بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال: شيخنا الفاضل .. أرجو أن ترد على المدعو " صلاح أبو عرفة " الذي يبث شبهاته من المسجد الأقصى .. حيث يطعن بالثوار .. ويُدافع عن القذافي، وبشار، وكل ذلك بكم هائلٍ من الآيات والأحاديث ... والرجل قد انتشر صيته في الفضائيات، وأصبح العوام يستدلون بكلامه في سوريا ..؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. فقد استمعت لمقولة المدعو " صلاح أبو عرفة "، حول الطاغية بشار الأسد، والهالك القذافي .. وكلامه في الثورات التي تشهدها المنطقة ضد طواغيت الحكم والكفر والظلم .. كما هو منشور بصوته في رابطَي " اليوتوب "، المثبتين مع السؤال الوارد أعلاه، وغيرهما .. وعليه فإني أقول: الرجل في حديثه قد ظلم، وخلط حقاً بباطل، وجيّر الحق لخدمة الباطل .. وحمّل النصوص الشرعية من المعاني السقيمة ما لا تحتمل .. وأنزلها على غير واقعها .. وذلك عن سابق قصد وعمد وعلم منه .. وبيان ذلك، أوجزه في النقاط التالية:
1- من أراد أن يُفتي أو يخوض في مسألة من المسائل .. وبخاصة إن كانت هذه المسألة لها علاقة بأصول الدين، والدماء، والحرمات .. عليه أن يلم إلماماً جيداً بأمرين: فقه واقع المسألة، ثم فقه الأدلة الشرعية التي تُطابق هذا الواقع .. والرجل فاقد للأمرين معاً .. فهو من جهة أثبت جهلاً مدقعاً بواقع الطغاة وأنظمتهم .. وواقع الثورات .. فرجل تراه يختزل الثورة السورية بكل آلامها وجراحاتها وتضحياتها وإنجازاتها .. بمظاهرة لأطفال في المرحلة الابتدائية لا يتعدون ثلاثين نفراً كما زعم .. لهو دليل على أنه يجهل الواقع أو يتجاهله، ويتعامى عنه لهوى في نفسه .. نصرة منه لطاغية الشام .. وهو الراجح .. ثم في المقابل انطلق إلى سرد أدلة شرعية كثيرة لا علاقة لها بواقع المسألة .. مثال ذلك تفسيره لظهور الدجال في صورة قناة الجزيرة .. كما جاء في أول كلامه .. فتناول الجزيرة بالطعن وأنزل عليها حديث الدجال .. وأعرض عن العربية .. وظهر في قناة " BBC " وما نقم من الجزيرة سوى أنها تغطي بعض أخبار الثورات والثوار .. والشعوب المستضعفة المعتدى على حقوقها وحرماتها .. وفيم لا يخدم أولياء أمره من طغاة الحكم والظلم .. وهذا المعنى سيتضح لكم أكثر من خلال بيان النقاط التي تلي هذه النقطة بإذن الله.
خلاصة القول: أن الرجل يخوض في المسائل الكبار تحريما وتجريما .. وتحسيناً وتقبيحاً .. وهو لا يملك شروط الافتاء .. وفاقد الشيء كجاهله، لا يمكن أن يُعطيه.
2- انطلق الرجل إلى الآيات التي تلزم بالصبر .. وبطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وهذا حق لا مرية فيه .. لكنه أساء لهذا الحق لما جيره لخدمة طغاة الكفر والإجرام .. بوجوب طاعتهم .. والصبر عليهم وعلى شرهم .. وكفرهم .. وفسادهم .. وظلمهم!
3- في الوقت الذي كان رقيقاً ورفيقاً في حديثه عن طاغيتين من أشد طغاة الأرض كفراً وظلماً؛ القذافي، وبشار الأسد .. فلم يذكرهما بكلمة سوء .. كان شديداً على الشعوب المستضعفة المسلمة الثائرة على هذين الطاغيتين .. متهكماً بها، ساخراً منها .. مخوناً لها ..!
فهو رحيم رفيق على طواغيت الكفر والشرك والظلم .. شديد غليظ على المؤمنين المسلمين من الشعوب المستضعفة .. فهو مع الطواغيت الكفر والظلم مرجئ جهمي .. يتوسع لهم ولكفرهم وباطلهم وظلمهم في التأويل ما أمكنه لذلك سبيلاً .. ويحسن بهم الظن .. إلى درجة التكلف والكذب .. بينما على المسلمين من الشعوب المستضعفة الثائرة فهو خارجي جلد .. يخونهم .. ويسيء بهم الظن .. ويرميهم بالعمالة وكل مشين .. فسلم منه أطغى طغاة الأرض .. ولم يسلم منه المسلمون المستضعفون الثائرون على الظلم دون حقوقهم وحرماتهم وأعراضهم .. وهذه صفة من صفات الخوارج الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم:" يقتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان "، وهؤلاء بكلماتهم يقتلون أهل الإسلام .. وتسلم منهم الأوثان والأصنام من طواغيت الحكم والكفر!
فالرجل واضح أنه ينتمي إلى المدرسة الإرجائية الجهمية المعاصرة، التي عُرف أتباعها بأنهم مرجئة رحماء مع الطواغيت .. خوارج شداد .. على المسلمين والموحدين والمجاهدين .. الذين يرون مقارعة الطواغيت والخروج عليهم .. ومن عرف ذلك يعرف السبب .. وينتفي عنه العجَب!
4- أكثر الرجل من الحديث عن الكذب .. والتحذير من الكذب والكذابين .. وأننا في الزمان الذي يفشو فيه الكذب .. وأن المرء عليه أن يتبين بنفسه مما يُشاع ويُقال عن الطغاة الظالمين، وبخاصة منهما القذافي وبشار .. وأطنب وتوسع في الاستدلال على ما قال .. فاستبشرنا خيراً بما قال .. وأنه سيتبين بنفسه .. ويعرف الحقيقة بنفسه .. لكنه فاجأنا بتبينه ـ بئس التبين تبينه ـ فهو فيم يخص القذافي يرد شهادة الشعب الليبي كله .. علماؤهم وعامتهم .. وجميع الناس معهم .. ويصدق رواية الطاغية الكذاب، مسيلمة عصره .. وفيم يخص سوريا .. يكذب العين والسمع .. ويكذب الشعب السوري المسلم الجريح .. والعالم كله معه .. ويصدق رواية مفتي حلب في الطاغية بشار الأسد ـ ولا أدري إن كان يعني من كلامه عن مفتي حلب صنيعة النظام حسون ـ هكذا يكون التبين عند الرجل .. وهذا هو الصدق الذي يُطالبنا به .. الذي ليس بعده إلا الكذب والضلال!
كيف يحكم على طاغية استمر حكمه ـ مع أبيه الهالك ـ قرابة خمسين عاماً ـ بالكفر والحديد والنار والظلم ـ من مجرد سؤال موظف وبوق من أبواق الطاغوت .. أهكذا يكون التبين والتثبت .. وهكذا يكون العلم والإلمام بواقع المسألة .. خمسون سنة من حكم الطاغية .. نتبين عنها ونتعرف عليها من خلال مجرد سؤال لبوق من أبواق الطاغية ..؟!
خمسون سنة عجاف من الكفر، والظلم، والفساد، والاستعباد للعبيد .. يختزلها " أبو عرفة "، ويستجلي حقيقتها بمجرد سؤال بوقٍ من أبواق الطاغوت .. أهكذا يكون التثبت والتحري عن الصدق .. الذي تطالبنا ـ والناسَ ـ به يا " أبو عرفة "؟!
وبالتالي لما قلنا من قبل أن الرجل يهرف بما لا يعرف .. فنحن صادقون في ذلك!
ولما جاء للجواب عن حكم بشار الأسد .. أمسك عن تكفيره .. وكذب على دين الله لما استدل على الطاغية وكفره وإجرامه الذي لا يماثله إجرام .. بمقولة ابن عباس رضي الله عنه .. التي أطلقها على حكام زمانه من بني أمية، فقال:" فليس بالكفر الذي تذهبون إليه، إنما كفر دون كفر "، فحمل مقولته الحقة .. على من هو أكفر وأطغى وأظلم من فرعون ليصرف عنه الكفر .. حاشا ابن عباس رضي الله عنه أن يريد ما يريده مشايخ مرجئة العصر .. عكاكيز الطغاة .. هؤلاء!
وكذب مرة ثانية لما استدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ليصرف الكفر عن طاغوت الشام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" لتُنقضنَّ عُرَى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها، فأولهنَّ نقضاً الحُكم، وآخرهنّ الصلاة ". فاستدل الرجل بالحديث على أن نقض عروة الحكم .. كدليل على أن من لم يحكم بما أنزل الله ـ حتى بالصفة التي عليها الطاغية بشار الأسد ـ لا يفقد مطلق عرى الدين الأخرى .. أي يبقى مسلماً .. وأخذ يُطالب بالالتزام بحديث النبي صلى الله عليه وسلم .. مع علمه أنه يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم .. ويُحمل كلامه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ ما لا يحتمل.
قوله صلى الله عليه وسلم:" أولهنَّ نقضاً الحكم "؛ المراد منه صفة الحكم من الشوري إلى الملكي الوراثي .. كما حصل في عهد معاوية رضي الله عنه وابنه يزيد .. وليس المراد منه نقض وفقدان مطلق الحكم بما أنزل الله تعالى .. مع تبديل شرع الله بشرائع الكفر والطغيان .. ومحاربة شرعه .. ومن يُطالب بتحكيم شرعه .. كما هو وصف طاغية الشام ونظامه الطائفي الذي اجتمعت فيه جميع خصال الكفر ونواقض الإيمان .. وبالتالي لا يجوز أن يُقال أن الحديث يعنيه ويعني أمثاله من الطغاة المحاربين لله ولرسوله والمؤمنين .. كما فعل هذا الضال المرجئ المحرف لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ... مما يساعدنا على هذا الفهم والاستدلال قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر .. يُفسر المراد من الحديث الوارد أعلاه، قال صلى الله عليه وسلم:" أول من يغير سنتي رجل من بني أمية ".
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة 4/330: لعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة، وجعله وراثة ا- هـ. فهذا الحديث يفسر الحديث الذي قبله.
5- تحميله للشعوب المسلمة جميع تبعات الخروج على الطغاة الظالمين .. ورميهم بالعمالة والخيانة .. بينما في المقابل يبرئ ساحة الطغاة من أي تبعية ومسؤولية عمَّا يجري .. وهذا إما لظلمه أو لجهله بالواقع .. أو لكلاهما معاً .. وكلاهما صفتا عيب فيمن يريد أن يستشرف الحديث عن الشأن العام للمسلمين .. عن الشعوب .. وحركاتهم .. وثوراتهم!
ونحن نقول لهذا الجاهل الظالم، ولمن هم على مذهبه من مرجئة العصر: أيما مضاعفات تحصل جراء خروج الشعوب المستضعفة والمقهورة على الطغاة وأنظمتهم الفاسدة .. المسؤول عنها الوحيد .. هم الطواغيت .. لا غير .. فالطاغوت عندما يضع شعبه بين خيارين لا ثالث لهما: إما أنا بشرّي وكفري وظلمي وفسادي وإجرامي .. وإما أن أحرق البلد وبيوتها على من فيها .. حينئذٍ يكون هو السبب في أي فساد أو خراب يصيب البلاد .. وهو وراء أي تدخل أجنبي بشؤون البلاد والعباد .. والملام الوحيد حينئذٍ هو لا غير .. ومن كان كذلك .. يجب العمل على الخلاص منه ومن نظامه الفاسد .. مهما كان الثمن .. بهذا دل النقل والعقل!
6- قال تعالى:[ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ]النساء:107. فنهى الله تعالى أن نجادل عن العصاة .. الذين يختانون أنفسهم بالمعاصي .. وهذه الآية نزلت لمجرد الجدال عن سارق .. فكيف بهذا الرجل ـ ومن هم على شاكلته ـ يحلو لهم أن يُجادلوا عن طغاة قد اجتمعت فيهم جميع خصال الكفر والظلم، ونواقض الإيمان ...؟!
وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مَن أَعانَ ظالماً، بباطلٍ ليُدحِضَ بباطلِه حقَّاً، فقد بَرِئ من ذِمَّةِ الله U وذِمَّةِ رسولِه ".
وقال صلى الله عليه وسلم:" ألا إنَّها ستكون بعدي أُمراء يظلمون ويَكذبون، فمن صدَّقَهُم بكذبهم، ومالأهم، على ظُلمِهم، فليس مني، ولا أنا منه، ومن لم يُصدِّقهم بكذبِهِم، ولم يُمالئهم على ظُلمِهم، فهو مني وأنا منه ". وهذا الرجل المدعو " صلاح أبو عرفة " قد صدَّق رواية الطغاة الظالمين في طريقة تعاملهم مع الشعوب .. وصدَّق أبواقهم .. وكذّب المسلمين!
أقول على وجه التحذير والاشفاق: الطاغية بشار الأسد كفره مغلظ .. وفساده قد طمَّ وعَمَّ .. ونجاسته نجاسة مغلظة ومركّبة .. تنجس وتحرق كل من يقترب منها .. مهما عظمت لفته ولحيته .. أو اتسع صيته .. أو كان تاريخه مجيداً ... وبالتالي فمن كان يحترم نفسه .. ودينه .. وعقله .. وسيرته .. وتاريخه .. وعِرضه .. فلا يقتربنّ منه .. ولا يُجادل عنه .. ولو بشطر كلمة .. ومن أبى إلا أن يفعل .. ثم خاض فيه الخائضون .. ووضع له البغض في الأرض وعلى ألسنة العباد .. فلا يلومنَّ إلا نفسه!
7- نعترف أن المدعو " أبو عرفة " يملك لساناً سليطاً يُطاوعه على المعنى والغرض الذي يهوى ويريد .. يسحر به البسطاء من الناس .. ولو أردنا أن نبحث للرجل على ما يعنيه وينطبق عليه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، نجد قوله صلى الله عليه وسلم:" إن أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافقٍ عليم اللسان ". وهذا واحد منهم .. كفانا الله وإياكم شرهم .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
19/12/1432 هـ. 15/11/2011 م.