .. وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله .. وإلا أن يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله .. حينئذٍ ينبغي أن يكون جوابنا لهم واضحاً لا لبس فيه ولا غموض.
          ) فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (؛ قد آمنا بربنا واستسلمنا لحكمه وشرعه، ودينه، نعبده ولا نكفره، ولا نُشرك به شيئاً .. لا نقارفكم شرككم وكفركم .. ولا نشارككم في شيء من جاهليتكم وطقوسكم .. وتجمعاتكم وأحزابكم .. بل نفاصلكم ونتبرأ منكم ونعتزلكم وما تعبدون من الأرباب من دون الله .. ونقول لكم ما أمرنا ربنا I أن نقوله لكم:) إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (الممتحنة:4. ) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (مريم:48. ) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (الزمر:14-15. ) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون:6.
          هذا هو البديل عندنا إن لم يستجيبوا لدعوة التوحيد .. وهذا هو المنهج النبوي الذي يجب أن نتمسك به وأن لا نحيد عنه إلى ما سواه من المناهج.
          هذا المنهج النبوي في الدعوة إلى الله تعالى توضحه نصوص عديدة أخرى إضافة للتي تقدم ذكرها، كما في كتابه r الذي وجهه إلى هِرَقْلَ عظيم الروم، والذي جاء فيه:" بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هِرَقلَ عظيمِ الروم، سلامٌ على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكَ بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يُؤتِكَ اللهُ أجرك مرتين، فإن توليتَ فعليك إثمُ الأريسيين، و:) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( " متفق عليه. كلمات قليلات؛ لكنها تحمل في طياتها معانٍ تُسطر في مجلدات. 
          وعن ابن عباس، أن رسول اللهِ r لما بعث معاذاً على اليمن، قال:" إنك تقدُمُ على قومٍ أهلَ كتابِ، فليكن أوَّلَ ما تدعوهم إليه عبادةُ الله فإذا عرفوا اللهَ، فأخبرهم أن اللهَ قد فرضَ عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاةً من أموالهم وتُردُّ على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقَّ كرائِمَ أموال الناس" متفق عليه. 
          فتأمل كيف أن النبي r وجه معاذاً لهذا التسلسل في دعوة الآخرين إلى الله؛ " فليكن أوَّلَ ما تدعوهم إليه عبادةُ الله "؛ أي توحيده وإفراده بالعبادة I، والانخلاع والبراء من الشرك والأنداد، " فإذا عرفوا اللهَ " بأسمائه وصفاته التي لا تقبل الشرك والأنداد .. وحقه على عباده .. ثم هم أقروا لك بذلك .. بعد ذلك وليس قبله " أخبرهم أن اللهَ قد فرضَ عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم "، فإن هم أقروا، وصدقوا، والتزموا .. بعد ذلك وليس قبله " فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاةً من أموالهم وتُردُّ على فقرائهم ".
          هذا التسلسل في الدعوة إلى الله تكمن أهميته في أن العمل التالي لا يمكن أن يستجيب له المرء إلا بعد أن يستجيب للذي قبله، وأن العمل التالي لا يُقبل إلا إذا أُتي بالعمل الذي قبله، لقوله تعالى:) وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام:88. وقال تعالى:) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الزمر:65.
          كم يلفت نظري أولئك " الدعاة " الذين تراهم ينشغلون مع الآخرين في دعوتهم إلى تقصير الثوب .. أو استخدام السواك .. أو حرمة الدخان .. ونحو ذلك من الفروع .. بينما هؤلاء الآخرين يشركون مع الله آلهة أخرى .. وهم ممن يتخذون بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله .. ومع ذلك لا يسمعون كلمة واحدة حول ذلك من أولئك الدعاة!
          ومن جملة الأدلة كذلك على هذا المنهج النبوي في الدعوة إلى الله .. موقف وسيرة النبي r في المرحلة المكية من مشركي وكفار قريش وغيرهم .. حيث كان r لا يتجاوز أن يُطالبهم أولاً بالتوحيد والانخلاع من الشرك والأوثان والأنداد .. فإن أجابوه إلى ذلك .. أخبرهم بعد ذلك بما يجب عليهم من صلاة وغير ذلك من الواجبات .. وإن لم يُجيبوه إلى ذلك .. لم يتعد مطالبتهم بالتوحيد .. وأن يُجيبوه إلى شهادة التوحيد .. لا إله إلا الله.
          تُعرض على النبي r الدنيا كلها .. مقابل أن يتخلى عن دعوتهم إلى لا إله إلا الله .. ويبدأهم بما شاء من تعاليم غير لا إله إلا الله .. ولكن النبي r يأبى إلا أن يُجيبوه أولاً إلى لا إله إلا الله ـ مهما استغرق زمن الدعوة أو كانت التكاليف ـ والتي تعني البراء والانخلاع من الشرك والأوثان والأنداد .. وألا يتخذ البشر بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله .. والإقرار بأن المعبود المطاع بحق في الوجود هو الله تعالى وحده.
          وفي ذلك عبرة لأولئك الدعاة الذين يجعلون التوحيد من آخر أولوياتهم واهتماماتهم .. والذين يتخلون عن مصلحة التوحيد .. وعن دعوة الآخرين إلى التوحيد .. لأدنى مصلحة دنيوية تُرمى إليهم من قبل الأرباب من طواغيت الحكم الظالمين.
          ومن منهجه r كذلك في الدعوة إلى الله، الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية؛ إذ الخالق لهذا الكون العظيم وما فيه، المتصرف به وفق مشيئته وحكمته وإرادته، المتفضل على العباد والخلق بالنعم العظيمة التي لا تُحصى، ولا يُمكن أن تُكافأ .. هو الإله الحق الذي يجب أن يُتألَّه ويُعبَد، وتُصرَف له وحده جميع أنواع العبادة مما يدخل في معنى ومسمى العبادة، وهو الإله الذي له الأمر فيُطاع تعبُّداً فيما يأمر، لا أحد سواه ممن لا يقدر على أن يخلق شيئاً، ولا أن يجلب ـ لنفسه فضلاً عن غيره ـ نفعاً، ولا أن يدفع ضراً، إلا ما شاء الله.
          فالمعبود بحقٍّ في هذا الوجود هو الله الخالق المصور، المالك المتصرف بما خلق كيفما يشاء، من غير منازعة ولا ممانعة، أما من لا يخلق وهو يُخلَق، ولا يقدر على أن يخلق شيئاً .. فهذا عبد مخلوق ومربوب، لا يجوز له أن يدعي لنفسه خصائص الإلهية، ولا أن يُعبدَ في شيء.
          فالخالق المالك لهذا الكون وما فيه ومن فيه هو الذي له الأمر، وهو الذي يجب أن يُطاع فيما يأمر .. أما المخلوق العاجز ـ وهو كل ما سوى الخالق I ـ الذي لا يقدر على أن يخلق شيئاً، لا يجوز له أن يأمر، ولا أن يُطاع فيما يأمر .. إلا في المعروف وما كان فيه طاعة لله الخالق I .. إذ كيف يأمر من لا يخلقه ولا يملكه أصلاً، وهو عبد مخلوق ومملوك مثله؟! 
          هذا المنهج في الدعوة إلى الله تعالى الذي يرد الأمور إلى حقيقتها، ويضع الأشياء في موضعها الصحيح، ويستنهض العقول من غفوتها وغفلتها .. ويشدها للتأمل والتحرر من قيود العبودية للعبيد .. يظهر بوضوح في آياتٍ عديدة من كتاب الله تعالى، كما في قوله تعالى:) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ . أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ . أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ . أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (النمل:60-64.
وقوله) أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ (؛ أي أمألوه تتألهونه وتعبدونه مع الله، مع علمكم أن المتفرد بهذا الخلق، المتفضل عليكم بهذه النعم العظيمة هو الله تعالى وحده؛ فالمعبود بحق الذي يُفرد بالعبادة هو الخالق المتفرد بالخلق والرزق والهداية، فعلام عدلتم عن عبادة الخالق الرازق، الذي بيده الضر والنفع، إلى عبادة من لا يخلق شيئاً .. ولا يقدر على أن يفعل لكم شيئاً .. أفلا تعقلون؟!
وقال تعالى:) أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (الأعراف:191. أي أيعبدون آلهة مع الله أو من دونه، مع علمهم أن هذه الآلهة لا تقدر على أن تخلق شيئاً، بل هم من جملة من خلق؛ وهم مخلوقون مربوبون مُعبَّدون للخالق الواحد I ...؟!
ونحو ذلك قوله تعالى:) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (النحل:17. لا يستويان مثلاً .. وإذا كانا لا يستويان مثلاً من جهة الربوبية لهذا الخلق .. فلا يجوز كذلك أن يستويان من جهة الألوهية وصرف العبادة لهما؛ أي لا يجوز أن يُعبَد ويُتأله ويُطاع من لا يخلق .. ولا هو قادر على أن يخلق شيئاً .. كما يُعبد ويُتأله ويُطاع من يَخلق؛ الذي خلق كل شيء في هذا الوجود .. وهو قادر على أن يخلق ما يشاء.
وقال تعالى:) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (النحل:52. أي أتعبدون وتخشون غير الله .. والله تعالى له ما في السماوات والأرض .. وله الدين خالصاً .. وهذا الغير ليس له شيء .. أليس لكم عقول تتفكرون بها؟!
وقال تعالى:) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ . لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (الزمر:62-64. أي أفغير الله خالق كل شيء، الذي له مفاتيح وخزائن السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير .. ) تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (؛ أي أعبد هذا الغير الذي لم يخلق شيئاً، ولا يملك شيئاً، ) أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (؛ أي الجاهلون بما يستحقه الله تعالى الخالق من عبادة وتوحيد، وتعظيم وتوقير .. وما تستحقه آلهتكم العاجزة المزيفة ـ التي تدعون إلى عبادتها ـ من كفر وبراء، وازدراء؟!
وقال تعالى:) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام:14. أي قل يا محمد للمشركين بأن الإله الذي أعبده، وأتخذه ولياً ونصيراً، وأسلم وجهي إليه فلا أشرك به شيئاً، هو الله الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي يرزق العباد؛ فيُطعِم ولا يُطعَم .. أما آلهتكم المزيفة المزعومة فهي لا تقدر على شيء من ذلك .. وأنا بريء منكم ومما تُشركون.
وقال تعالى:) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (الأعراف:54. الذي له الأمر هو الذي له الخلق؛ الذي خلق السماوات والأرض، أما من لا يخلق شيئاً ـ وهو يُخلَق ـ فليس له الأمر، ولا أن يُطاع فيما يأمر ويُشرِّع بغير
سلطانٍ من الله.
وقال تعالى:) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ (الأعراف:158. أي فالذي لا إله إلا هو؛ فلا يُعبد بحق سواه، هو الإله الذي يُحيي ويُميت، الذي له ملك السماوات والأرض، فأنا رسول هذا الإله الخالق القدير إليكم جميعاً.
وقال تعالى:) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (الرعد:16. أي قل يا محمد بأن الإله المعبود بحق الذي يجب أن تتخذوه ولياً ونصيراً ومعبوداً، هو رب السماوات والأرض، خالق كل شيء، الواحد القهار الذي يُقهِر ولا يُقهَر .. أما ما تدعون من دونه من أولياء فهم لا يقدرون على أن يخلقوا شيئاً، بل ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم .. وآلهة عاجزة ضعيفة هذا وصفها .. كيف تعبدونها وتتخذونها من دون الله تعالى أولياء؟!
وقال تعالى:) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (النحل:73. أي لا هم يملكون لكم رزقاً من السماوات والأرض، ولا هم يستطيعون على أن يفعلوا لكم شيئاً من ذلك .. ومن كان كذلك كيف تتخذونه إلهاً وتعبدونه من دون الله تعالى خالق السماوات والأرض، الذي بيده الرزق والأمر كله .. الذي يرزقكم ويمن عليكم بالخير والفضل، والنعم التي لا تُحصى ..؟!
وقال تعالى:) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (الكهف:14. وقال تعالى:) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (الأنعام:1. وقال تعالى:) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (يونس:3. وقال تعالى:) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (الزمر:6. وقال تعالى:) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (الزمر:38. وغيرها كثير من الآيات التي تناولت توحيد الربوبية كدليل على توحيد الألوهية، وعلى بطلان عبادة غير الله U .. وهذا منهج لا بد للدعاة من أن يتبنوه وهم يُمارسون مهمة الدعوة إلى الله تعالى، ومهمة أطر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ومن منهجه r في الدعوة إلى الله، الاستدلال بتوحيد الأسماء والصفات على توحيد الألوهية، وبطلان عبادة ما سوى الله تعالى؛ فالرب الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا الدالة على كماله، والتي لا يُشركه فيها أحد من خلقه .. وليس له فيها شبيه ولا مثيل .. هو الرب الذي يجب أن يُعبد ويُتأله ويُطاع .. أما من ليس له الأسماء الحسنى .. وصفاته كلها دالة على ضعفه وعجزه ونقصه .. لا يجوز أن يُعبد ويُتأله ولا أن يُطاع في شيء بغير سلطان من الله.
كما في قوله تعالى:) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (طـه:8. أي هو الله الذي لا معبود ولا مألوه بحق في الوجود إلا هو I الذي له الأسماء الحسنى؛ فهو المعبود المألوه بحق الذي يجب أن يُفرد بالعبادة والتأله لأن له الأسماء الحسنى الدالة على كماله، وكمال صفاته.
وقال تعالى:) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (البقرة:255. فهو I ) لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (؛ أي لا معبود ولا مألوه بحق في الوجود إلا الله .. لأنه I هو ) الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (. فهذه الآية ـ آية الكرسي ـ أعظم آية في كتاب الله تعالى ـ كما ورد في الحديث الصحيح ـ لتضمنها اسم الله الأعظم .. وغيره من الأسماء والصفات .. ولاشتمالها على بيان التوحيد، والدعوة إليه.
وقال تعالى:) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (الحشر:22. أي هو الله المألوه المعبود الذي لا معبود بحق في الوجود إلا هو I .. الذي من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا أنه تعالى:) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (. فالذي له هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا هو الذي يجب أن يُعبد ويُتأله .. ويُفرد بالعبادة.

ونحو ذلك قوله تعالى:) هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (غافر:65. وقوله تعالى:) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (صّ:65. فالذي لا إله إلا هو، الذي يجب أن يُفرد بالعبادة وأن يُخلص له الدين؛ هو الحي الذي لا يموت، الواحد القهار، رب العالمين.
وقال تعالى:) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ . هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الحشر:23-24. أي هو الله الذي لا معبود ولا مألوه بحق في الوجود إلا هو I .. الذي له الأسماء الحسنى .. ولأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا، والتي منها أنه تعالى:) الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ .. الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ .. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( .. إله هذه بعض أسمائه وصفاته .. كيف يليق بالعباد أن ينصرفوا عنه وعن عبادته وتوحيده .. ويُشركوا معه في العبادة والتأله آلهة أخرى .. ضعيفة عاجزة قاصرة .. لا يملكون نفعاً ولا ضراً .. وليس لها من تلك الأسماء والصفات شيء .. ) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( فتعالى الله وتقدس وتنزه عما يُشركون!
وقال تعالى:) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (يوسف:39. أي أأرباب متعددة ضعيفة عاجزة .. لا تملك نفعاً ولا ضراً .. وليس لها من صفات الكمال شيء .. بل ينتابها الضعف والعجز والقصور في جميع صفاتها وخصائصها .. عبادتها وطاعتها خير أم عبادة وطاعة الله تعالى الذي من أسمائه الحسنى وصفاته العليا أنه ) الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (؟!
ونحو ذلك قوله تعالى:) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (المائدة:76. أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين، كيف تعبدون آلهة عاجزة ضعيفة لا تملك لكم جلب نفع ولا دفع ضر .. وتتركون عبادة الله تعالى الذي من أسمائه الحسنى أنه تعالى) السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (؟!         
وقال تعالى:) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (الأعراف:180. أي فاعبدوه بها.
وغيرها كثير من الآيات الدالة على هذا المعنى العظيم .. الذي غفل عنه كثير من الدعاة وهم ينتهجون طريق الدعوة إلى الله.
لا بد للدعاة ـ مهما اشتدت عليهم الغربة ـ من أن ينتهجوا نهج النبي r في الدعوة إلى الله .. فهو أكثر بركة ونفعاً .. وأدعى للاستجابة والقبول.
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية:" وهذه الطريق ـ أي طريق الاستدلال على توحيد الله U بأسمائه وصفاته ـ قليلٌ سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة؛ لأنها أسهل تناولاً وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض "ا- هـ.
فالمرء كلما ازداد علماً ومعرفة بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا كلما ازداد تألهاً وتعبداً، وتوقيراً، وتعظيماً، وحباً لخالقه I، وازداد تعلقاً به .. وشوقاً إليه I .. وكلما شقَّ عليه عصيانه ومخالفة أمره، كما قال تعالى:) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر:28. أي العلماء بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وما تقتضي تلك الأسماء والصفات من تأله وتعبد، وإخلاص، وخشية، وتوحيد من قبل العبد نحو ربه.
كذلك لا يتجرأ المرء على اقتحام المعاصي إلا لنوع غفلة أو جهل بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا .. إذ لو كان يستحضر ـ لحظة فعله للمعصية ـ معاني أسماء الله الحسنى وما تقتضيه من سلوكيات ومواقف عند العبد .. لما تجرأ على العصيان أياً كانت المعصية وكان نوعها، لذا قد جاء في الحديث الصحيح:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن "؛ أي وهو مؤمن مدرك متذكر بأن الله تعالى يراه، ويسمعه، ويعلم عنه سوء معصيته وذنبه، وأنه تعالى قادر عليه، فهذا المعنى يغيب عنه لحظة مغامرته واقتحامه الذنب، فإن أقلع عن الذنب عاد إليه إيمانه ويقينه.
فإن قيل: هذا منهج النبي r في دعوة غير المسلمين .. فكيف كان منهجه r في دعوة المسلمين بعد أن أسلموا وأجابوه للتوحيد؟
          أقول:كان r يربيهم وينشئهم على معاني التوحيد والإخلاص .. ويزيدهم علماً ويقيناً بالتوحيد .. ليتمكنوا فيما بعد من تحمل تبعات الرسالة وأعبائها .. ويكونوا كفأ لها .. والمرحلة المكية كانت كلها شاهداً على ذلك؛ حيث كان جل التركيز الدعوي النبوي في تلك الحقبة على التوحيد والعقيدة ولوازمها ومقتضياتها .. وهذا لم يكن مانعاً من أن يبين r ما يجب على المسلمين من شرائع وفرائض وأحكام، وفي أوقاتها المناسبة!
          كما في الأثر عن جندب بن عبد الله، قال: كنا مع النبي r ونحن فتيانٌ، فتعلمنا الإيمان ـ أي التوحيد ـ قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً "[[3]].
          التوحيد يمثل جهاز المناعة على مستوى الفرد والجماعة والأمة .. لذا لا بد من أن يُعنى ـ على مدار الوقت، وفي جميع مراحل الطلب ـ بالرعاية .. والتنمية والتجديد.
          من دون التوحيد لا يمكن أن تفهم شيئاً مما يدور حولك .. فهماً جيداً وصحيحاً .. ولا أن تفرق بين الحق والباطل .. ولا أن تحدد أين تقف ومع من تقف، وضد من تقف ..!
          لذا قلنا ونقول: التوحيد أولاً .. والتوحيد آخراً!
          هذا هو المنهج وهذا هو الطريق .. ولا بد من الثبات على هذا المنهج وهذا الطريق .. والصبر على الثبات .. وعدم الالتفات إلى الطرق والسبل الباطلة المنحرفة .. وما أكثرها .. مهما كانت إغراءات الانحراف كثيرة .. وبدا للعيان أن تكاليف الثبات على المنهج الحق باهظة، كما قال تعالى:) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام:153.  
نسأل الله تعالى الثبات على التوحيد .. وأن يفقهنا بالتوحيد .. وأن يزيدنا فقهاً وعلماً بالتوحيد .. وأن يجعلنا من العاملين بالتوحيد .. ومن الدعاة إلى التوحيد .. ومن أنصار وأولياء أهل التوحيد .. وأن يميتنا على التوحيد .. وأن يحشرنا يوم القيامة مع أهل التوحيد .. وفي زمرة أهل التوحيد .. إنه تعالى سميع قريب مجيب.

وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

          7/1/1426 هـ.                                  عبد المنعم مصطفى حليمة
          15/2/2005 م.                                      أبو بصير الطرطوسي



[1] السلسلة الصحيحة: 3293.
[2] أخرجه الترمذي وغيره، وقال عنه الشيخ ناصر في غاية المرام/6: حديث حسن.
[3] صحيح سنن ابن ماجه:170.

إرسال تعليق

 
Top