س339: أنا رجل مسلم عملت لسنوات مضت في مهنة المحاماة، فلما منَّ الله سبحانه وتعالى علي بمعرفة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومعرفة التوحيد وعقيدة أهل السنة، ساورني الشك حول مهنة المحاماة التي أعمل بها؛ لأن هذه المهنة تلزمني بالتحاكم إلى قوانين مخالفة في أغلبها لشريعة رب العالمين جل وعلا، ولكن صعب علي فراق مهنتي بسبب ظروف العيش القاسية وما تقتضيه، وأنا أستنصح فضيلتكم فيما ينبغي علي عمله بعد أن أطلعكم على المعطيات التالية:
1ـ إن القوانين الوضعية المعمول بها في المحاكم بهذه البلاد، ليست كلها مخالفة للشرع: فإن كثيراً من أحكام الأحوال الشخصية وأحكام المعاملات التجارية والعقارية موافقة للكتاب والسنة أو على الأقل موافقة للمشهور من مذهب الإمام مالك.
2ـ إن كثيراً من القوانين المتعلق بتطبيق المسطرات الإدارية ليس فيها تعارض صريح مع ما جاء في الشرع الحنيف.
3ـ إن كثيراً من الحالات التي تعرض للمسلمين هنا لا يمكن لهم أن يستوفوا حقهم بوجه شرعي، ولا يستوفونه إلا بالالتجاء إلى المحاكم القانونية، مثل تعويضات السير، ودفع اعتداءات الغير.
4ـ إن عمل المحاماة يجعلني أحياناً أنفع إخواني المسلمين إما في الدفاع عنهم، أو في مساندتهم لتحصيل حقهم القانوني في الدعوة، وبخاصة الجمعيات التي تعمل وفق الكتاب والسنة، ومنهج السلف.
فهل يسوغ لي الاستمرار في هذه المهنة، إن أنا حرصت على العمل لتحصيل المصالح السالفة مع البعد عن كل الحالات المشتبهة ؟
وهل يجوز لي الالتجاء إلى القوانين المخالفة للشريعة كلما تعذر علي تحصيل حق موكلي بطريق شرعي ... أفتوني مأجورين، وجزاكم الله خيراً ؟؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. العدول عن حكم الله تعالى إلى حكم الطاغوت كفر بواح لا خلاف عليه .. والذي يؤثر حكم الطاغوت على حكم الله تعالى ويقدمه عليه يكفر بلا خلاف .. والكفر بحكم الطاغوت وشرعه ظاهراً وباطناً ركن من أركان التوحيد ..!
فإذا علمنا ذلك .. يأتي السؤال الهام: كيف يتم تحصيل الحقوق في البلاد التي لا تحكم بما أنزل الله وما أكثرها .. فهل الشرع يلزم ملايين المسلمين في تلك البلاد بأن يتنازلوا عن حقوقهم التي قد يرقى كثير منها إلى حكم الضرورات .. أم أنه يلزمهم بتحصيل حقوقهم .. والذود عن أنفسهم وحرماتهم .. وعدم السكوت عن مظالمهم ..؟!
هذا سؤال قد أجبنا عليه في أكثر من موضع .. ونفيد هنا كجواب على أسئلتك .. وعلى وضعك كمحامٍ .. فأقول يجوز أن تمارس عملك وفق الضوابط التالية:
1ـ أن تبذل قصارى جهدك في أن تنصف المظلوم من الظالم وفق حكم الشرع .. من دون اللجوء إلى تلك المحاكم .. وتبذل في سبيل ذلك جميع الوسائل المشروعة .. فإن تيسر ذلك لا يجوز اللجوء إلى تلك المحاكم بأي حال من الأحوال!
2ـ أن لا تنصر ظالماً على مظلوم .. وأن لا تتبن القضايا التي فيها مضاهاة لشرع الله تعالى.
3- كثير من قضايا الخصومات الشخصية تتعلق بشقين: شق يتعلق بحق الله تعالى، وشق يتعلق بحق عبد الله، مثال ذلك: السرقة .. فحق الله من السارق أن تُقطع يده، وحق العبد منه أن يُرد إليه ماله، فإن تعطل حق الله تعالى للعجز عن إحيائه وتحصيله .. وتيسر تحصيل حق العبد .. وجب تحصيل حق العبد وإن لم نقدر على تحصيل حق الله تعالى .. لأن الميسور لا يسقط بالمعسور .. ولأن تعطيل حق واحدٍ أولى وأقل ضرراً من تعطيل حقين ..!
ودورك في مثل هذه القضايا يجب أن ينحصر في كيفية تحصيل حقوق العباد؛ أي لا يجوز لك بأن تُطالب بإنزال العقوبات الغير شرعية بحق الجاني ..!
4ـ لا حرج في أن تدافع عن المسلمين وقضاياهم العامة .. وعن المعتقلين منهم .. وعن جمعياتهم ومؤسساتهم في ساحات الظالمين .. وأمام الطواغيت .. وبما لا يُضاهي أو يُضاد شرع الله تعالى .. فأرجو أن يكون ذلك من قبيل كلمة حق تقال عند سلطان جائر ..!
5ـ يجب إضمار العداوة والكره والبغض .. لتلك المحاكم التي لا تحكم بما أنزل الله .. والإظهار من ذلك بحسب الاستطاعة ..!
بهذه القيود والضوابط يجوز أن تمارس عملك .. والله تعالى أعلم.
فإن قيل أين الدليل على ما تقدم ..؟
أقول: حلف الفضول أو المطيبين الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه خيراً لقيامه على معنى شرعي ومقبول؛ وهو إنصاف المظلوم من الظالم رغم أن القائمين عليه كانوا من كبار مشركي قريش .. وكانوا بمثابة المحكمة التي تُرفع إليها الشكاوى والمظالم ..!
وكذلك تحصيل النبي صلى الله عليه وسلم لحق الإراشي من أبي جهل فرعون وطاغوت هذه الأمة؛ وكان أبو جهل قد ابتاع إبلاً من الإراشي فماطله بأثمانها .. فقال الإراشي: يا معشر قريش من رجل يؤديني ـ أي يساعدني على استرداد حقي ـ على أبي الحكم بن هشام فإني رجل غريب، ابن سبيل، وقد غلبني على حقي ..؟!
فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي جهل وضرب عليه بابه، فقال: من هذا، قال: محمد، فاخرج إلي، فخرج إليه .. فقال: أعطِ هذا الرجل حقه، فقال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له ..!
فهذا النوع من تحصيل الحقوق .. ودفع الظلم .. وإن أدى ذلك إلى الوقوف أمام الطواغيت الظالمين .. لا يجوز أن يُدرج تحت عنوان " التحاكم إلى الطاغوت " كما يفعل ذلك بعض الجهلة ..!
وكذلك تحاكم الصحابة للنجاشي ـ الكافر يومئذٍ ـ في خلافهم مع كفار قريش الذين كانوا يُطالبون النجاشي بردهم إلى مكة .. إلى حيث الفتنة والتعذيب .. وقد ناب عن الصحابة في الدفاع والتكلم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ..!
ومن الأدلة كذلك التي تعيننا على القول بالجواز وفق الضوابط والقيود الآنفة الذكر .. العمل بأدلة قاعدة: لا ضرر ولا ضرار .. والضرر يُزال .. والظلم يُزال .. والميسور لا يسقط بالمعسور .. والضرورات تبيح المحظورات .. ودفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر .. فالعمل بمقتضى أدلة هذه القواعد، وغيرها من الأدلة يُفضي إلى النتيجة التي ذكرناها في جوابنا على سؤالكم .. والله تعالى أعلم.
نفيد بذلك مع التنبيه إلى ضرورة مراقبة النفس .. وعدم التوسع في الرخص .. إذ العمل في هذا الميدان محفوف بالمزالق والمخاطر .. والخطأ فيه قد يكون قاتلاً .. والله تعالى أعلم.