GuidePedia

0

بسم الله الرحمن الرحيم
          الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
          حدثٌ جلل وكبير كإعصار " كاترينا " الذي ضرب بعض المدن الأمريكية فدمرها تدميراً.. وتجاوزت ضحاياه ـ كما دلت آخر الإحصاءات والتقديرات ـ أكثر من عشرين ألف إنسانٍ .. وتجاوزت خسائره وتكاليفه المادية أكثر من مائة مليار دولار .. ولا تزال آثار الإعصار تتراكم وتتضاعف وبصورة تعجز معها الدولة الأمريكية ـ على ما أوتيت من قوة وبأس واستعلاء ـ من احتواء الموقف والسيطرة عليه ..!
          هذا الحدث الجلل .. وما ينطوي عليه من دلالات ومعانٍ .. هو آية من آيات الله تعالى .. لا ينبغي أن نمر عليها مرّ المغفلين الملحدين من غير تأمل ولا اعتبار، ولا تدبر .. وإلا انطبق علينا قوله تعالى:) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (يوسف:105. وقوله تعالى:) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (الأنعام:4. ونعوذ بالله تعالى من أن نكون من هؤلاء الذين يمرون على آيات الله تعالى في خلقه ) وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (، فلا يتدبرونها .. ولا يفقهونها .. ولا يعتبرون منها!
          لذا كان لا بد من تسجيل بعض الوقفات ـ للاعتبار والتأمل والتدبر ـ مع هذا الحدث الجلل العظيم:

          الوقفة الأولى: أن سنة الله تعالى في الدول الطاغية المستكبرة الظالمة التي تستعلي في الأرض بغير الحق .. الدمار والهلاك ولو بعد حين؛ فالله تعالى يُمهل ولا يُهمل .. وإذا أخَذَ أخَذَ أخْذَ عزيز مقتدر .. وإذا انتقم انتقمَ الانتقام الذي يليق بجلاله، وعظمته، وقدرته، وكبريائه عز وجل.
          كما قال تعالى:) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (هود:102. وقال تعالى:) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (الكهف:59. وقال تعالى:) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (القصص:58-59. وقال تعالى:) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (الإسراء:16. وقال تعالى:) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (يونس:13.
          ونحن ممن يشهد بأن أمريكا قد طغت وتجبرت وظلمت .. واستعلت في الأرض بغير حق .. فما من كفر وإلحاد .. ولا فساد وفجور وظلم .. بل ولا طغيان ولا عدوان على الإسلام والمسلمين .. وعلى بلادهم وحرماتهم وثرواتهم .. إلا وهي تتزعمه وترأسه وتقوده .. ولا أدل على ذلك من جرائمها وعدوانها في العراق .. وفي فلسطين .. وفي أفغانستان .. وغيرها من البلدان!
          ومن جرائم هذه الدولة الشاهدة على طغيانها وظلمها وعدوانها كذلك .. ما يفعلونه بالمسلمين في سجون جوانتنامو .. وأبو غريب .. وغيرها من السجون .. وكذلك عدوانهم السافر على كتاب الله تعالى .. حيث قد تجرؤوا عليه بصورة قبيحة ووقحة لم تفعلها قبلهم دولة من دول الكفر والطغيان والإلحاد .. فعاقبهم الله تعالى بإعصار " كاترينا "، وما هو ـ في اعتقادي ـ إلا إنذار .. ومقدمة لقوارع لاحقة قادمة ستحل في هذه الدولة الطاغية الظالمة .. إن لم تتقِ ربها! 
          وأنا كنت ممن حذر الدولة الأمريكية من مغبة الاستمرار في هذا الطغيان والظلم والكفر والعدوان .. وأن هذا الظلم والطغيان عاقبته إلى خراب ودمار .. ولو بعد حين .. فالله تعالى يُمهل ولا يُهمِل .. وأنه تعالى يعلو ولا يُعلى عليه .. وأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون .. وقد سلمت ـ بنفسي ـ رسالة إلى السفير الأمريكي القائم على أعمال السفارة الأمريكية في بريطانيا .. تتكلم حول هذه المعاني وتذكرهم بها .. فقالوا عني هذا رجل إرهابي .. يهدد أمريكا بالدمار والزوال والهلاك .. صدق الله العظيم:) فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (النساء:78. وقال تعالى:) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (الأنعام:39. وقال تعالى:) لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف:179.
          الوقفة الثانية: قد غرَّ الدولة الأمريكية بعض ما في يديها من قوة وعتاد .. فتتصرف على أنها الدولة الأولى في العالم التي لا تُقهر .. وأنها تعلو ولا يُعلى عليها .. وأنها تَغزو ولا تُغزى .. وأنها تأمر ولا تُؤمَر .. وهكذا ينظر إليها كثير من الناس وللأسف .. حتى نسوا أن الله قادر عليها .. وأنه تعالى القاهر لعباده وخلقه على ما يشاء .. فأتاها الله تعالى من حيث لم تحتسب .. فابتلاها بإعصار كاترينا .. وهو إعصار لم يستغرق سوى سويعات فقط .. ليسقطها أرضاً .. وليثبت عجزها وضعفها .. ويُمرغ كبرياءها .. وليحولها إلى دولة تستجدي العطايا والمساعدات لمواجهة الكارثة والموقف ..!
          هذا الإعصار .. إعصار كاترينا .. الذي لم يستغرق سوى سويعات معدودات .. كلف أمريكا ما أنفقته على حروبها في أفغانستان .. والعراق .. خلال السنوات الأربع الماضية!
 فإعصار كاترينا جاء ليقول وبكل وضوح أن أمريكا مهما أوتيت من قوة .. فالله تعالى أقوى وأعلى منها وأعز وأجل .. وأن الله تعالى لا يُحارَب .. وأن الله تعالى كما أهلك الأمم والقرى الظالمة المتكبرة من قبل قادر على أن يُهلك هذه القرية الظالمة المتكبرة والتي اسمها أمريكا، كما قال تعالى:) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (الأنعام:6. وقال تعالى:) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (قّ:36. وقال تعالى:) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ (فصلت:15.
فإعصار كاترينا آية من آيات الله .. وهو رسالة ربانية لتصحح التصورات والنظرات .. والمسارات .. وتزيل الغبش والغشاوة عن أعين الناس .. ولتضع الأشياء في موضعها الصحيح .. ولتعيد العباد إلى رشدهم وصوابهم .. وليعلموا أن لهذا الكون رباً يُعبد لا شريك له.
الوقفة الثالثة: مما استرعى انتباهنا .. وانتباه جميع المراقبين .. هذه العملية الواسعة من السطو والنهب .. والسلب .. بل والاغتصاب .. الذي قام بها الشعب الأمريكي في المناطق المنكوبة .. عندما أمِن غياب الرقابة .. والنظام .. والقانون .. مما جعل الدولة الأمريكية تصرف آلاف الجنود من جيشها إلى العمل من أجل حماية الممتلكات .. واستتباب الأمن والنظام .. بدلاً من العمل على إغاثة المنكوبين والمصابين .. والمعلقين بين الموت والحياة!
والسؤال الهام الذي يطرح نفسه .. أبمثل هذا الشعب .. تريد أمريكا أن تنشر وتصدِّر العدالة والحرية، والديمقراطية، والتحضر بين الشعوب والأمم والدول الأخرى؟!
أبمثل هؤلاء الناس .. الذين ما إن تغيب عنهم رقابة الكاميرات والقانون إلا ويتصرفون كالوحوش الكاسرة .. تريد أمريكا أن تغزو بلاد الآخرين .. لتنشر فيها قيم العدل والمحبة والخير .. كما يزعمون؟!
ففاقد الشيء لا يُمكن أن يُعطيه للآخرين .. لذا كان ينبغي على الحكومة الأمريكية أن تعمل أولاً على تربية شعبها على معاني وقيم الخير والعدل، والرقي، والتحضر ـ وأنَّى لها ذلك ـ قبل أن تغزو بهم العالم فيعملوا على نشر الخراب والدمار والفساد .. وقيم النهب والسلب .. والاغتصاب .. كما هو واقع وحاصل؛ فالإناء ينضح ما فيه!
الوقفة الرابعة: فإن قيل: هل ما تقدم ذكره يعني الفرح والشماتة بما نزل بالدولة الأمريكية وما أصاب الناس هناك في المناطق المنكوبة؟!
أقول: هذه مسألة الجواب عنها يستدعي نوع تفصيل وتوضيح، وذلك من أوجه:
منها: أن الفعل كقدرٍ صادر عن الخالق عز وجل ) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر:49. نرضاه ولا نسخطه .. سواء علمنا الحكمة منه أم لم نعلم ..فالله تعالى لا يصدر عنه إلا العدل والحكمة والرحمة؛ فعفوه ـ وما أكثر ما يعفو ـ رحمة .. وانتقامه وعذابه عدل مطلق .. وحكمة مطلقة .. سواء عُلِم ذلك أم لم يُعلم.
ومنها: أن البلاء عندما ينزل بالطغاة الظالمين .. وبالدول الطاغية المستكبرة .. فهو ينزل كانتقام وعذاب ونوع عقاب .. فهو من هذا الوجه لا شك أنه يُفرح المؤمنين .. ويُفرح المُستضعفين المظلومين في الأرض .. كيف لا؛ وهذا الانتقام الذي ينزل بالطغاة الظالمين .. ودولهم .. ما هو إلا ثمرة من ثمار دعاء وصلوات المستضعفين المؤمنين .. يتضمن نوع انتصاف لمظالمهم .. وما أصابهم من بغي وعدوان وظلم من قبل أولئك الطغاة الآثمين!
ومنها: في مثل هذا البلاء الكوني .. قد يتضرر ويُقتل بعض المستضعفين من النساء والأطفال .. والشيوخ العجَّز .. وغيرهم ممن أهملوا من قبل حكومتهم ودولتهم بسبب فقرهم ولون بشرتهم .. بل قد يُصاب بعض المؤمنين الصالحين .. وهؤلاء يُبعثون على نياتهم .. لا يجوز أن يمتد الفرح والشماتة بما نزل بالطغاة الظالمين .. ليشمل هذا الفريق من الناس .. فهذا يتنافى مع قيم وأخلاق ومروءة المسلم .. بل هذا الفريق من الناس ينبغي مساعدتهم وإغاثتهم بحسب الاستطاعة والمقدرة .. وبهذا نفتي وننصح به الناس .. وهذا لا يعني مطلقاً أن تُمنَح الحكومة الأمريكية مئات الملايين من الدولارات ـ كما فعل بعض طواغيت العرب! ـ لتصب في خزانتها وما ترصده وتدخره لحروبها ـ المعلنة والخفية ـ ضد الإسلام والمسلمين .. وغيرهم من الشعوب المستضعفة في الأرض!

5/8/1426 هـ.                                                                 عبد المنعم مصطفى حليمة
8/9/2005 م.                                                                     أبو بصير الطرطوسي

إرسال تعليق

 
Top