س83: ما حكم الهجرة من دار كفر يكثر فيه سب الدين و .. إلى دار كفرٍ لا يوجد فيها هذا الأمر إلا نادراً ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين . اعلم أن الهجرة شُرعت من أجل تحقيق سلامة العبادة والدين ـ بمفهوم العبادة الشامل والعام لجميع ما يحبه الله تعالى من الأعمال الظاهرة والباطنة، والشاملة لجميع المساحة الزمنية لحياة الإنسان ـ فحيثما تتحقق سلامة العبادة والدين على الوجه الأكمل والأفضل تتعين الهجرة إلى ذلك المكان إن توفرت القدرة على ذلك.
لماذا..؟! لأن الله تعالى خلقنا لعبادته وحده سبحانه وتعالى والكفر بكل معبود مألوه سواه، فالغاية من وجودنا ووجود الخلق، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب وغير ذلك مما من الله به على العباد .. عبادته وتوحيده سبحانه وتعالى كما قال تعالى:] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ ، وقال تعالى:] وقل لعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون [ ؛ فالله تعالى وسع الأرض للعباد لكي يتمكنوا من عبادته سبحانه وتعالى، فإن ضُيق عليهم في مكانٍ، وجدوا مكاناً آخر أفضل للعبادة، وفيه من السعة ما ليس في المكان الأول .. فهذا تقديم وتمهيد لا بد من فهمه أولاً .
والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ـ وفق الضابط الآنف الذكر؛ وهو سلامة العبادة والدين ـ أحياناً يكون واجباً، وأحياناً يكون مندوباً، وأحياناً يكون مكروهاً ومحرماً؛ وذلك عندما يكون وجود المسلم في دار الكفر مصلحته ترجح على مصلحة هجرته، وتتحقق منه مصالح دينية مالا يمكن أن تتحقق لو هاجر منها، والمسألة تختلف من شخص لآخر، بحسب قوته وضعفه .. وهذا إيجاز شديد تفصيله يطول، وليس هنا موضعه المناسب .
أما الهجرة من دار كفر كفره مغلظ ومركب إلى دار كفر آخر أقل منه كفراً فهو وارد ومشروع ـ وأحياناً يكون واجباً ـ كما هاجر الصحابة من مكة ـ دار الكفر المركب والمغلظ يومئذٍ ـ إلى الحبشة دار كفرٍ آخر أقل كفراً وحرباً على الإسلام والمسلمين مقارنة مع كفر قريش وطواغيتها ..!
أما الهجرة من دار كفرٍ يُشتم فيه الدين إلى دار كفرٍ آخر لا يُشتم فيه الدين كما في الأول ـ وكما جاء في السؤال ـ ينبغي النظر في دار الكفر الذي لا يُشتم فيه الدين هل توجد فيه خصال كفر أخرى من جهات أخرى ترجح على خصلة كفر شتم الدين الموجودة في الدار الأول .. لأن تقدير المصالح والمفاسد عند الهجرة من دار إلى دار لا يكون من خلال النظر إلى خصلة واحدة من خصال الكفر؛ بل لا بد من النظر إلى مجموع خصال الكفر الموجودة في كلا الدارين ومن ثم إجراء عملية الترجيح والموازنة .
أما إن قيل: أن الدارين يستويان في جميع مظاهر الكفر، إلا أن إحداهما تزيد على الأخرى بخصلة شتم الدين والرب والعياذ بالله تعالى .. في مثل هذه الحالة لا شك أن الهجرة تتعين من الدار الذي يُشتم فيه .. إلى الدار الآخر الذي تنعدم فيه هذه الظاهرة؛ حيث كان من السلف من يهاجر من القرية أو البلدة التي يُشتم فيها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إلى البلدة التي لا توجد فيها هذه الظاهرة الخبيثة، وإذا كان هذا حصل بسبب شتم الصحابة فمن باب أولى أن يحصل بسبب شتم الله والدين أعاذنا الله من الكفر والخذلان .
بقي أمر أخير لا بد من الإشارة إليه، فأقول: ليس من الفقه أن يُقال لشعبٍ من الشعوب بكامله يجب عليكم أن تهاجروا جميعاً من هذا المكان إلى هذا المكان، وربما إلى أي مكان لا على التحديد والتعيين .. كما درجت على ذلك بعض الفتاوى المعاصرة !!
فمسألة الهجرة مرتبطة بالقدرة والاستطاعة، وبالجهاد وظروفه، وبتقدير المصالح والمفاسد، وبسلامة العبادة والدين، وبظروف الضرورة والإكراه .. وهي تختلف من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، ومن ظرف لآخر؛ لذا عند الحكم في أي مسألة معينة تتعلق بالهجرة لا بد من مراعاة جميع ما تقدم قبل إصدار الأحكام المتسرعة، والله تعالى أعلم .
إرسال تعليق