لم
يُعرَف عن النبي صلى الله عليه وسلم ــ حاشاه! ــ أنه عند موارد الخلاف مع أحدٍ من
أصحابه، أو عند الحاجة، أو الانتصاف لحق من حقوقه، قد استغل مقام النبوة لأغراضٍ شخصيّة،
بل كان يأذن أن يُقاد منه، كما يأذن أن يساوي نفسه مع غيره أمام قانون الحق، والعدل
.. ليكون في ذلك أسوة حسنةً لمن بعده، مهما علا قدْرَه.
كما
في الحديث الذي أخرجه ابن إسحاق في السيرة، وغيره: أن رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم عدَّل صفوف أصحابه يوم بدرٍ، وفي يده قِدْحٌ ــ وهو السهم الذي يُرمَى به عن القوس
ــ يعدل به القومَ، فمر بسواد بن غَزِيَّة وهو مُستنتِلٌ من الصَّف ــ أي ظاهر ومتقدم
على الصف ــ، فطعَن في بطنِه بالقِدح، وقال: "استوِ يا سواد"، فقال: يا رسولَ
الله أوجعتني، وقد بعثَك اللهُ بالحق والعدلِ، فأقدني!
لم
يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله، وأنا فوق أن يُقاد مني ــ حاشاه!
ــ بل كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه الشريف لينتصف سواد لحقه، وليعلّم
أمته من بعده أن لا أحد فوق أن يُقاد منه، ولا أحد فوق المساءلة والمحاسبة، وفوق قانون
الحق والعدل! وقال:" اسْتَقِدْ "، فاعتنقه سواد، وقبَّل بطنه! فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:"ما حملكَ على هذا يا سواد؟"، قال: يا رسولَ الله
حضرَ ما ترى، فأردتُ أن يكون آخر العهد بك: أن يمس جِلدي جِلدك! فدعا له رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم بخير.
وأخرج
النسائي بسنده عن عمارة بن ثابت الأنصاري، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
ابتاع فرسًا من أعرابيٍّ، واستتبعَه ليقبض ثمنَ فرَسه، فأسرع النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ، وأبطأَ الأعرابيُّ، وطفِق الرجالُ يتعرضون للأعرابي، فيسومونه بالفرسِ، وهم
لا يشعرون أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ابتاعه، حتى زاد بعضُهم في السَّومِ
على ما ابتاعه به منه، فنادى الأعرابيُّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال:
إن كنتُ مبتاعًا هذا الفرسَ وإلا بعتُه؟!
فقام النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حين سمع نداءَه،
فقال: "أليس قد ابتعتُه منك؟!". قال: لا واللهِ، ما بعتُكَه!! فقال النبيُّ:"
قد ابتعتُه منك ". فطفِق الناسُ يلوذون بالنبيِّ وبالأعرابيِّ، وهما يتراجعان
وطفِق الأعرابي يقول: هلمَّ شاهدًا يشهد أني قد بعتُكَه ...؟!
هنا الشاهد؛ وهو قول الأعرابي للنبي صلى الله عليه
وسلم: "هلمَّ شاهدًا يشهد أني قد بعتُكَه ..؟!"، والنبي صلى الله عليه وسلم
لم يغضب، ولم يستخدم صلاحياته كنبي في الإنكار على الأعرابي سؤاله هذا بأن يأتيه بشاهد
يشهد له بأنه قد ابتاع الفرس منه .. وهو النبي الصادق المصدوق الأمين، الذي يبلغ عن
ربه التنزيل صلوات ربي وسلامه عليه .. ليعلّم أمته من بعده، أن المرء مهما كان شريفاً،
ورفيعاً، وكبيراً .. وأياً كان منصبه .. فهو ليس فوق المساءلة والمحاسبة .. وليس فوق
العدالة والقانون، ولو سُئل وحوسِب في الحق ليس له أن يغضب أو يعترض.
قال خزيمةُ بنُ ثابتٍ: أنا أشهد أنك قد بعتَه. قال:
فأقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم على خزيمةَ فقال: "بمَ تشهدُ؟!" ــ وخزيمة
لم يكن قد شهد البيع ــ قال: بتصديقِك يا رسولَ اللهِ، قال: فجعل رسولُ الله شهادةَ
خزيمةَ شهادةَ رجلينِ.
قال الشافعي، في رواية الربيع: وروي من حديث عمر
رضي الله عنه أنه قال: "رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يعطي القَوَدَ من
نفسه، وأبا بكرٍ يعطي القَوَدَ من نفسه، وأنا أعطي القَوَدَ من نفسي". فمن سواهم
ــ مهما علا كعبه وشأنه ــ أولى بأن يُقاد منه، ويُسأل ويُحاسَب.
وعن عبد الله بن عباس، قال: أنَّ زوجَ بَرِيَرةَ
عبدٌ أسودُ يقالُ لهُ مُغيثٌ، كأنِّي أنظرُ إليهِ يطوفُ خلفَهَا يبْكي ودُموعُهُ تسيلُ
على لحيتِهِ ــ وكانت قد فارقته ــ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لعباسٍ:
"يا عباسُ، ألا تعجَبْ منْ حبِّ مُغيثٍ بَرِيرةَ، ومن بغضِ بريرةَ مغيثًا؟!".
فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لها: لَو رَاجَعْتِهِ. وفي رواية عند النسائي:
فإنَّهُ أبو ولدِكِ ؟".
قالتْ:
يا رسولَ اللهِ تَأْمُرُني؟ [ فإن كان طلبك أمراً، فأمر الأنبياء لا يُرَد؛ مكانه السمع
والطاعة ].
قالَ
صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا أنَا أَشْفَعُ".
قالت
بريرة: لا حاجةَ لي فِيهِ! البخاري.
لم
يعاتبها النبي صلى الله عليه وسلم لكونها قد ردت شفاعته ووساطته .. كما لم يستغل نبوته
ــ حاشاه ــ في الضغط عليها لكي تقبل شفاعته، ليعلّم أمته من بعده، أن هذا أمر لا يصح
فيه الإكراه، ولا الإحراج!
ولمّا
أراد أسامةُ بنُ زيدٍ أن يستغل مكانته الرفيعة عند النبي صلى الله عليه وسلم في الخطأ،
وأن يتشفّع للمرأة المخزومية التي سرقت .. غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتلوّن وجهه،
وقال:" أتشفعُ في حدٍّ من حدودِ اللهِ ؟!"، فقال له أسامةُ: استغفِرْ لي
يا رسولَ اللهِ! فلما كان العشيُّ قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فاختطب،
فأثنى على اللهِ بما هو أهلُه، ثم قال:" أما بعد. فإنما أهلك الذين من قبلكم،
أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وإني
والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " مسلم. لا أحد فوق قانون
السماء، ولا أحد له الحق في أن يعطّل قانون السماء، أو يُحيل بينه، وبين الناس.
ولمّا
استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عاملًا على جباية الزكاة، فاستغل العاملُ وظيفته استغلالاً
خاطئاً؛ فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من عملِه، فقال: يا رسولَ اللهِ،
هذا لكم وهذا أُهديَ لي! فقال له:" أفلا قعدتَ في بيتِ أبيكَ وأمكَ، فنظرتَ أيُهدى
لك أم لا؟!". ثم قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عشيةً بعد الصلاةِ،
فتشهَّد وأثنى على اللهِ بما هو أهلُه، ثم قال:" أما بعد، فما بالُ العاملِ نستعملُهُ،
فيأتينا فيقول: هذا من عملِكم، وهذا أُهديَ لي، أفلا قعدَ في بيتِ أبيهِ وأمهِ فنظر
هل يُهدى لهُ أم لا، فو الذي نفسُ محمدٍ بيدهِ، لا يغلُّ أحدُكم منها شيئًا إلا جاء
به يومَ القيامةِ يحملهُ على عُنقهِ، إن كان بعيراً جاء به لهُ رغاءٌ، وإن كانتْ بقرةً
جاء بها لها خُوارٌ، وإن كانت شاةً جاء بها تَيْعرُ ــ أي لها صوت شديد ــ فقد بلغتُ
" البخاري.
وفيما تقدم عظة وعبرة لكل أمير وشريف أو مسؤول ــ
مهما علا قدره ــ تنازعه نفسه على أن يجعلها فوق المساءلة والمحاسبة، وفوق أن يُقاد
منها .. أو أن تحمله نفسه على استغلال منصبه ومكانته لأغراضه الشخصية، أو لتمرير باطل
وظلم، أو تعطيل حق وعدل!