س129: لقد تأصل عند جهمية عصرنا أن تكفير المعين لا يجوز القول به على الإطلاق إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع، سواء في أصول الدين أو في فروعه، ناسبين هذا التأصيل إلى أئمة الدعوة السلفية [ ابن تيمية، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب ] فما مدى صحة هذا التأصيل وهذه النسبة .. مع العلم أننا لم نتمكن من الوقوف على ما كتبته في كتابيك: العذر بالجهل، وقواعد في التكفير ..؟!
الجواب: الحمد لله رب العالمين. هذا المعين إما أنه غير مسلم، وإما أنه مسلم؛ فإن كان غير مسلم يُكفر بعينه واسمه ـ ولا يجوز أن يُشهد له بغير ذلك أو يتوقف فيه ـ إلا أنه لا يُشهد له بالنار إلا بعد بلوغه نذارة الرسل؛ ونذارة الرسل تبلغه ببلوغه المعلومة التي تفيد بأن محمداً رسول الله للعالمين، أرسله الله تعالى بشهادة التوحيد.
أما إن كان مسلماً ثم أحدث كفراً بقول، أو فعل، أو اعتقاد .. يُنظر إليه إن كان من ذوي الأعذار التي تقيل العسرات ـ وهي الموانع ـ التي جامعها العجز الذي لا يمكن دفعه .. بحيث يقع في المخالفة ـ ولو كانت كفراً ـ لعجزٍ لا يمكن له دفعه .. فمثل هذا لا يجوز أن يُحكم عليه بالكفر بعينه إلا بعد قيام الحجة التي تدفع عنه العجز فيما قد خالف فيه، وهو ما يُسمى بالشروط .. ولا فرق في ذلك بين الأصول والفروع!
أما إن كان قد وقع في الكفر عن غير عجز لا يمكن له دفعه؛ أي أنه وقع في الكفر من غير عذر معتبر، وهو قادر على أن يدفعه لكن لا يفعل لسبب من أسباب الدنيا ومشاغلها .. فمثل هذا ـ لو وقع في الكفر البواح ـ يُكفَّر بعينه ولا بد لانتفاء موانع التكفير عنه ..!
فهذه المقولة " تكفير المعين لا يكون إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع" هي حق، ولكن كثيراً من الأحيان توضع في غير موضعها، ويريدون بها باطلاً، ويحملونها على طواغيت وأئمة في الكفر هم أعلم من إبليس ..!
كما أن هذه المقولة المجملة .. قد حملوها من سقيم أفكارهم وإرجائهم ما يخرجها عن دلالاتها الشرعية التي قصدها أهل العلم في كلامهم وأبحاثهم !
أما قضية التفريق بين الأصول والفروع، فقد تقدمت الإشارة أنه لا يوجد فرق بينهما، ولا يُعرف عن أحد من السلف من فرق بينهما من حيث العذر .. إن كانت هذه المخالفة وقعت عن عجز لا يمكن دفعه.
والذي فرق بينهما من أهل العلم يُحمل كلامه على أنه لا عذر في مخالفة الأصول لاستفاضة العلم في الأمصار التي يعيشون فيها أو يقصدونها من كلامهم .. وأن العلم متيسر للجميع لمن أراده وقصده، لذا من يقع في الكفر أو الشرك لا يُعذر، لا لأنه وقع في الكفر أو الشرك، بل لأنه وقع فيه عن غير عجز .. وهو قادر على أن يدفعه وما فعل .. فما الذي منعه ..؟!
لذلك عذروا ـ في هذا الموضع ـ في الفروع لاحتمال حصول العجز عن الإلمام في جميع فروع الدين، ولم يعذروا بالأصول، والأمور المعلومة من الدين بالضرورة لانتفاء إمكانية وجود العاجز ـ بحسب علمهم وغلبة الظن لديهم ـ عن إدراك هذه الأصول المعلومة من الدين بالضرورة لمن قصد وأراد أن يدركها أو يعرفها .. فالعلم متيسر .. وطلبه سهل .. والجهل به ناتج عن تقصير متعمد، وليس عن عجز لا يمكن دفعه!
وهذا يعني أنه إذا توفرت ظروف ودواعي العجز المانع عن إدراك مراد الشارع ولو كان ذلك في الأصول .. فإنهم يعذرون بذلك، ولا بد لهم من العذر بذلك، لقوله تعالى:) لا يكلف الله نفساً إلا وسعها (. ولقوله تعالى:) فاتقوا الله ما استطعتم (.
قال الشافعي رحمه الله: فإن الله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يُعذبه على ما لم يستطعها- هـ.
قلت: لأن العجز يرفع التكليف باتفاق، سواء كان هذا التكليف من الأصول أم من الفروع .. لا فرق.
قال ابن تيمية في كتابه القيم رفع الملام ص114: إن العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق، فقصر فيه، لم يكن معذوراً ا- هـ.
وقال في الفتاوى 20/61: فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل ا- هـ.
ما تقدم هو خلاصة مذاهب الفقهاء المعتبرين فيما سألتم عنه، الذين منهم شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب .. ولولا خشية الإطالة، وكثرة الأشغال لأتينا على ذكر أقوالهم قولاً قولاً، وربما بسطنا شيئاً من ذلك في أبحاثنا الأخرى ذا ت العلاقة بالموضوع، والحمد لله رب العالمين.