س130: لقد ادعى جهمية عصرنا في الجزائر الإجماع والاتفاق المطلق على العذر بالجهل، وأنها مسألة قطعية لا تقبل الخلاف، وكعادتهم نسبوا هذا القطع إلى ابن تيمية، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب، وأهملوا ولم يراعوا ما كتبه أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أئمة الدعوة النجدية عن هذه القضية، فهل فعلاً هؤلاء العلماء يعذرون بالجهل أم لا ؟!
وبخاصة أنهم لا يفصلون في إطلاق العذر، ولا في قيام الحجة، فهل يُشترط قيام الحجة على المشرك في عبادة الله، وما ضابطها وما صفتها، وما صفة من يقيمها ..؟
مع العلم أنهم يوردون قولاً لشيخ الإسلام ابن تيمية مفاده: أنه يعذر بالجهل مطلقاً نظراً لعدم فشو العلم، ولغلبة الجهل، وأن هذه القاعدة من أعظم ما بينه شيخ الإسلام، وأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب تبنى هذا القول، ولم يكفِّر الذي يطوف حول قبر البدوي، ولم يكفر ابن عربي الحلولي، في حين نجد علماء نجد يوجهون هذه النقولات بأنها قيلت مصلحة للدعوة، فما هو التوجيه الصحيح لهذا الكلام ..؟!
الجواب: الحمد لله رب العالمين . بالنسبة للعذر بالجهل أقول: إن كان هذا الجهل عن عجز لا يمكن دفعه؛ كحديث عهد بالكفر، أو الذي يسكن في منطقة نائية لا العلم يصله، ولا هو يستطيع أن يصل العلم، أو لاندراس علوم الشريعة في البلدة التي يعيش فيها، ونحو ذلك فإن الجهل يعذر صاحبه، ويمنع عنه لحوق الوعيد .. ولا يجوز أن يُكفَّرـ لو وقع بالكفر بسبب ذلك ـ إلا بعد قيام الحجة الشرعية عليه؛ بإيصال المعلومة الشرعية الصحيحة التي تدفع عنه ما قد جهل به.
والعذر بالجهل بهذا المعنى المتقدم هو موطن اتفاق جميع أهل العلم بحسب ما أعلم، الذين منهم شيخ الإسلام، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب .. وأحفاده رحمهم الله أجمعين.
أما إن كان الجهل بفرائض الدين وشرائعه المعلومة من الدين بالضرورة ـ التي أعظمها التوحيد ـ ناتجاً عن تقصير يمكن دفعه، لكن صاحبه لا يفعل زهداً بالعلم وأهله، وانشغالاً بالدنيا وزينتها، وغير ذلك من الأسباب الساقطة .. فإن الجهل لا يعذر صاحبه، ولا يمنع عنه لحوق الوعيد وحكم الكفر لو وقع في الكفر .. وهذا لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم.
فإن كثيراً من المشركين وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز .. بأنهم لا يعلمون .. ولا يفقهون .. ولا يعقلون .. وبأنهم جاهلون .. ومع ذلك فهم مشركون بأعيانهم ومعذبون يوم القيامة؛ لأن جهلهم ناتج عن إعراض عن العلم وعن تعلمه .. وليس عن عجز لا يمكن دفعه.
والذين أخطأوا في مسألة العذر بالجهل صنفان:
صنف قالوا بالعذر بالجهل على الاطلاق من دون تفصيل مستدلين بأقوال بعض أهل العلم التي تفيد العذر بالجهل المعجز الذي لا يمكن دفعه إلا بعد إقامة الحجة الشرعية عليه .. فحملوا كلامهم على القادر والعاجز، وجعلوهما سواء !!
وفريق آخر لا يرى العذر بالجهل مطلقاً مستدلاً على قوله بالآيات التي تفيد أن المشركين لا يعلمون .. ولا يفقهون .. وأنهم جاهلون .. ومع ذلك فهم معذبون، متجاهلاً بذلك الآيات والأحاديث الأخرى التي تستثني من يقع بالجهل عن عجز لا يمكن دفعه ..!
وكلاهما خطأ، والصواب الذي نعتقده، ونص عليه أهل العلم: هو التفصيل المتقدم الذكر.
أما القول: بأن كلام الشيخ عن العذر بالجهل هو من قبيل مراعاة مصلحة الدعوة .. وليس لكون النصوص تدل على ذلك .. هو كلام غير صحيح لا يصح عن الشيخ، ولا يليق به .. وحبذا لو ذُكرت لنا المصادر التي ذَكر فيها أحفاده ذلك عن الشيخ ..!
أما السؤال عن صفة الحجة .. وصفة قيامها على الجاهل المخالف ..؟
أقول: المراد من الحجة هنا هي المعلومة الشرعية ـ المستمدة من الكتاب والسنة الصحيحة ـ التي تنفي عن المخالف عنصر الجهل فيما قد خالف فيه .. فلو وقع المرء في استحلال الربا مثلاً لا تقوم عليه الحجة لو بلغته النصوص التي تفيد حرمة الخمر، أو الزنى .. فلا تقوم عليه الحجة إلا بعد بلوغه النصوص التي تفيد حرمة الربا .. وهذا مثال ضربناه لكم لتوضيح الصورة، والقياس عليه.
أما صفة من يقوم بهذه الحجة؛ أي بنقل هذه المعلومة الشرعية للجاهل المخالف .. تكمن في كل وسيلة تقدر على حمل هذه المعلومة الشرعية إليه؛ فقد يحملها ويقيمها عليه شخص عالم بهذه المعلومة الشرعية ـ ولا يُشترط فيه أن يكون عالماً بمجموع العلوم الشرعية كما يدعي البعض! ـ وقد يكون كتاباً، أو مجلة، أو مذياعاً، أو شريطاً مسجلاً يتضمن محاضرة أو درساً لأحد من أهل العلم تناول في درسه أو محاضرته ذكر المعلومة الشرعية التي تدفع عن المخالف الجهل فيما قد خالف فيه .. والله تعالى أعلم.